بعد مرور أسبوعين على إجراء أوّل انتخابات تشريعية تعدّدية في تونس، أعادت نتائجها أمل نجاح المسار الديمقراطي الذي اختارت البلاد أن تسير وفقه، وقبل أيّام معدودات من إجراء الانتخابات الرئاسية التي يعول عليها الجميع لإتمام الحلقة الثانية والأخيرة من هذا العرس الديمقراطي، عاد الإرهاب بيده الغادرة ليضرب اليوم، مثيرا بعض القلق في صفوف التونسيين بشأن سلمية المسار الذي ساروا على دربه لإنتجاح عملية التغيير في بلادهم، وإمكانية إرباكه، ممّا يرفع سقف التحديات أمام حُكّام تونس القادمين.

أعلنت وزارة الدفاع التونسية، أمس الخميس، عن وفاة عسكري خامس إثر الهجوم “الإرهابي” الذي استهدف حافلة مخصصة لنقل العسكريين وعائلاتهم في محافظة الكاف، غربي تونس، على لسان المتحدّث الرسمي باسمها، الذي أشار إلى إصابة عشرة جنود آخرين بجروح متفاوتة الخطورة.

هجوم إرهابي، جدّت أحداثه أول أمس الأربعاء، حيث باغت مسلحون حافلة عسكرية، كانت تقلّ عددا من الجنود رفقة عائلاتهم، من الخلف، بينما كانت تسير في منعرج خطير على الطريق الرابطة بين مدينتي الكاف وجندوبة (غربي تونس)، بوابل من الرصاص أدّى إلى سقوط جنود وضبّاط من رتب عسكرية مختلفة وإصابة آخرين، قبل أن يلوذوا بالفرار وتختفي آثارهم في الغابات الكثيفة المجاورة.

في هذا السياق، قال المتحدث باسم الوزارة لوسائل إعلام محلية “إنّ الحصيلة كادت تكون مرتفعة أكثر ممّا عليه الآن، إذ أنّ مسلّحين اثنين من الإرهابيين اقتربا من الحافلة بعد مباغتتها بالرصاص للإجهاض على الجرحى وكل من تبقى في الحافلة، إلّا أنّ أحد الجنود المسلحين تصدّى لهم فلاذوا بالفرار”.

هذا الهجوم الأول من نوعه الّذي يستهدف وسيلة نقل عسكرية، يأتي بعد أسبوعين من مواجهات مسلحة جرت مع جماعة إرهابيّة متحصنة بمنزل بمنطقة وادي الليل قرب العاصمة، كانت قد أدت إلى مقتل ستة عناصر من بينهم 5 نساء، عشية إجراء الانتخابات التشريعية في 26 من أكتوبر الماضي، وقبل أيّام من إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة التي بدأت حملتها مؤخرا، مما يفتح المجال أمام تواتر أسئلة عدّة حول مدى جاهزية تونس وقدرتها على حماية مسارها الديمقراطي أمام هذا الخطر الإرهابي المتنامي.

من تسبب في استفحال ظاهرة الإرهاب؟

يرى مراقبون أنّ السنوات الثلاث الماضية التي حُكمت فيها تونس من طرف “ترويكا” شكّلتها حركة النهضة رفقة حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتّل للعمل والحريّات، هي الفترة التي شهدت “تساهلا مريبا” مع التنظيمات والجماعات الدينية المتشدّدة التي تنتهج العنف وسيلة لقلب موازين الحكم لصالحها شأن تنظيم “أنصار الشريعة” المحظور.

وقد سبق، حسب ذات المراقبين، أن تراخت الدولة خلال تلك الفترة، ولم تتحمّل مسؤوليتها إزاء دعوات القتل والتكفير التي صدرت عن قادة هذه الجماعات، التي سيطرت على عدد كبير من المساجد، واستخدمت منابرها لنشر أفكارها المتطرفة والتحريض على السياسيين وكل من يخالفها في الرأي، في ظلّ صمت “غريب” من المسؤولين عن الحكم حينها. هذا الواقع دعا عددا من المتابعين إلى الإشارة إلى “وُجود تواطؤ مقصود مع هذه الجماعات من طرف قيادات حركة النهضة الحاكمة حينها، الهدف منه تخويف المواطنين من أجل إحكام السيطرة على مفاصل الدولة، وفق أجندة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي تمثله الحركة الإسلامية في تونس″، على حدّ تعبيرهم.

هذا “التواطؤ” ثبتت تجلياته، وفق رأيهم، من خلال اللقاءات العديدة التي جمعت قادة هذه التنظيمات برموز من حركة النهضة كان أبرزها، اجتماعهم برئيس الحركة راشد الغنوشي، الذي تلته تسريبات مصوّرة لما دار فيه من نقاش، أماطت اللثام، عن خطاب للغنوشي، استهجنه التونسيون حينها، قال فيه “إنّ الجيش والشرطة غير مضمونين وإنّ الجماعات السلفية مطالبة أولا بالصبر ومحاولة التمدّد في المجتمع″، في إشارة منه إلى أنه يثق في عناصر هذه الجماعات التي قال “إنهم أبناؤنا ويبشرون بثقافة جديدة”، أكثر مما يثق في أجهزة الدولة التي عبّر جوهر خطابه ذاك عن معاداتها شكلا ومضمونا، وفق ذات المراقبين.

و”التساهل” في التعامل مع ظاهرة خطيرة تهدّد بنسف المسار الديمقراطي السلمي الذي اختارته تونس لنفسها، الذي شهدته السنوات الثلاث الماضية، في ظلّ وضع إقليمي ودولي هشّ يتسم بالفوضى، يراه خبراء أمنيون بمثابة الدعم غير المباشر لتمدّد الجماعات الإرهابية، مؤكّدين أنّه السبب الأهم الذي أسهم في تغوّل هذه الجماعات وتمكّنها اليوم من تنفيذ عمليات “شبه نوعية” تستهدف الأمنيين والعسكريين وربما المدنيين العزّل لاحقا.

كيف سيتعامل الحكام الجدد مع هذه الآفة؟

يلاحق الجيش منذ أكثر من عام، جماعات مسلحة متحصنة بالجبال والمرتفعات على الحدود الغربية مع الجزائر بما في ذلك جبل الشعانبي، الذي تتمركز فيه “كتيبة عقبة ابن نافع” الذراع العسكرية لتنظيم “أنصار الشريعة”. وقد شهدت الفترة السابقة سقوط العشرات من العسكريين جراء انفجار ألغام زرعتها عناصر إرهابية وكمائن نصبها مسلحون وسط الغابات والأحراش.

المجهود العسكري الذي تبذله قوات الجيش بمعاضدة قوات الأمن والشرطة والحرس الوطني، لطالما قال خبراء في الشأن الأمني إنّه لن يؤتي أكله ولن يحقق النتائج المرجوة منه، مادامت تنقصه الإرادة السياسية الواضحة والصارمة التي من شأنها أن تدعم جهود العسكريين وتتجاوزها إلى البحث عن حلول أخرى تتعلق بمجابهة الظاهــرة ثــقافيا وفكريا.

وعلى الرغم من المجهودات التي قامت وتقوم بها حكومة التكنوقراط، التي كُلّفت بإجماع الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية الكبرى بتسيير دواليب الدولة خلفا لحكومتي الترويكا اللّتين تمّ إبعادهما عن الحكم نتيجة فشلهما في تأمين حياة المواطن التونسي من هذا الخطر المحدق (ممّا انجرّ عنه اغتيال سياسيين يساريّين هما شكري بلعيد ومحمد البراهمي على أيدي هذه العناصر المتشددة) إلاّ أنّ القضاء نهائيا على هذا الفيروس الذي وجد تربة خصبة على مدى ثلاث سنوات ليستفحل وينخر الجسد التونسي مازال بعيد المنال على ما يبدو.

بناء على ما سبق يرى ملاحظون أنّ الحكومة القادمة التي سيشكلها حزب نداء تونس العلماني صاحب الأغلبية البرلمانية، التي منحها له التونسيون في الانتخابات التشريعية بعد أن سئموا وعود حركة النهضة ووقفوا على خبايا مشروعها المرتهن إلى أجندة التنظيم الإخواني الدولي، وفق تعبيرهم، مطالبة بتحمّل مسؤوليتها كاملة في التصدي لهذا الخطر الزاحف الذي يهدد بنسف العملية السياسية برمّتها، من خلال ترتيبها على سلّم الأولويّات الراهنة التي لا تحتمل التردد أو التأخير.

في هذا السياق، يبدو أنّ حزب الباجي قائد السبسي، صاحب الحظوظ الأوفر في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وفق متابعين للشأن التونسي، قد استوعب المسألة منذ البداية وبدأ يتحضّر لها. حيث سبق لمحسن مرزوق، أحد قياديّيه، أن أكّد في تصريحات صحفية “أنّ الدولة التونسية ستكشف في المرحلة القادمة عن قدراتها الحقيقية على محاربة الإرهاب والتصدي للجماعات التي ترفع السلاح في وجه التونسيين”، في إشارة ضمنية منه إلى وجود “تقصير” من حكّام الأمس في معالجة الظاهرة، خاصة على مستوى اتّخاذ القرارات.

من المستهدف بهذا التصعيد الإرهابي؟

الثابت أنّ المستفيد الأول من تأزّم الأوضاع في تونس وتعطّل العملية السياسية برمّتها والانزياح بالبلاد عن المسار الديمقراطي الذي بدأ يعلن عن اكتمال ملامحه وسط إشادة دولية بسلامته، هي الجماعات الإرهابية ذاتها، التي طالما عرف عنها أنها تجد في الفوضى مراحا خصبا للتمدّد والتوسع شأن ما فعله تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في العراق وسوريا أو ما عملت على تطبيقه الجماعات المسلحة في ليبيا التي تشهد حالة من الفوضى والاقتتال الأهلي.

غير أنّ عددا من المراقبين يذهبون في تحليلهم إلى منحى آخر وفرضيات أخرى، يقولون إنّها تجد مبرراتها في الواقع الذي عاشته تونس في السنوات الثلاث الماضية، حيث يرى عدد منهم أنّ التصعيد الإرهابي الأخير الذي شهدته تونس، منوط رأسا بما أسفرت عنه نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة التي غيّرت الموازين في المشهد السياسي المقبل لصالح حركة نداء تونس العلمانية.

في هذا السياق، رأى المراقبون أنّ المزاعم السابقة التي ادّعى أصحابها أن حزب النداء كانت له يد في السابق في ما شهدته تونس من عمليات إرهابية بغية إفشال حكم النهضة الإسلامية وإبعادها عن الحكم، قد أثبتت بساطة أصحابها اليوم نهائيا. فالمُستهدف اليوم من خلال العملية الإرهابية التي جدّت أوّل أمس، هو استقرار تونس المرتقب بدرجة أولى، وحزب النداء الذي حقق الأغلبية البرلمانية بدرجة ثانية، ومازال ينتظر ما ستسفر عنه نتائج الرئاسية المقبلة، والتي من المرتقب أن يفوز فيها مرشّحه الباجي قائد السبسي، وفق ما أعلنت عنه نتائج عمليات سبر الآراء التي أكّدت تقدّمه على باقي المترشحين في نوايا التصويت.

والتشويش المتعمّد على المسار الديمقراطي التونسي، ربما تقصد منه الجماعات الإرهابية ومن يقف خلفها، وفق ذات التحليل، بعثرة الأوراق وإعادة ترتيبها من جديد، خاصة وقد سبق لزعيم تنظيم أنصار الشريعة المحظور المكنّى بأبي عياض، أن قال في حوار صحفي سابق (زمن حكم الترويكا وقبل فراره إلى ليبيا): “إنّ وصول نداء تونس إلى الحكم سيكون على جثثنا”.

هذا التهديد الصريح، الذي صدر عن زعيم الجماعات الإرهابية في تونس، ربما يضع بعض النقاط على الحروف، ويساهم في حلّ أحجية طالما استنفدت جهد التونسيين في الوقوف على خفاياها بما تتميز به من تشابك في المصالح وتقاطع في الأجندات. أحجية يكمن حلّها في الإجابة عن سؤال محوري تنتفي معها الضبابية المفتعلة ويختفي الغموض، هو مَنْ مِن مصلحته أن تتأزّم الأوضاع اليوم في تونس؟

*نقلا عن العرب اللندنية