د. حمدى عبدالرحمن أستاذ العلوم السياسية

~~لعل أحد الإشكاليات الكبرى التى واجهت إدارة المرحلة الانتقالية فى مصر بعد الإطاحة بنظام مبارك تمثلت فى عدم وجود رؤية واضحة حول كيفية التعامل مع جهاز الشرطة الذى يمثل أحد الأذرع الكبرى لمرفق الأمن فى البلاد. فقد بات الخطاب السياسى المعنى بهذه القضية مؤدلجا ويعكس انقساماً كبيراً فى المواقف وتبايناً فى الرؤى بحسب القرب أو البعد من النظام الحاكم الذى جاءت به الشرعية الانتخابية بعد ثورة يناير. فثمة من تمسك بمثالية المطالب الثورية، وتحدث عن إعادة هيكلة مرفق الشرطة بالكامل، وهو ما يعنى تجاوز دعوات التطهير أو التخلص من بعض الأشخاص الموالين للنظام السابق أو المتهمين بالفساد، ليتم التركيز على إعادة البناء المؤسسى والتكوين العقيدى والفكرى لجهاز الشرطة بأكمله. وفى المقابل توقف نمط آخر من الخطاب، وربما النابع من مرفق الأمن نفسه عند منطق التطهير الذاتي، أى أن جهاز الشرطة قادر على أن يطهر نفسه ويتخلص من خبثه بما يوافق تطلعات المصريين فى مرحلة ما بعد الثورة.
وأحسب أن هذه الحدية فى الخطاب السائد حول معضلة الشرطة المصرية الراهنة والانفلات الأمنى غير المسبوق الذى تشهده المحروسة إنما تعكس حالة الاستقطاب السياسى الذى أصبح ملمحاً أساسياً للمشهد السياسى فى مصر بعد الثورة. وعليه، فإننا نحاول فى هذا المقال، استناداً إلى الخبرة ألافريقية أن نطرح أبرز التساؤلات الكبرى المتعلقة بخطاب إصلاح الشرطة من حيث المبنى والمعنى، والتى تؤثر على مسيرة وإدارة المراحل الانتقالية للتحول الديمقراطي.
ويمكن القول إجمالاً أن تنامى أصوات خطاب الإصلاح الشرطى فى أفريقيا خلال العقدين الماضيين إنما يرجع إلى طبيعة العقيدة التى حكمت مؤسسة الشرطة باعتبارها أداة للقمع والبطش فى أيدى النظام الحاكم، وهو ما أدى إلى اتهامها بالفساد وسوء الادارة وانتهاك حقوق وحريات المواطنين. فمن المعروف أن أفراد الشرطة قد تم تجنيدهم فى الكثير من أنحاء أفريقيا لحماية مصالح الطبقة الحاكمة، ولقمع الطبقات الفقيرة والمهمشة. وعليه، فقد باتت الثقة مفقودة تماماً بين الشرطة والجماهير كما أقرت بذلك كثير من الدراسات المسحية وقياسات الرأى العام فى عدد من البلدان الأفريقية. أضف إلى ذلك، فإن لحظات التحول الديمقراطى قد خلقت توترات اجتماعية وقبلية وثقافية مثلما حدث فى جنوب أفريقيا وكينيا ونيجيريا، وهو ما يعنى ضرورة إصلاح جهاز الشرطة ليتحول إلى رافعة للتحول الديمقراطى عوضاً عن كونه أداة قمع وهيمنة لحساب طبقة معينة من السكان.
ولعل خطاب الإصلاح يطرح ثلاثة تساؤلات كبرى تدور حول من يقدم ماذا وكيف؟ أى أنها ترتبط بإشكالية تعريف جهاز الشرطة، أى التمييز بين الخاص والعام فى الوظيفة الأمنية، ومن ناحية ثانية تشير إلى تعدد الوظائف، وهل هى خدمية أم ممارسة للسلطة. وأخيرا فإنها تطرح سؤال الحوكمة والحكم الرشيد وتطبيقه على قطاع الشرطة بما يعنى خضوعه للرقابة والمساءلة.
أولاً اشكالية التعريف والأنماط السائدة:
كان ينظر إلى جهاز الشرطة منذ منتصف القرن التاسع عشر باعتباره من مؤسسات الصالح العام، وهو ما يعنى ضرورة احتكار الدولة لوظيفة توفير الأمن. وكانت هذه الوظيفة تشمل تنظيم المجتمع، والمحافظة على النظام العام، وحفظ الأمن، ومنع الجريمة، والاستجابة لها فور وقوعها، واستخدام أدوات القوة المشروعة، إن لزم الأمر من أجل المساعدة فى تحقيق هذه الوظائف جميعاً. بيد أن هذا التعريف الذى يقوم على احتكار الدولة لوظيفة الأمن تم تحديثه منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضى، حيث ظهرت مؤسسات وشركات خاصة تقوم ببعض وظائف الشرطة لأغراض تجارية.
ففى أفريقيا بعد رحيل الاستعمار ونتيجة ضعف جهاز الدولة الموروث كان من الشائع قيام هيئات غير حكومية (شعبية ومحلية أو شركات خاصة) بتسيير دوريات فى الشوارع وحماية وحراسة الأشخاص والممتلكات العامة والخاصة. وعلى مدى العقدين الماضيين شهدت الدول المتقدمة والنامية على السواء تحولات فارقة فى مجال مرفق الأمن الشرطى ليس فقط فى ميدان الفصل بين من يوفر الخدمة الأمنية، ومن يقوم بها فعلاً، ولكن أيضاً على مستوى القيام بالوظائف الأمنية بعيداً عن الدولة ومؤسساتها الحكومية.
وعادة ما تقوم شركات الأمن الخاصة، وبعض الجماعات الطوعية المعترف بها، وحتى الحكومات نفسها باعتبارها مصدرا للتجنيد فى القطاع الخاص، خدمات أمنية تقع فى صميم اختصاص الأمن الشرطى الرسمي. وعليه أصبح من المهم اليوم عند الحديث عن اصلاح المنظومة الشرطية فى مراحل التحول من نظم الاستبداد وإدارة عمليات الانتقال الديموقراطى التركيز على أداء المهام الشرطية بغض النظر عن طبيعة من يقوم بهذه المهام. ونستطيع أن نشير إلى أربعة أنماط جديدة فى التعريف بمنظومات الإصلاح الشرطية:
1- النمط الأول ويطلق عليه اسم النمط الاقطاعى الجديد آNeo - feudalism. فقد بات الاهتمام بالأمن الخاص متمثلاً فى المجمعات السكنية ومنافذ البيع بالتجزئة والمجمعات الترفيهية والرياضية، وذلك بعد إعادة استخدام شركات الأمن الخاصة فى بلدان أمريكا الشمالية والمملكة المتحدة منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي. وتظهر المشابهة والتوازى بين هذا النموذج والمجتمع الاقطاعى القديم فى طبيعة المدن الاقطاعية المحصنة التى تقوم على مفهوم العدالة الانتقائية. أما النموذج النيوإقطاعى فهو يشير أيضاً إلى فصل واضح بين الخاص والعام فى الخدمات الشرطية، والتى لا تتماشى بالضرورة مع الأنماط السائدة والتقليدية للشرطة كمرفق عام.
2- النمط الثانى هو المتعدد الأطراف الذى يشير بالإضافة إلى معيار التقسيم بين الخاص والعام إلى السؤال حول من يشرف، ومن يقدم الوظيفة الشرطية. فالذى يشرف هو من يتولى التنظيم ومسئولية توفير الأمن، أما الذى يقدم الخدمة الأمنية فهم الأشخاص الذين ينفذون ما يطلب منهم. ولعل ذلك يعنى عدم لزوم حدوث التماهى بين من يشرف على ومن يقدم الوظيفة الشرطية طبقاً لهذا النمط.
3- النمط الثالث وهو الشبكات الشرطية المتعددة، والذى يرى بأن الدولة لا تستطيع وحدها الانفراد بتقديم خدمة الأمن لمواطنيها، ولكن ذلك يستلزم ضرورة التعاون والتنسيق بين كافة الأجهزة المنوط بها تقديم هذه الوظائف والخدمات الأمنية. فالحدود بين الدولة والمؤسسة الأمنية الخاصة لم تعد واضحة تماماً، بل أصابها التبدل والتحول نتيجة وجود مبادرات وشراكات جديدة اقتضتها عمليات التحول المجتمعية المتسارعة. وفى ظل هذا المناخ يتحدث البعض عن شبكات الأمن أكثر من حديثهم عن أجهزة الشرطة. وعليه، فقد ذهب هؤلاء إلى تعريف الشرطة بأنها عملية من الشبكات المتداخلة للحوكمة Governance، كما أنها تفهم بحسبانها مجموعة معقدة من النظم المتداخلة للأجهزة التى تعمل معاً من أجل القيام بمهمة الأمن فى المجتمع. ومع ذلك تظل الدولة هى الفاعل المحورى فى إطار هذه الشبكات المعقدة.
4- النمط الرابع والأخير، والذى يطلق عليه حوكمة الأمن Security Governance يشتمل على كافة مكونات الأنماط السابقة، وإن كان لا يعترف بأولوية قطاع الدولة فى شبكات الأمن. أضف إلى ذلك، فإنه يحاول أن يتجاوز الأشكال التاريخية للوظيفة الشرطية ليركز على الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة من أجل تعزيز الأمن والحماية فى كافة المناطق التى يعيش ويعمل فيها الأفراد.
وباعتقادي، فإن النمط الملائم للواقعين المصرى والأفريقى هو الذى يركز على معايير الكفاءة والمساءلة وليس على معيار التمييز بين الخاص والعام. فقد جادل كثير من الباحثين أن جهاز الشرطة فى ظل نظم الاستبداد لم يحقق أو يدافع عن مصالح عموم الأفراد وإنما مثل أداة لحماية مصالح الطبقة الحاكمة. وعليه، يصبح الخاص والعام هنا لا جدوى حقيقية منه.
ثانياً الشرطة وجدلية مفاهيم الخدمة والسلطة:
طرحت خبرة جنوب أفريقيا والتحول من نظام التفرقة العنصرية عام 1994 جدلاً واسعاً حول طبيعة ما تقدمه الشرطة. هل هى تعبر عن خدمة أمنية للجميع أم أنها تمثل سلطة Force باعتبارها تملك حق الاستخدام الشرعى لوسائل القوة المادية من أجل الحفاظ على الأمن فى المجتمع. وقد حرص القائمون على إصلاح جهاز الشرطة على ضرورة أن تشمل عملية الإصلاح مجموعة من القضايا الأساسية، وعلى رأسها عدم تسييس الشرطة وتحويلها إلى جهاز للخدمة العامة يعتمد على معايير الإنصاف وعدم التمييز مع إعطاء الأولوية لسياسات التوظيف والترقيات وبرامج التدريب بالإضافة إلى تطبيق قواعد الرقابة والمساءلة.
وتظهر عملية الملاحظة الواعية لتجربة جنوب أفريقيا، على مدى نحو عقدين وجود تحول ملحوظ فى الخطاب الحكومى المتعلق بإصلاح الشرطة. ففى السنوات الأولى للتحول الديمقراطى كان التوكيد الرسمى على أن الشرطة هى واحدة من أهم الأذرع التى يقوم عليها التحول الديمقراطى. وعليه، فقد تم تحديد الهدف فى عام 1996 على أن يتحول جهاز الشرطة إلى "مؤسسة خدمية، ومهنية، ومحايدة، وذات كفاءة عالية وفعالة، ويخضع لمعايير الشفافية والمساءلة بما يحمى ويحافظ على الحقوق الأساسية للشعب، كما أنها تقوم بأداء رسالتها طبقاً لحاجات المجتمع". ولعل ذلك يعيد إلى الأذهان شعار "الشرطة فى خدمة الشعب".
بيد أنه تحت وطأة ارتفاع معدلات الجريمة فى جنوب أفريقيا حدث تحول فارق فى خطاب الإصلاح الحكومي. ففى عام 1999 أشار وزير الأمن فى جنوب أفريقيا ستيف تشويتى Steve Tshwete بأن على "المجرمين أن يدركوا أن دولة جنوب أفريقيا تمتلك السلطة السياسية والأخلاقية لضمان حقوق مواطنى هذه الدولة بشتى السبل الدستورية وغير الدستورية". ولا شك أن هذه الرؤية الجديدة وجدت تأييداً قوياً من قبل قوات الشرطة التى طالبت مراراً بمزيد من الاهتمام بشئون التسليح والتدريب والحسم فى مواجهة العناصر الإجرامية، وهو ما أطلق عليه اسم "سياسة إطلاق النار من أجل القتل" Shoot to kill. والعجيب أن المزاج العام فى جنوب أفريقيا أصبح يطالب جهاز الشرطة باتخاذ إجراءات حاسمة فى مواجهة الجريمة.
وفى أواخر عام 2009 أثناء اجتماع للرئيس جاكوب زوما مع قادة الشرطة أكد الرئيس على أنه فى ظل أزمة الجريمة المتصاعدة يتعين على الشرطة الحصول على سلطات إضافية تمكنها من استخدام السلاح بغرض القتل. يعنى ذلك، طبقاً للرئيس زوما، أن الشرطة تتحول من "خدمة" إلى "قوة". وطبقاً لهذه الرؤية الجديدة عمدت جنوب أفريقيا إلى تعديل قانون الإجراءات الجنائية لتمكين أفراد الشرطة من استخدام السلاح بغرض القتل فى حالة تعرض حياتهم أو الآخرين للخطر.
ولعل الدرس المستفاد هنا يتمثل فى ضرورة أن يأخذ برنامج الإصلاح المصرى للشرطة ظروف الواقع الاقتصادى والاجتماعى والسياسى لمصر بعد الثورة بعين الاعتبار، إذ لا يمكن استيراد برامج جاهزة للتطبيق من الخارج. فما قد يصلح لمجتمع ربما لا يلائم مجتمع آخر. وعليه، تصبح عمليات التجريب والتوفيق، بالإضافة إلى اكتساب ثقة المجتمع فى برنامج الإصلاح أهم عوامل النجاح. ولا يخفى أن تجريد جهاز الشرطة من الكثير من وظائفه غير المهنية التى كان يمارسها فى السابق تحتاج إلى دعم ومساندة أفراده من خلال توفير الحوافز اللازمة لهم، مثل زيادة الرواتب، ومنحهم فرص للتدريب فى الخارج أو ما شاكل ذلك.
ثالثاً معضلة المساءلة والرقابة:
تعنى كلمة المساءلة الشرطية مجموعة القواعد المعيارية التى تحدد من الذى ينبغى عليه أن يسأل؟ ومن الذى يسأل؟ ومتى؟ وكيف؟ وحول ماذا؟. المساءلة بهذا المعنى تشير إلى وجود نظام للمحاسبة والتصحيح بما يسمح للمواطنين الذين تعرضوا للأذى والتهميش من قبل الشرطة أن يستردوا حقوقهم. وثمة اعتبارات أربعة رئيسية تجعل قضية المساءلة هى جوهر خطاب اصلاح جهاز الشرطة. أول هذه الاعتبارات يرتبط بمعضلة التوازن بين حق الشرطة فى استخدام أدوات القهر المادى المملوكة لديها وضرورة ضبط هذا الاستخدام فى إطار ما يسمح به القانون. أما الاعتبار الثانى ويتمثل فى عدم تسييس جهاز الشرطة وفك الارتباط بينها وبين النظام الحاكم الذى اعتاد أن ينظر إليها باعتبارها أداة قمع وضبط يستخدمها لتحقيق أهدافه السياسية. ويشير الاعتبار الثالث إلى معنى المساءلة المالية بما يجفف منابع الرشوة وسوء الاستخدام وكافة أشكال الفساد الأخرى. أما الاعتبار الرابع والأخير فهو يشير إلى شرعية الشرطة من خلال اكتساب ثقة الجماهير.
وعلى الرغم من تعدد أنماط المساءلة الشرطية فإن معظم التجارب الأفريقية تأخذ بالنمط الحكومى، حيث تتبع قوة الشرطة، أو مؤسسة الشرطة الخدمية من الناحية الإدارية لوزارة الداخلية أو الأمن الداخلي، أى تصبح جزءاً من الحكومة. وعلى أية حال، فإن التجربة الكينية تطرح نموذجاً آخر للإصلاح الشرطى فى أفريقيا. ففى أعقاب أعمال العنف واسعة النطاق التى صاحبت انتخابات عام 2007 ضعفت الثقة العامة بمرفق الأمن الكيني. فقد انتهكت العديد من الحقوق والحريات الأساسية للكينيين خلال هذه الفترة. وفى 7 مايو 2009 شكل الرئيس مواى كيباكى Mwai Kibaki لجنة عليا لاصلاح الشرطة برئاسة القاضى المتقاعد فيليب رانسلى Phillip Ransly، وقد انتهت اللجنة إلى اصدار توصيات مهمة فى مجال المساءلة والمهنية والإصلاحات الاجرائية والمهنية، بالإضافة إلى الإصلاحات التشريعية والمؤسسية. على أن القضية الأهم فى التجربة الكينية تمثلت فى إنشاء هيئة مستقلة لرقابة جهاز الشرطة، والتى صدر بها قانون رقم 35 لعام 2011.
ولعل الدرس المستخلص من التجربة الكينية وغيرها من التجارب الأفريقية هو ضرورة وجود هيئة مستقلة لمراقبة أعمال الشرطة والنظر فى شكاوى المواطنين، على أن تتمتع تلك الهيئة بالخصائص الآتية: الاستقلال عن الرئاسة والحكومة، التمويل الكافى وفى الوقت المناسب، وجود قيادة وموظفين أكفاء وغير فاسدين، القدرة على القيام بالبحث والتحرى والمراقبة لتقويم أداء الشرطة والاتصال بالجماهير، الاستجابة للشكاوى بشكل فورى والتعامل المباشر مع مقدميها، الاتصال بمنظمات المجتمع المدنى من أجل كسب ثقتهم، أن تشمل ولايتها كافة أعمال الشرطة، فضلا عن امتلاكها الصلاحيات القانونية التى تؤهلها لمعاقبة المخطئ ومكافأة المجتهد، الدفاع عن أفراد الشرطة وحماية حقوقهم فى مواجهة رؤسائهم، أن يعطى أفراد هذه الهيئة المثل والقدوة من حيث الكفاءة والإنصاف وطهارة اليد لاسيما فى تعاملاتهم مع الشرطة والحكومة والجمهور.
أين مصر الثورة من كل هذا؟ لا يزال حديث اصلاح جهاز الأمن ومرفق العدالة غير واضح المعالم ويعكس مناخ الاستقطاب السياسى فى مصر بعد الثورة بين القوى الاسلامية والليبرالية. فثمة من يقف كما بينا عند حدود المصطلح ويتحدث عن الهيكلة وإعادة البناء. وهناك من يتحدث عن تطهير الشرطة وطرد المفسدين من ابنائها بطريقة تبسيطية حتى إن بعضهم ذهب إلى حد القول بإمكانية إصلاح الشرطة المصرية فى شهر واحد. وبعيداً عن تسييس هذه القضية فإن طريق إصلاح مرفق الشرطة من حيث المبنى والمعنى يحتاج إلى عملية طويلة وشاقة. على أنها فوق ذلك كله تحتاج إلى إرادة سياسية ومجتمعة من أجل التغيير والتعلم من التجربة والخطأ، فضلاً عن الالتزام بالإصلاح مهما تكن التحديات والتضحيات.
ومن خلال متابعة التجارب الأفريقية نستطيع تحديد أهم التحديات التى تواجه عملية الاصلاح الشرطى، والتى تتمثل فى ثلاثة أبعاد رئيسية، وذلك على النحو التالي: أولا، تحدى العنصر البشري، فالسؤال فى هذه الحالة يتمثل فى العدد المتاح من ضباط وأفراد الشرطة القادرين على التكيف مع نموذج الإصلاح الجديد؟ وبالتوازى ماهو الوقت المطلوب لتجنيد وتدريب عناصر جديدة، هل نحن بحاجة الى بضعة اشهر أم أكثر من ذلك؟ ثانيا، تحدى العجز المادى وقصور البنية التحتية لجهاز الشرطة، وهو الأمر الذى يغل من أيدى أفرادها فى مواجهة التحديات الجديدة التى تطرحها طبيعة المرحلة الانتقالية. وبالإضافة إلى ذلك، وجود تباين بين الريف والحضر فيما يتعلق بالمعدات والأفراد، وهو ما يزيد الأمور تعقيدا وتشابكا. كيف تتم عملية إعادة توزيع ونشر ضباط الشرطة؟ وماهى المناطق التى تتطلب موجودا شرطيا أكثر من غيرها؟ وأخيرا، تحدى الهيكل التنظيمى للشرطة الذى ربما لا يناسب عملية إعادة بناء شرطة جديدة ديمقراطية وقابلة للمساءلة. والسؤال هنا يتمثل فى كيفية غرس ثقافة تنظيمية جديدة تكون بمثابة المرشد والدافع للمؤسسة الشرطية الجديدة؟
إن الاشكالية الكبرى فى مواجهة إصلاح أى مؤسسة تتمثل فى إدراك من يطالهم التغير بأنها عملية صفرية Zero Sum Game يخسر فيها البعض بينما يكسب البعض الآخر. وعليه، يقترح البعض ضرورة إدماج أفراد الشرطة غير الفاسدين فى عملية الإصلاح بحيث يصبحون أنفسهم أدوات للتغيير. ويطرح الجدول التالى خطوات ثمان لتنفيذ عملية إصلاح مستدامة لجهاز الشرطة تعتمد فى جوهرها على خلق إحساس عام بإلحاح مسألة التغيير وتشكيل تحالف عام قوى للقيادة والتوجيه بما يؤدى فى نهاية المطاف لصياغة رؤية جديدة.
جدول رقم 1
خطوات مقترحة لإصلاح الشرطة
ولا يخفى أن إدارة المرحلة الانتقالية نحو تعزيز التحول الديمقراطى فى مصر تعتمد فى أحد جوانبها المهمة على جهاز شرطة قوى وملتزم بفلسفة الإصلاح الديمقراطى من جهة، وعلى دعم وتأييد الطبقة السياسية الوطنية من جهة أخرى. واستناداً إلى التجربتين الكينية والجنوب أفريقية فإن أى عملية لإصلاح الشرطة المصرية لابد وأن تتضمن على رأس أولوياتها ما يلي: الحاجة إلى فك الارتباط بين الشرطة والسياسة، وإعمال قواعد الإنصاف وعدم التمييز فى قضايا التوظيف والترقيات، والحاجة إلى ادماج حقوق الإنسان والتدريب العملى، وتطوير مستويات الإدارة والإشراف، وتبنى نظم التأديب والمساءلة والشفافية، والحاجة للتصدى لممارسات الشرطة الفاسدة، وضرورة اكتساب ثقة الجمهور فى جهاز الشرطة، وما إلى ذلك من قضايا أخرى.
إننا فى حاجة إلى ثقافة جديدة سواء فيما يتعلق بالنخبة الحاكمة أو المجتمع فى عمومه، وذلك فيما يتعلق بدعم الثقة المتبادلة بين الشرطة والجماهير وتجاوز سلبيات الماضى بما يعنى التوكيد على أننا أمام عهد جديد يقوم على مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان.
المراجع:
1- Bayley، David، Democratizing the Police Abroad: What to Do and How to Do It (Washington، DC: National Institute of Justice، June 2001.
2- Bruce، D، and R. Neild. The Police We Want. A Handbook for Oversight of Police in South Africa. Johannesburg: The Centre for the Study of Violence and Reconciliation.2005.
3- Cartwright، J، and C. Shearing. Where’s the Chicken? Making South Africa Safe. Kenilworth، South Africa: Burnet Media.2012
4- Ferguson، Chris، and Jeffrey O. Isima. Providing Security for People: Enhancing Security Through Police، Justice، and Intelligence Reform in Africa. Shrivenham: Global Facilitation Network for Security Sector Reform، 2004.
5- Kotter، J. P. (1995). Leading Change: Why Transformation Efforts Fail. Harvard Business Review، 73 (2)، 59 - 67
6- Marenin، Otwin، Policing reforms and economic development in African States Understanding the linkages: empowering change، WIDER Working Paper No. 2013 - 013، February 2013.
7- Neild، R، ‘Democratic police reforms in war - torn societies’. Conflict، Security and Development.2000، Vol 1، No. 1. pp. 21 - 43.