في الأيام التي أعقبت حملة الناتو على ليبيا التي ساعدت على الإطاحة بالرجل القوي معمر القذافي في 2011 ، تم رفع شعارات فيها الكثير من الأوهام بأن عصر الحرية قادم وأن الليبيين سيعيشون جنة على الأرض اقتصاديا وسياسيا. وهي نفس الشعارات التي رفعت يوم قتل العقيد معمّر القذافي رغم أن تلك اللحظة كانت تبشّر بمستقبل خطير على من رفعوا لواء "الثورة".

خلال تلك الفترة، كان المجتمع الدولي وقوى إقليمية شاهديْن على مرحلة من الفوضى كانا مساهميْن فيها مشاركة وصمتا وتواطؤا، سواء من خلال التصويت على القرارين الأممين المشرّعيْن للتدخل، وسواء بالمشاركة المباشرة عسكريا ثم ترك الفراغ لمجموعات الفوضى والتطرف لتكمل مسيرة التدمير التي جعلت ليبيا ساحة اقتتال انهارت على إثرها كل المؤسسات.

بعد تسع سنوات، الصورة بادية للجميع. لا شيء مما رفع تحقق وتبدو الأمم المتحدة وكل المتدخلين الغربيين عاجزون عن إيجاد مخرج للأزمة، وسط معاناة كبرى للمدنيين، حيث نزح خلال تلك السنوات حوالي 350.000 شخص داخل البلاد.

وينقسم الطيف السياسي والعسكري "الرسمي" اليوم إلى قسمين، والبلاد تعيش حالة أشبه بالحرب الأهلية التي يرى كل واحد فيها أنه صاحب الشرعية والوطنيّة. فالجيش يسعى إلى فرض القوة لبسط الأمن وقد بدأ بالفعل مشروعه منذ العام 2014، ونجح في جزء كبير من البلاد لولا تطورات الأيام الأخيرة التي خرجت من يد الداخل نحو مسارات إقليمية ودولية غيرت المعادلة. أما حكومة الوفاق فقد احتمت بما تسمى الشرعية الدولية التي تضع نفسها عبرها ممثلا للشعب الليبي دون صناديق.

اليوم والأزمة في عمقها، تلحق الطرفين اتهامات بالانخراط في خيارات خارجية، لكن كل منهما يسعى لتبرير خياراته، الجيش اليوم يبني أحلافه مع مصر باعتبارها البلد العربي المعني بكل تطور أمني على حدوده إضافة إلى نفوذها القومي. والوفاق اختارت التحالف مع الأتراك الحالمين بمجد عثماني لا فرصة لهم في تحقيقه خارج حكومة خاضعة تماما لتيارات الإسلام السياسي، حيث أبرم السراج اتفاقيات تعتبر قاسية على الليبيين بالنظر الى نقاط قد تعتبر انتهاكا للسيادة، وهي نقطة أفاضت كأس الخلافات وعمقتها وتنذر اليوم بسببها بحرب لا تعرف نتائجها على الليبيين.

ووسط هذه المخاضات مازالت تركيا ترسل فرقتها الخاصة التي تضم عدة آلاف من المرتزقة السوريين، بالإضافة إلى الطائرات المسيرة المدرعة وأنظمة الدفاع الجوي المتطورة التي كان لها الدور في تغيير  سير المعارك بعد أن كان الجيش على أبواب طرابلس لتطهيرها من المسلحين. ففي آخر إفادة إعلامية للناطق الرسمي باسم الجيش أحمد المسماري، أكد أن مطار مصراتة مازال يستقبل المعدات العسكرية، منها منصات للدفاع الجوي ورادارات مراقبة بالإضافة إلى عشرات المرتزقة.

وإلى جانب تركيا تدعم قطر حكومة الوفاق وجحافل المرتزقة القادمين من تركيا في إطار نفس المشروع الهادف إلى فرض الإخوان المسلمين كقوة نفوذ في طرابلس، لأن إزاحة الإخوان من اللعبة الليبية يعني أن الدولتين خسرتا موطئ قدم يوفر لهما امتيازات في علاقة بالاقتصاد والسياسة.

الجانب الأوروبي الشرقي منه والغربي، بدوره لا يعيش انسجاما في علاقة بليبيا، فإيطاليا اليوم قريبة بدورها من السراج والعلاقة بينهما تبدو منسجمة وهذا مفهوم بالنسبة إلى الإيطاليين الطامعين دائما في الكنز الليبي والمتخوفين أيضا من خسرانه وسط منافسة فرنسية على نفس الأهداف، خاصة أن باريس تريد نيل حصتها من الامتيازات الليبية.

اليونان وقبرص أيضا صعد اسمهما في الأشهر الأخيرة، بعد الاتفاقية التي أبرمها السراج والتي يعتبرها البلدان تهديدا لمياههما الإقليمية ليس اقتصاديا فقط بل حتى أمنيا في ظل تعنت تركي وغرور قد لا تكون نتائجه إيجابية على نظام أردوغان ومستقبله السياسي حتى في بلاده.

وبالإضافة إلى الدول الآنفة هناك أيضا قوى أخرى مثل الولايات المتحدة وروسيا اللتين تتتصارعان بشكل غير مباشر على النفوذ في ليبيا، حيث بدأت واشنطن في الفترة الأخيرة ترسل إشارات حول تدخل روسي في الأزمة، وبدأت مناورتها في ذلك من خلال بعض الاتهامات حول وجود معدات عسكرية روسية في ليبيا، كما اجتمع سفيرها وقائد الأفريكوم بالسراج في رسالة لموسكو أنها قد تكون مقابلة لها في صراع النفوذ، رغم أن علاقة واشنطن مع تركيا في أزمة المتوسط لا تبدو في أفضل حالها.