عاشت ليبيا منذ العام 2011، وضعا صعبا على جميع الأصعدة سياسيا وعسكريا واقتصاديا، ورغم محاولات الوصول إلى إرساء الاستقرار في هذا البلد الممزق، فإن هذا الأمر كان يزداد صعوبة في ظل تواصل مسلسل الفوضى التي ألقت بالبلاد في أحضان الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية.ومثلت الفوضى التي باتت السمة الأبرز في المشهد الليبي،احدى أبرز ذرائع مختلف القوى الدولية للتواجد على الأراضي الليبية.وبدت إيطاليا،التي تخشى تهميش دورها في مستعمرتها القديمة،مصرة على التواجد بقوة تحت ذريعة الجهود الساعية إلى حل الأزمة العصية والوصول بالبلد الممزق إلى حالة من التوافق ترسخ السلام والأمن فيه.

وشهدت العلاقات الايطالية الليبية أوجها في عهد الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الحليف والصديق المقرب من رئيس الحكومة الإيطالية آنذاك سيلفيو برلسكوني، فقد تمكن الأخير خلال سنوات حكمه على مدى 4 ولايات، من تأمين طائفة واسعة من المصالح السياسية والاقتصادية الإيطالية في ليبيا من خلال صيغة تعامل خاصة مع القذافي الذي كان يُستقبل في روما بحفاوة بالغة، ووصفه برلسكوني بـ "صديقي الرائع.

ووفقاً لذلك سُويّت بعض المشاكل العالقة بين روما وطرابلس، من قبيل قضية التعويضات الإيطالية لليبيا عن فترة الاحتلال (1911 - 1945)، وتسوية أزمة الديون الليبية للشركات الإيطالية. وكانت روما الضامن الفعلي لطرابلس حين تم الترحيب بليبيا بحذر في المجتمع الدولي بعد عزلة جراء العقوبات التي فرضت عليها عام 1992،وكانت روما إحدى بوابات عودة ليبيا للمجتمع الدولي التي بدأت تدريجيًا 2003.


وفي مارس 2011،تدخلت قوات الناتو مدعومة من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا لإسقاط نظام العقيد الراحل معمر القذافي واغتيال الاستقرار والأمن في هذا البلد العربي الغني بموارد الطاقة النفط والغاز.وباتت المصالح الإيطالية الحيوية في ليبيا في دائرة الخطر،وما لبث هذا الوضع أن أرغم روما على التدخل في القتال، بعد تعليق معاهدة الصداقة التي وقّعت عام 2008، والتي حظرت استخدام القواعد الإيطالية في أي عمل عسكري ضد ليبيا.

وعقب رحيل القذافي،تخلى الغرب عن ليبيا تاركاً فراغاً أمنياً، سمح بانتشار الجماعات المتطرفة التي تمكنت من السطو على مخازن السلاح التابعة للجيش الليبي، كما سيطرت على مدن بأكملها وفرضت على السكان قوانينها ورؤيتها المتطرفة، ووضع الليبيين أمام تحديات الانقسام وتصاعد النعرات، حتى أصبحت ليبيا تمثل تهديداً على المنطقة وأوروبا والمجتمع الدولي.

ومثل إعلان قيام إمارة إرهابية فيها صيف 2014ضربة موجعة لصناع القرار في إيطاليا، فشعرت البلاد التي تملك نحو 8 آلاف كيلومتر من السواحل المفتوحة على المتوسط، بأنها في بؤرة النار المشتعلة. كما أن موقف شركائها الأوروبيين الذين تركوها تواجه نزف الهجرة غير الشرعية وحدها ومن دون اكتراث، أضاف بعض المرارة لدى الإيطاليين.

ومع ذلك، ظلت السياسة الإيطالية مترددة ونزعت أكثر إلى التعويل على الدور الأممي لمواجهة الإرهاب في هذا البلد أو التوسط لتسوية الأزمة بين المتنازعين، وفق ما ذهب إليه رئيس الوزراء السابق ماتيو رينزي في تصريحاته.لكن بات من الصعب استمرار التردد الإيطالي، في ظل تنافس قوى إقليمية ودولية على النفوذ المباشر في الداخل الليبي وتضرر تدفقات النفط والغاز والشراكات الاقتصادية والاستثمارية بفعل عدم الاستقرار.

كما أن خطر الارهاب بات يدق باب أوروبا على غرار حالة أنيس العامري الذي تورط في حالة دهس في ألمانيا في ديسمبر 2016، ليٌقتل لاحقا في تبادل لإطلاق النار مع شرطة ميلانو.واللافت أن العامري كان قد سجن في إيطاليا ما بين 2011 و2015 لإضرامه النار في مركز للاجئين، وأفرج عنه ليتوجه إلى ألمانيا بعد أن رفضت تونس تسلمه، علما بأن الأخيرة تملك جالية كبيرة في إيطاليا.

ومثلت تلك الحادثة تحديا كبيرا لإيطاليا لجهة اختلاط الإرهاب بالهجرة غير الشرعية في شمال أفريقيا التي تمثل ظهيرا جيوسياسيا للدولة الإيطالية في جنوب وغرب المتوسط. وازدادت وطأة ذلك مع استقبال إيطاليا قرابة 180 ألف مهاجر عبروا البحر المتوسط بمساعدة شبكات تهريب محلية في ليبيا خلال العام 2016.


** إيطاليا تدخل مباشرة الى الملعب الليبي: 


ومع ثقل التهديد للمصالح الإيطالية القادمة من ليبيا، تحركت روما للتدخل الأمامي المباشر في هذا البلد. وبرز دورها عندما راهنت على اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015، وحشدت لدخول حكومة الوفاق الوطني إلى طرابلس في مارس 2016، برغم عدم نيل الأخيرة لثقة مجلس النواب في الشرق. وكان وزير خارجية إيطاليا آنذاك باولو جنتيلوني أول مسؤول غربي يلتقي السراج في روما في إبريل 2015.

وعلى ضوء معطيات كثيرة بدا أن إيطاليا تركز أدوارها الأمامية في ليبيا على منطقتي الغرب (تدفق الغاز) والجنوب الليبي (تدفق الهجرة)، باعتبارهما الأكثر ملامسة لمصالحها الأمنية والاقتصادية والسياسية.ولم تتخل عن دورها اللوجستي للعمليات العسكرية الغربية في ليبيا، كما الحال مع توصل روما إلى اتفاق مع الولايات المتحدة في يناير 2016 يقضي باستخدام قاعدة سيجونيلا في صقلية لإقلاع الطائرات الأميركية لمواجهة داعش، إلا أن الحكومة الإيطالية أعلنت عن نشر قوة عسكرية في مصراتة غربي ليبيا في أكتوبر من العام نفسه لأغراض إنسانية لمعالجة جرحى المعارك التي كانت تخوضها آنذاك قوات البنيان المرصوص الموالية لحكومة الوفاق ضد داعش في سرت.

ولأنهم يدركون حساسية الليبيين تجاه أي قوات إيطالية، حرص الإيطاليون على تبرير ذلك بأنه جاء بناء على طلب حكومة السراج، لكن الأمر عرّض روما لعاصفة انتقادات انطلقت سواء من حكومة شرق ليبيا ومجلس النواب والمشير خليفة حفتر، بل ومن حكومة الانقاذ الوطني السابقة التي كانت تنافس السراج في طرابلس.


ولم تعبأ إيطاليا بتلك الانتقادات ومضت باتجاه تفعيل رهاناتها على حكومة الوفاق،لا سيما مع توقيع مذكرة تفاهم مع رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج في فبراير 2017، لتعزيز مكافحة الهجرة غير الشرعية، وتنص على إقامة مخيمات لاستقبال المهاجرين وحضهم على العودة إلى بلادهم، إذا لم تنطبق عليهم صفة اللاجئين، في المقابل، تتعهد روما بتدريب لحرس الحدود الليبي.

وبالتزامن مع وجودها غربا تمددت روما أكثر في الجنوب الليبي مع تلقيها دعما من منظمة سانت إيجيدو الكاثوليكية التي تدخلت بدورها في الوساطة المحلية بالمنطقة، إذ رعت إعلانا مشتركا في 18 إبريل 2016 بين ممثلي الطوارق (الحراك الوطني لشباب الطوارق) والتبو (المجلس الأعلى لثوار قبائل التبو) في الجنوب الليبي بعد مفاوضات في روما لدعم حكومة الوفاق، بل إن سانت إيجيدو لعبت دورا في عقد اتفاق للمصالحة في 8 ديسمبر 2016 بين مصراتة والزنتان بعد استضافة ممثلين لهما في روما

وفي أغسطس 2017،وتحت ذريعة كبح جماح المهاجرين عبر البحر الأبيض المتوسط،أقر البرلمان الإيطالي خطة للتدخل العسكري في المياه الليبية بناء على طلب من رئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراج،لكن هذه الخطوة قوبلت بردود فعل منددة وغاضبة في الأوساط الليبية التي اعتبرته انتهاكا للسيادة الليبية.

خطوة السراج جاءت بعد اللقاء الذي جمعه بالمشير خليفة حفتر في باريس تحت رعاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والذي جرى خلاله التوافق على إجراء انتخابات في ربيع عام 2018 ووقف إطلاق النار، والتأكيد على اتفاق الصخيرات الموقع في المغرب في كانون الأول/ديسمبر 2015 برعاية الأمم المتحدة.لكن إيطاليا التي أبدت بعض الانزعاج من المبادرة الفرنسية دخلت في حسابات السرّاج من خلال من بوابة الحدّ من سيل المهاجرين من الشواطئ الليبية.

ورغم التفاؤل الذي رافق اللقاء الذي جمع بين الطرفين في باريس وبوادر انفرج الأزمة الليبية،إلا أن التدخل الايطالي،مهد لخلط الأوراق الليبية من جديد والعودة الى المربع الأول.وبدأ هذا فعليا من خلال اصدار المشير خليفة حفتر أوامره لسلاحي الجوّ والبحرية التابعين لقوات الجيش بالتصدي لأي قطع بحرية إيطالية لا تملك تصاريح دخول رسمية وتنتهك حرمة السيادة الليبية.وهو ما اعتبره مراقبون إنتزاع لأي اعتراف بصلاحيات فائز السرّاج وتوتر في العلاقة بين الطرفين بعد أن مهمد لقاء باريس لامكانية حدوث شراكة بينهما.

** انقسام ورفض لعودة "الاستعمار الإيطالي": 

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد،فالتدخل الايطالي في ليبيا جعل السراج في مواجهة غضب وتنديد شعبي واسع،تجلى في خروج مضاهرات حاشدة في عدد من مدن الشرق الليبي تحت شعار "لا للتدخل الإيطالي" وذلك تنديدا بدخول البوارج الحربية الإيطالية الى مدينة طرابلس.وأكد المتظاهرون بمساندتهم للجيش والشرطة وبناء مؤسسات الدولة ومحاربة للإرهاب ، مجددين دعمهم لقوات الجيش في حربها على الإرهاب.

ولم تقتصر المضاهرات على مدن الشرق الليبي،فقد شهدت طرابلس أيضا، الجمعة 04 أغسطس 2017،خروج عدد من المواطنين للتعبير عن رفضهم لهذا التدخل الأجنبي الذي اعتبروه عودة للاستعمار من جديدمظاهرة رفضا للتدخل العسكري الإيطالي ليبيا.ورفع  المتظاهرون  عديد اللافتات التي تطالب بعدم السماح بالتدخل الأجنبي وعدم الموافقة على أن تكون ليبيا مستعمرة ايطالية مرة أخرى.

وفي مقابل الغضب الذي ساد الأوساط الليبية،تجاهلت ايطاليا كل هذه الاعتراضات والاحتجاجات، حيث أنكرت السفارة الإيطالية في طرابلس وجود مظاهرات كبرى جابت أنحاء العاصمة.وقالت السفارة فى تدوينة أثارت جدلاً واسعاً :"يحاول البعض الترويج لمظاهرات كبيرة غير موجودة في طرابلس ، إن إيطاليا عاقدة العزم على مساعدة الشعب الليبي للخروج من أزمته، ولا نلتفت لمن يريد استمرار الفوضى.

وبدورها اعتبرت غالبية الصحف و المواقع الإخبارية الايطالية،أن المظاهرات التي خرجت فى طرابلس و عدد من المدن و أُحرق فيها العلم الايطالي،مجرد تعبير عن شعور ليبي متزايد بالكراهية تجاه بلادهم نتيجة حقبة الاستعمار والغموض الذي أحاط بالعملية بعد إعلان طلب السراج بخصوصها.


** عقود ومساعي ميدانية وسياسية: 

ولم تكتفي إيطاليا بالإتفاقيات مع حكومة الوفاق،بل سعت إلى إبرام صفقات مع ميليشيات تهريب البشر فى ليبيا.حيث كشفت تقارير غربية، أبرزها صحيفة "كورييري ديلا سيرا" الإيطالية، عن عقد السلطات الإيطالية اتفاق مع أنس الدباشي،زعيم  ميليشيا "العمو" أكبر ميلشيا رئيسية في الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين إلى أوروبا، صفقة، تتضمن مكافحة قواته لقوارب الهجرة غير الشرعية المنطلقة من مدينة صبراتة، وإنشاء مركز إيواء بالمدينة، مقابل تقديم دعم مالي إيطالي يقدر بخمسة ملايين يورو.

وفي نهاية مايو /أيار 2018،رعت باريس اتفاقاً غير مكتوب بين الفرقاء الليبيين، ينص على إقامة انتخابات برلمانية ورئاسية، وتعهدت كل الأطراف بقبول نتائج الانتخابات، والمساعدة في عملية دعمها، مع توفير المتطلبات الأمنية لحماية العملية الانتخابية.وجمع مؤتمر باريس أطراف الأزمة الرئيسية الأربعة، وذلك لأول مرة على طاولة المفاوضات، وهم القائد العام للقوات المسلحة المشير خليفة حفتر ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح،ورئيس حكومة الوفاق فائز السراج،و خالد المشري رئيس مجلس الدولة الأعلى.

ومن خلال هذا المؤتمر سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إعادة الدور الفرنسي في المنطقة وتسجيل نقاط على حساب باقي الأطراف المتدخلة في الشأن الليبي، وذلك لضمان موطئ قدم واضح وثابت على مستوى الملف الليبي، كما أن باريس تسعى من خلال هذا الملف إلى العودة لشمال إفريقيا والإمساك بزمام الأمور هناك بعد أن غابت سنوات عنها واستعادة دور فقدته في المنطقة.

هذا التحرك الفرنسي مثل تحديا لايطاليا التي سارعت للرد عليه،من خلال تجديد دعمها لحكومة الوفاق، التي يترأسها فائز السراج، إثر زيارة مفاجئة قام بها وزير خارجيتها انزو ميلانسيزي إلى العاصمة الليبية طرابلس،في أول زيارة للوزير خارج إيطاليا بعد توليه منصبه،حيث قال الوزير الإيطالي، إن "اختياره لليبيا كأول زيارة له خارج إيطاليا بعد استلامه لمنصبه هو دلالة على أن الملف الليبي يتصدر قائمة ملفات السياسة الخارجية لإيطاليا.

وأضاف الوزير الإيطالي،خلال لقائه رئيس المجلس الاستشاري للدولة خالد المشري،أن "بلاده ترفض التعامل مع المؤسسات الموازية وتدعم الحكومة الشرعية المتمثلة في حكومة الوفاق الوطني، وأنها حريصة على وحدة المؤسسات الليبية، على وجه الخصوص المؤسسة الوطنية للنفط، مضيفا أن إيطاليا تتطلع إلى زيادة التعاون الاقتصادي مع ليبيا والتعجيل بإعادة تدوير عجلة الاقتصاد".


** تنافس إيطالي فرنسي في الملعب الليبي: 

وتحولت حرب النفوذ بين إيطاليا وفرنسا في ليبيا إلى حرب علنية منذ اجتماع باريس.ونقلت صحيفة "الجورنال" الإيطالية،تحذيرات  وزيرة الدفاع الإيطالية، إليزابيتا ترينتا، السلطات الفرنسية من تدخلها في الشأن الليبي مؤكدة أن بلادها هي الدولة القادرة على قيادة الدولة الليبية وأن القيادة بيد "إيطاليا" فيما يتعلق بالحالة الليبية.وقالت الصحيفة إن الوزيرة الإيطالية قالت لنظيرتها الفرنسية، فلورنس بارلي، على هامش الاجتماع الوزاري بمقر الناتو في بروكسل: "لنكن واضحين.. القيادة في ليبيا لنا".

وشهدت العلاقات بين إيطاليا والجيش الليبي توترا كبيرا، حيث اتخذت روما، الدولة المستعمرة القديمة لليبيا، موقفًا مساندًا لحكومة الوفاق وميليشيات طرابلس، ورافضًا لإجراء الانتخابات في الموعد الذي حددته المبادرة الفرنسية والأمم المتحدة، في شهر كانون الأول /ديسمبر من العام 2018، فيما أدان الجيش الوطني التدخلات الإيطالية في الشأن الليبي، ما أحدث أزمة وتصادمًا بين الطرفين.

وكان السفير الايطالي جوزيبي بيروني، قد رفض في مقابلة أذيعت على قناة ليبيا إجراء إنتخابات في ليبيا بأي ثمن ومهما كانت التكلفة قبل تهيئة الظروف المناسبة، مدعيا أن هناك أطرافا تسعى للتسريع من موعد الانتخابات للاستيلاء على السلطة.وردا على ذلك، أكد المشير خليفة حفتر، القائد العام للقوات المسلحة الليبية، أنه ليس من حق السفير الإيطالي وأي مسؤول أجنبي أن يتدخل في مسألة تخص الانتخابات وشؤون الليبين بشكل عام.

هذا الموقف الايطالي سرعان ما بدأ في التغير في ظل النجاحات التي حققها الجيش الوطني الليبي في شرق البلاد وتحريره لمنطقة الهلال النفطي وهو ما مثل تغيرا كبيرا في ميزان القوى في البلاد.وحضي الجيش الليبي في ظل هذه الإنتصارات بترحيب وثقة كبيرة، كما حظي باعتراف دولي وإقليمي بدوره المحوري في أي حل مستقبلي.

ومارست روما انفتاحا تدريجيا على المشير خليفة حفتر. وتعززت مؤشرات الانفتاح الإيطالي على الشرق مع مشاركة روما في إجلاء جرحى للجيش الوطني الليبي من قاعدة بنينة في بنغازي في إبريل 2017، إضافة إلى إبداء السفارة الإيطالية لرغبتها في افتتاح قنصلية لها في بنغازي لتسهيل سفر المواطنين لها في مسعى للتوازن مع خطوة إعادة فتح سفارة روما في طرابلس في يناير 2017.



** مؤتمر باليرمو ..الفشل في إعادة الملف الليبي إلى روما: 

وتزايدت محاولات ايطاليا التقرب من الجيش الليبي من خلال مؤتمر باليرمو الذي انعقد يومي 12 و13 نوفمبر 2018،وجا ردا على مؤتمر باريس.حيث بذلت الدبلوماسية الإيطالية جهودًا كبيرة لكسب ود المشير خليفة حفتر، فقد زاره في بنغازي وزير الخارجية إينزو موافيرو ميلانيزي ومسؤولون آخرون، ووجهت له دعوة رسمية لزيارة روما التقى خلالها رئيس الوزراء جوزيبي كونتي؛ لبحث ترتيبات مؤتمر باليرمو.

هذا المؤتمر وجه فيه القائد العام للجيش الليبي المشير خليفة حفتر صفعة قوية للنفوذ التركي-القطري في ليبيا،حين اشترط عدم حضور كل من تركيا وقطر في "الاجتماع المصغّر" الذي عقد على هامش المؤتمر الأصلي باليرمو.ومثل قبول ايطاليا بشروط حفتر، وإبعاد تركيا من هذه القمّة سببا في انسحاب المندوب التركي فؤاد أقطاي وإصدار بيان قال فيه: "نعلن انسحاب تركيا من المؤتمر بخيبة أمل عميقة. للأسف لم يتمكن المجتمع الدولي من التوحد هذا الصباح.

وكان الحضور القطري في المؤتمر باهتًا حيث ظهر وزير الخارجية القطري في الصورة الجماعيّة الختامية للمؤتمر بشكل طرفي على أقصى اليسار، ولم تتحدّث التقارير الإعلاميّة عن أي نشاط لوزير الخارجية القطري خلال المؤتمر أو تقديمه لأي مواقف أو مقترحات.في حين اكتفت وسائل الإعلام القطريّة الرسميّة برقيات رسميّة عن لقاءات هذا الأخير مع كل من غسان سلامة وفائز السراج ورئيس مجلس الدّولة خالد المشري، بصياغات رسميّة ولغة ديبلوماسية.

وفي الرابع من أبريل/نيسان 2019،كانت ليبيا على موعد مع حدث مفصلي في تاريخها حيث أطلق الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر عملية عسكرية تحت مسمى "طوفان الكرامة" بهدف تحرير العاصمة الليبية طرابلس،أين تستقر حكومة الوفاق التي سارعت للتحالف مع المليشيات الموالية لها وأخرى كانت تتصارع معها حتى وقت قريب بهدف التصدي لتقدم الجيش الليبي.ودخلت على خط الأحداث دول داعمة للمليشيات على رأسها تركيا وقطر اللتين سارعتا لدعم المتطرفين في طابلس والذين يمثلون ذراع هذه الدول لنهب ثروات البلاد وتمرير أجنداتهم في المنطقة عموما.

حرّكت معركة طرابلس، الصراع القائم بين فرنسا وإيطاليا على ليبيا،خاصة وأن فرنسا، التي تمتلك أصولا نفطية كبيرة في شرق ليبيا تجريها شركة "توتال"،تدعم قوات الجيش الليبي بقيادة المشير القوّي خليفة حفتر، بينما تساند إيطاليا، اللاعب الرئيسي في قطاع النفط بليبيا، المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، وتتواجد لها قوّات عسكرية في مدينة مصراتة، غرب ليبيا.

واتهمت روما باريس، بالتورط في المواجهات العسكرية في ليبيا من أجل مصالحها الاقتصادية، وقال نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، إنه لن "يقف متفرجاً إن كان هناك من يمارس لعبة الحرب لأجل المصالح في ليبيا".وأضاف الوزير سالفيني في تصريحات إذاعية الخميس 11 أبريل/نيسان 2019، أنه "إذا كان شخص ما يحاول ممارسة لعبة الحرب معنا، فقد وجد الحكومة الخطأ، ووجد الوزير الخطأ معي أيضاً".

وبدت تصريحات الوزير الايطالي بمثابة تهديدات بامكانية التدخل العسكري في ليبيا،لكن نائب رئيس الوزراء الإيطالي، لويجي دي مايو سارع بالرد على سالفيني قائلا "إن إيطاليا ليس لديها أي نية لاستخدام القوة العسكرية للتدخل في الصراع الليبي". وكتب دي مايو على موقع فيسبوك "نستبعد تماما أي تدخل عسكري محتمل في ليبيا، لا اليوم ولا أي وقت مطلقا، مثلما نستبعد أي دعم محتمل حتى -ولو غير مباشر- من الدول الأخرى".

وقال دي مايو الذي يرأس حزب حركة خمس نجوم الشريك في الائتلاف الحاكم، في رسالته "في ظل وجودنا في الحكومة لن تكرر إيطاليا تلك الأخطاء". وكان دي مايو يشير إلى عام 2011، عندما ساعدت الغارات الجوية التي نفذها حلف شمال الأطلسي (ناتو) ضد الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في ادخال البلاد في حالة من الفوضى وغياب الأمن والاستقرار.

وفي غضون ذلك،حاول رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق اقناع ايطاليا بالتدخل لصالح المليشيات في طرابلس،وذلك عبر تحذيره بعد نحو أسبوعين من انطلاق معركة تحرير طرابلس، من أن الحرب في بلاده قد تدفع أكثر من 800 ألف مهاجر نحو سواحل القارة الأوروبية، كما أن الآلاف من الليبيين سيفرون بسبب المعارك، وهو ما اعتبرته السلطات الإيطالية ضربا من المبالغة.

وعقب ذلك زار السراج روما لكنه لم يجد ما كان ينتظره حيث طالبته الحكومة الإيطالية بضرورة وقف القتال واستئناف المفاوضات، وهو الموقف الذي كان يرفضه هو وتيار الإسلام السياسي الذي يرى في ذلك المطلب انتصارا للجيش الذي سيتمكن من التفاوض من موقع أفضل مما كان عليه قبل 4 أبريل تاريخ إطلاق عملية تحرير طرابلس من الميليشيات والجماعات الإرهابية.


وبدا واضحا أن ايطاليا تريد الوقوف على الحياد،حيث زار المشير خليفة حفتر روما في 17 مايو الماضي وبحث مع جوزيبي كونتي سبل وقف إطلاق النار. وعقب اللقاء قال كونتي "لقد دعوت إلى وقف إطلاق النار ونثق في أنه يمكن السير في طريق الحل السياسي".ونهاية أبريل الماضي قال كونتي إن "حكومة بلاده لا تنحاز إلى  حفتر ولا إلى السراج ولكن إلى الشعب الليبي".

وفي ظل سعيه لاضعاف المليشيات في غرب البلاد،طالب الجيش الليبي أواخر أبريل الماضي،إيطاليا بإغلاق مستشفاها العسكري في مدينة مصراتة في أقرب وقت ممكن.وأكد المتحدث باسم القائد العام للجيش اللواء أحمد المسماري في تصريحات لصحيفة "كوريري ديلا سيرا" الإيطالية عدم وجود دواع إنسانية لبقاء المستشفى بعد القضاء على تنظيم "داعش" في مدينة سرت أواخر عام 2016

وتابع قائلا "لدينا دلائل على أن هذه المنشأة لم يعد لها أي دور إنساني ولكنها تمثل مساعدة قيمة لـ"ميليشيات مصراتة" التي تقاتل جيشنا، لقد تمت إقامة المستشفى الميداني لمساعدة الجرحى في الاشتباكات ضد داعش بسرت وتلك المعارك انتهت منذ فترة طويلة". وأضاف متسائلا "لماذا لا يزال هناك 400 جندي إيطالي، في تلك القاعدة الجوية بذريعة حماية المستشفى".وتابع "تقلع طائرات من القاعدة وتقصف قواتنا وتتسبب في سقوط ضحايا من بينهم مدنيون ونعتقد أن للإيطاليين دورا في تدريب الميليشيات، إنه ليس بالأمر الجيد.. عليهم المغادرة".

ورد رئيس الحكومة الإيطالية جوزيبي كونتي بالنفي على اتهامات المسماري. وأكد في تصريحات صحافية على هامش حضوره قمة بكين أن موظفيهم في مصراتة لم يقوموا بأي أنشطة عسكرية أو شبه عسكرية وعملهم اقتصر على علاج المرضى المدنيين.وأعرب عن استعداد بلاده لتقديم الدعم الطبي اللازم لجرحى الجيش الليبي وإرسال مستشفى بحري عائم لعلاجهم في أقرب منطقة من شرق ليبيا.


ومؤخرا،أفادت وكالة الأنباء التابعة للحكومة المؤقتة بوصول طائرة عسكرية،الثلاثاء 06 أغسطس 2019 محملة بالأدوية والمعدات الطبية مقدمة من البرلمان الإيطالي، إلى مطار بنينا الدولي.وقالت الوكالة إن "جمعية الهلال الأحمر الليبي ببنغازي ستستلم هذه الشحنة لتوزيعها بشكل عادل على المستشفيات والمراكز الطبية".وتعد هذه الخطوة مؤشرًا على حدوث تغير واضح في سياسة الحكومة الإيطالية، بعد اقتراب القوات المسلحة من السيطرة على طرابلس وتحريرها من الميليشيات والجماعات الإرهابية.

وأشارت الوكالة الليبية إلى أن التغير في موقف روما الحليف المقرب من المجلس الرئاسي، القائم على الدعوة  لوقف الحرب وتفعيل الحوار، حدث بعد أن أبدت المخابرات الإيطالية رأيًا جديدًا في المسألة، فقد كشفت عدة مواقع إخبارية عن اكتشاف المخابرات الإيطالية أدلة دامغة على مشاركة إرهابيين إلى جانب حكومة الوفاق في معركة طرابلس، وهو الأمر الذي "عقّد المشهد وأربك الحسابات التي كان المجلس الرئاسي غير الدستوري يعمل عليها لجمع التأييد الدولي على حساب التأييد الشعبي".

ويمكن القول بان التغير في الموقف الايطالي برز مع منذ فترة وخاصة مع بداية ملامح التقارب الإيطالي الفرنسي التي تبلورت منذ اللقاء الذي جمع وزير الخارجية الإيطالي إينزو موافيرو ميلانيزي منتصف مايو الماضي بنظيره الفرنسي جان إيف لودريان، حيث بحثا مستجدات التطورات العسكرية في طرابلس.

وأشارت حينها تغريدة للبعثة الدبلوماسية الدائمة لإيطاليا لدى الاتحاد الأوروبي إلى أن "اللقاء شهد تقاربا واسعا في وجهات النظر حول ليبيا". وربط مراقبون ذلك التقارب بالاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب وخليفة حفتر الذي أبان عن دعم للجيش الليبي واعتراف بدوره في محاربة الإرهاب وحماية المنشآت النفطية.

وتأتي هذه التطورات في وقت كثف فيه الجيش الليبي من غاراته الجوية على مدينة مصراتة حيث أعاد قصف مطار الكلية الجوية في المدينة، الثلاثاء،واستهدفت ضربات السلاح الجوي وسائط دفاع جوي وطائرة إمداد عسكرية تركية ضخمة تحمل ذخائر وطائرات مسيّرة وصواريخ متعددة الأغراض، في محاولة للتعجيل بالحسم.

وأعلنت القيادة العامة للقوات المسلحة في بيان لها عن تدمير طائرة شحن من طراز "إل يوشن 76" فور هبوطها في قاعدة مصراتة "200 كلم إلى الشرق من طرابلس" قادمة من أنقرة وعلى متنها شحنة أسلحة وصواريخ موجهة يستخدمها سلاح الجو التركي المسير انطلاقا من القاعدة.وبعد الهجوم تمّ سماع أصوات انفجارات متتالية بالكلية الجوية في مصراتة مع ارتفاع أعمدة النيران والدخان فيها.

وتعتبر مصراتة معقل أقوى المليشيات المسلحة المناهضة للجيش الليبي وعمود قوات حكومة الوفاق، وقد لعبت دوراً كبيراً وحاسماً في تأخير بسط سيطرة قوات الجيش على العاصمة طرابلس وتحريرها من الميليشيات المسلّحة، بعدما أرسلت آلاف المقاتلين للمشاركة في القتال، وصدّ تقدّم الجيش نحو وسط العاصمة.كما أنها تمثل بوابة التدخل التركي-القطري في ليبيا حيث يسيطر تيار الاسلام السياسي الموالي للدولتين على المدينة.

وتعج مدينة مصراتة الساحلية بعدد من الميليشيات والكتائب العقائدية التي تعمل لصالح تنظيم الإخوان المسلمين في ليبيا، وتأتمر بأوامر المتطرف الصادق الغرياني المقيم في إسطنبول.وتشارك مصراتة في معارك طرابلس بعدة ميليشيات، منها الصمود التي يقودها صلاح بادي المصنف على قوائم الإرهاب الدولية، وكتيبة الحلبوص بقيادة المتشدد عبدالسلام الروبي، والقوة الثالثة لمحمـد الفلاو، وميليشيا 166 لمحمـد عمر الحصان، وميليشيا الطاجين لمختار جحاوي، والمتحركة لمحمد سالم دمونة، وميليشيا شريخان وقائدها محمـد بعيو.

وتحدثت تقارير اعلامية عن أن المدينة تؤوي عناصر وقيادات من تنظيمي "شورى درنة" و"شورى بنغازي" الهاربين من معارك الجيش الوطني الليبي في الشرق، فضلا عن استقدام قيادات تكفيرية من العراق وسوريا ومصر، عبر المطار والميناء البحري، للقتال ضد الجيش الليبي.وكشف تقرير سابق للأمم المتحدة، صدر العام الماضي، أن مطار الكلية الجوية استقبل عددا كبيرا من المرتزقة الأجانب لتنفيذ ضربات جوية ضد قوات الجيش ومدنيين مؤيدين له.

ويرى مراقبون أن استهداف مواقع المليشيات في مصراتة،يمثل تحولا جديدا في مسار العمليات العسكرية، يشي بتوسيع رقعة المعارك الدائرة في ليبيا، باستراتيجية عسكرية مُغايرة، لاسيما وأن هذا التطور يأتي بالتزامن مع تصاعد التصريحات حول اقتراب حسم معركة تحرير العاصمة الليبية وانهاء نفوذ المليشيات فيها.وتدفع التطورات الميدانية العديد من الدول التي راهنت على المليشيات وفي مقدمتها ايطاليا الى مراجعة مواقفها وذلك بحثا عن تدعيم مصالحها في ليبيا.