يعد التعليم من أساليب الخدمة الاجتماعية المحفزة على التغيير والبناء، وانطلاقاً من هذه الثوابت ومن الرؤى الحضارية للأسس التعليمية هذه، وبالنظر الثاقب إلى وضعية الأستاذ الجامعي المغاربي، ومن خلال المتابعة البينة للواقع الذي يشهده الواقع التعليمي المغاربي، ودور الأستاذ الجامعي في إحداث التغييرات الكلية والنوعية الملموسة في الحياة الجامعية التي تبدأ من البناء الفكري للطالب والعطاء التحصيلي له إلى الكثير من الأشياء الإيجابية الظاهرة والباطنة في عقلية أبنائنا الطلبة، إلى ذلك فيمكن أن يكون الأستاذ الجامعي مساهماً ولو بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في خلق جو من التلامس الفوضوي الذي ينعكس على الطلبة، والتي نسميها في مراحل متقدمة العنف الجامعي.

وفي محاولة مني لترويض النفس من أجل الاندماج في هذا الفلك الذي يخيم على معاقلنا العلمية فقد رغبت بخوض غمار الطرح باستكشاف مواطن الضعف والإخفاق الحقيقي في صناعة الانتماء، وإسكات العنف الدفين في داخلنا وفي واقعنا الطلابي، من خلال الحديث عن واقع الأستاذ الجامعي ببلداننا المغاربية. لقد انتهجت سياستنا التعليمية المتمثلة ببعض الأساتذة في جامعاتنا إضعاف الثقة بالنفس والذات الفكرية والتعليمية لكثير من الأساتذة المبدعين، في محاولة منهم (الذين ينتهجون السياسات التعليمية) لتكريس عقدة النقص المشحونة بسمة الهزيمة المتغلغة في نفوسهم، وهي نابعة أصلاً من انهزامية وضعف متأصل في ذواتهم ناتج عن قلة الدراية، وعدم المواكبة العلمية أو المتابعة الرصينة للعلوم والمعارف، والتمركز حول الكرسي والتمترس بالمنصب، ونتيجة لتفشي هذا الشعور المرهق لديهم فإنهم يحاولون ومن خلال سلطانهم إشعار الآخرين بالدونية، في محاولة لإسقاط ما بنفوسهم من غل، والسعي لإفقاد الآخر ثقته بنفسه وبعطائه. 

وشعارهم الوحيد (أصحاب السياسات التعليمية) أنك إذا أردت أن تكون أيها الأستاذ الجديد ناجحاً ومبرزاً فإن عليك أن تكون ناجحاً في إدارة العلاقة ما بين الطلبة والمسؤول، وعليك خلق جو من التوازنات الدقيقة بين الأمرين، ولا يجوز المغامرة بأي شكل مع أي طرف، لأن الخاسر الوحيد هو أنت أيها الأستاذ. وما على المسؤول أو العميد أو رئيس الجامعة إلا التيئيس من إمكانية تغيير الموازين المزدوجة على الأرض، وفي محاولة لطمس الحق بأسلوب من الوجاهة أو الصلاحيات أو إعلاء الصوت أو غيره... إلى جانب ذلك كله فإنه سيكون للهويات الثقافية وغيرها حضور واسع في هذه العلاقة، لأنه في المحصلة هو صوغ لسياسة الحالات الاحتكارية للفكر والعمل معاً. 

هذا كله كفيل بخلق أجواء الفوضى الفكرية والنفسية لدى أستاذنا الجامعي ببلداننا المغاربية، لأنه وفي محاولة منه لتفكيك هذه العقلية ثم العمل على مسايرتها أو محاولة التجديد، وإعادة البناء، النتيجة أنك لست مقبولاً ودون جدوى... وفي المحطتين فإن الخسران الحقيقي للإبداع وهو المحطة التي دفنته وماتت دونه. وعن عمد فإن الأستاذ الجامعي في محاولة منه لاستخدام قواه لحماية مصالحه حتى لو كان مفرغاً من المضمون العلمي بل والإنساني والأخلاقي، يحاول أن يعقلن الأمور ضمن سياسة الهيمنة وسيطرة المسؤول، لأنه الوحيد القادر على التحكم، ونحن عاجزون أمامه. 

والنتيجة الحتمية لهذا عدم الأمان، وانعدام الحرية، والتمركز حول كلمات واهية عابرة هينة ومهينة، وهنا يبدأ الضعف والهوان لدى الأستاذ الجامعي، ويبدأ بالتراجع والخذلان، ثم تظهر عناوين العدوانية، وحضور بيِّن للنزعة الطاغية التي بدأت بتهديد منظومة القيم سواء الوطنية أو الدينية، لأن الأستاذ الجامعي بدأت تتحكم فيه أنانيته الذاتية، وبالتالي خرج من عباءة التفوق العلمي إلى التفوق المركزي، وهنا لا مفر من بروز الغربة الحقيقية، والانكفاء الحقيقي، لأنه في المحصلة يعيش صراعاً حقيقياً ما بين الخضوع للنزعة التسلطية، والتحدي لانتزاع حريته الشبه المفقودة، فهنا يعيش عمق الاغتراب في ظل سيطرة السلطتين. وهنا يظهر كم أستاذنا الجامعي تصرف بأقل من مكانته، وبأدنى درجات إمكانياته الفكرية والعقلية، فحدثت القطيعة البائنة بين فكر الأستاذ واستيعاب الطلبة، أو بين فكر الأستاذ وفهم الطلبة، وبالتالي أفسح المجال لبقاء الحال على ما هو عليه دون إحداث التغيير المنشود منه، بل عمَّقَ الانقسام الذي يعيش فيه في نفسه ثم في عقلية طلابه، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، بل يعطي نقيضه، فيغلب الأمن الحرية، وهيهات لانتزاعها.




كاتب صحفي من المغرب.