زيارة مفاجئة لرئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، إلى العاصمة الليبية طرابلس على رأس وفد إيطالي يتقدمه وزير الخارجية أنطونيو تاياني، طرحت تساؤلات كثيرة حول أسباب الزيارة والتوقيت وسر الاهتمام الايطالي بالملف الليبي، والأهم من ذلك الملفات التي ستطرح خلال لقاء ميلوني مع المسؤولين الليبيين.

ومثلت زيارة ميلوني، منذ اعلانها تململا في الشارع الليبي، فحزب "إخوة إيطاليا" اليميني المتطرف، الذي تتزعمه ميلوني، يعتبر معسكر "الفاشية الجديدة"، وهو ما يعيد الى أذهان الليبيين المجازر التي ارتكبت في بلادهم أثناء فترة الاستعمار الإيطالي الفاشي.

اتفاق "تاريخي" 

الاتفاق الذي أبرمته، حكومة الوحدة الليبية المؤقتة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، تم عن طريق المؤسسة الوطنية للنفط الليبية، فيما مثل الجانب الايطالي، شركة النفط الإيطالية العملاقة "إيني"، وتبلغ قيمة االصفقة 8 مليارات دولار، وتتمحور حول تطوير حقول غاز تقترب احتياطياتها من 6 تريليونات قدم مكعبة وطاقة إنتاجية تتراوح بين 750 و800 مليون قدم مكعبة يومياً لفترة تناهز 25 عاماً.

وتعتبر هذه الاتفاقية من بين أكبر الاستثمارات، في قطاع المحروقات الليبي منذ سنة 2011، وتأتي في وقت شهد فيه القطاع الحيوي في ليبيا انتعاشة ملحوظة خلال الأشهر الأخيرة. رئيس مجلس إدارة "إيني" كلاوديو ديسكالزي، وصف الإتفاقية بانها "تاريخية"، مشيرا الى إنه "أول مشروع كبير" من نوعه في ليبيا منذ ما بين 20 و25 عاما.

وسيبدأ إنتاج الغاز في الاتفاقية الجديدة، في عام 2026، وسيبلغ ذروته عند 750 مليون قدم مكعب من الغاز يوما، وفق "إيني".فيما قالت المؤسسة الليبية للنفط، في بيان، إن الاتفاقية ستدر 13 مليار دولار من العائدات لليبيا.واكدت أن الاكتشافات المنجزة على مدى السنوات الأربع الماضية، يمكن أن ترفع إنتاج الغاز إلى أكثر من 4 مليارات قدم مكعب.

غموض 

بدا الاتفاق غامضا ومريبا خاصة في ظل غياب محمد عون، وزير النفط والغاز بحكومة الدبيبة، وه الغياب الذي أثار الشكوك حول ماهية الاتفاق والغرض منه وجدواه بالنسبة للاقتصاد الليبي.فكيف يمكن أن يتغيب وزير النفط والغاز، عن محادثات وتوقيع اتفاقيات تهم القطاع الذي يشرف على وزارته مع دولة أخرى.

الوزير الليبي، أكد في مقطع فيديو على الموقع الالكتروني للوزارة، أنه لا علم لديه بموافقة مجلس الوزراء على الاتفاقية، وإذا نوقشت القضية في غيابه فهو إجراء باطل.وهاجم عون، رئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة، متهماً إياه بأنه يفرط في ثروة الدولة الليبية وفي مكتسبات تم الحصول عليها بعد مفاوضات مريرة.

غياب وزير النفط عن الاتفاقية وعدم علمه بالمباحثات ليس نقطة الغموض الوحيدة، بل ان الغموض اثير حول بنود الاتفاق ومدى أهميتة لليبيا.حكومة الوحدة برئاسة الدبيبة، هللت بالاتفاق معتبرة اياه صفقة كبيرة ومهمة للبلاد، فيما شدد رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، فرحات بن قدارة، على أن هذه الاتفاقية ستمكن من استثمارات لم تشهدها ليبيا منذ ربع قرن.

وأكد بن قدارة، في مؤتمر صحافي، على أن بنود الاتفاق كانت منصفة للطرفين وهي في مصلحة ليبيا وشريكتها الاستراتيجية (إيني)، مشيرا إلى أن مراسم توقيع الاتفاقية مع ايني دليل على أن قطاع النفط في ليبيا خال من المخاطر وسينهض من جديد للمنافسة بقوة، مؤكدا على ضرورة عودة الشركات النفطية العالمية لممارسة نشاطها بصورة سريعة وفقا لإعلان رفع القوى القاهرة في ديسمبر من العام 2022.

لكن الاتفاقية رفعت حصة الشريك الأجنبي وهو شركة "ايني" الايطالية من 30 في المائة إلى 37 في المائة، وهو الأمر الذي يثير الشكوك حول الحديث عن مصلحة ليبيا.وكانت وزارة النفط، استبقت توقيع الاتفاقية مع إيطاليا، ونصحت "بعدم إجراء أي تعديل على اتفاقيات مستقرة"، ورأت أن ذلك "قد يفتح الباب أمام مطالب أخرى بالتعديل لحصص الإنتاج مع الشركاء الآخرين، بما سيربك النمط التعاقدي الليبي".

من جانبه، اكد رئيس الحكومة المكلفة من البرلمان فتحي باشاغا، أن الاتفاقية المزمع توقيعها "غامضة"، وتقضي بزيادة حصة الشريك الأجنبي وتقليص حصة الشريك الوطني في شركة مليتة للنفط والغاز.واشار الى أن حكومة الدبيبة غير مؤهلة لتوقيع أي اتفاقات أو مذكرات تفاهم طبقًا لنص المادة 10 من الاتفاق السياسي، مؤكدا أن الدولة الليبية لن تلتزم بأي اتفاقات أو مذكرات تفاهم مشبوهة الغرض والمآلات.

مصلحة الدبيبة وأطماع ايطاليا

يسعى الدبيبة الى حشد الدعم الدولي لحكومته في مواجهة مناوئيه وخاصة منافسه المباشر رئيس الحكومة المكلف من البرلمان فتحي باشاغا.وخلال الفترة الماضية، سعى الى التحرك على أكثر من جهة في محاولة لاستقطاب داعمين اقليميين ودوليين، فمن توقيع اتفاقيات مع تركيا، الى تسليم المواطن أبو عجيلة مسعود لأمريكا استرضاءا لادارة بايدن، وتحركاته في دول الجوار الجزائر وتونس وصولا الى اتفاقية النفط مع إيطاليا.

وفي المقابل، تحاول ايطاليا استغلال الوضع السياسي المعقد في ليبيا، وحالة الضعف والانقسامات التي تشهدها البلاد، لانقاذ نفسها وتحقيق مكاسب هامة، خاصة في ظل الازمة الكبيرة التي تعانيها دول اوروبا جراء معظلة الطاقة، خاصة مع تزايد الطلب على الغاز، بعد انخفاض الإمدادات من روسيا بسبب الصراع المستمر في أوكرانيا.

ومن شأن هذه الصفقة دعم الاقتصاد الإيطالي، وتدعيم مكانتها في مجالها الأوروبي الذي يعاني ضغوطات هائلة على مصادر الطاقة بسبب الموقف الروسي.وتعتبر هذه الخطوة تماشيا مع مساعي روما لقيادة استراتيجية تنموية جديدة في أوروبا، أعلنت عن ملامحها في فترة سابقة من خلال "خطة ماتي" التي أطلقتها رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، والتي تهدف إلى تعميق العلاقات السياسية والطاقة بين إيطاليا والقارة الإفريقية.

هل تمرّ الاتفاقية؟

لا يبدو الأمر سهلا، فهناك غضب رسمي من عدة أطراف مناوئة لحكومة الدبيبة، وحتى من داخل حكومته أيضا للاتفاقية، ناهيك عن الغضب الشعبي والرفض الواسع للاتفاقية.فعلى المستوى الرسمي، سيتجه رافضو الاتفاق للقضاء لالغائه، وهو ما أكده رئيس الحكومة المكلف فتحي باشاغا، قائلا "سنلجأ للقضاء الوطني الذي أبطل في أكثر من مناسبة اتفاقات غير مشروعة.

ويعتبر مراقبون، أن الطعن في الاتفاقية المبرمة مع ايطاليا أمام القضاء، سيكون قانونيا خاصة أن بنود الاتفاق السياسي تمنع الدبيبة من توقيع مثل هذه الاتفاقيات، ويشير هؤلاء الى أن الحكومة المنتهية الولاية، غير مخولة بتوقيع الاتفاقيات وعقد الصفقات، لأنها حكومة مؤقتة بصلاحيات محدودة تتعلق بالتمهيد للانتخابات.

من جهة أخرى، تواجه الاتفاقية غضبا شعبيا قد تتبعه تحركات في المرحلة القادمة، وهو الامر الذي أكده نائب رئيس المجلس الأعلى لقبائل ليبيا السنوسي الحليق، باعلانه أن المجلس سيتخذ "خطوات تصعيدية خلال الأيام المقبلة" منها إغلاق الحقول النفطية والموانئ وخطوط إمداد الغاز إلى إيطاليا في كامل المناطق الواقعة في سرت وفي الجنوب الشرقي للبلاد.

ووصف الحليق، في مقابلة مع وكالة "سبوتنيك" الروسية، الاتفاق بأنه "غير قانوني وغير شرعي"، مؤكدا إنه أضاع حقوق الليبيين، واعتبره "إهدارا للمال العام".واشار الحليق الى أن "الاحتقان في الشارع وصل إلى درجة غير مسبوقة"، مؤكدا أن "القبائل الليبية في الشرق تعتزم تصعيد الأمور لدرجة كبيرة، خاصة أن جميع أموال النفط تتحكم فيها أياد غير آمنة".

وينظر الليبيون، بعين الشك إلى كل أشكال الوجود الإيطالي في ليبيا، والنوايا الحقيقية التي تكمن وراءه، حيث تشكل التدخلات الايطالية ومحاولات تدعيم وجودها في البلاد، استفزازاً لمشاعر الليبيين الذين لازالت ذاكرتهم تحتفظ بما تعرض له آباؤهم وأجدادهم من ويلات خلال حقبة احتلال ايطاليا الفاشية لليبيا.