لا يختلف إخوان ليبيا عن بقية تفريعاتهم في المنطقة في استراتيجيات التمكين. شعارهم الدائم هو الاقتراب من السلطة باعتبارها الأداة التي تمنح للجماعة تنفيذ مشروعها "السياسي". والوصول إلى السلطة بالنسبة إليهم يكون بأي طريقة حتى على حساب الدولة ومؤسساتها، وحتى على حساب من يمدّ لهم يده في لحظات من التاريخ، وهذا ما حصل خلال أحداث "فبراير". لحظة 2011، كانت بالنسبة إليهم فرصة من التاريخ للثأر من خصم قوي كان يفهمهم جيدا، فكان هدفهم افتكاك الدولة منه دون مراعاة لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع وطبعا بمساعدة من هم في فكرهم سابقا دول الضّلال. الظروف الإقليمية في تلك اللحظة كانت لفائدتهم. والقوى الدولية وجدت فيهم أداة سهلة لتبرير الهجوم على الدولة.

بعد الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي، كان إخوان ليبيا يقومون بدعاية ضخمة للتسويق لأنفسهم. عملية الدعاية تعتمد خطاب المظلومية المتوارث عند أغلب التيارات الإسلامية، وهذا في الواقع ساهم في تضليل نسبة كبيرة من الناس سواء في ليبيا أو خارجها. وما ساعدهم أيضا هو الدعم الإعلامي الكبير من وسائل الإعلام التركية والقطرية التي كانت منساقة تماما في المشروع الإخواني في المنطقة. ومنذ ذلك التاريخ أصبح الإخوان يلعبون على الحبال المختلفة من بينها حبال الفوضى بعد انكشاف حقيقتهم في الشارع وتعرّضهم لهزائم متتالية ديمقراطيا.


المؤتمر العام وانكشاف الامتداد الشعبي

e77ecbb3-2159-4528-9c10-00cec48a8eb1_16x9_1200x676.jpg

لم يكن أمام إخوان ليبيا بعد الإطاحة بنظام القذافي، إلا اختبار الانتخابات الذي اعتقدوا أنه سيمنحهم اليد الطولى للانقضاض على الدولة، وكانوا ينتظرون أن تمنحهم الصناديق فرصة الصعود إلى مؤسسات الدولة. الثقة المفرطة في النفس جعلتهم يرضون على المسار الانتخابي الذي بدأ أيام المجلس الانتقالي، عكس ما يقومون به في دول أخرى عندما يكتشفون أنهم مهددون في التموقع. لكن حسابات الحقل ليست ما تقدّمها نتائج البيدر، فانتخابات المؤتمر العام في 2012، صدمت التيار الإخواني الليبي، الذي اكتشف ضعف موقعه في ليبيا، بعد أن اختار الليبيون منح أصواتهم للقائمات المستقلة والقوى الليبرالية التي رأوا في خطابها قربا من هواهم بعيدا عن أصوات العنف والانتقام التي تصدر من الصف الإسلامي وعلى رأسها جماعة الإخوان ممثلة في هيكلها الحزبي العدالة والبناء.

الهزيمة المذلّة التي مني بها الإخوان في تلك الفترة خلقت اضطرابا غير مسبوق لدى "رؤوس" الجماعة الذين لم يتوقعوا للحظة أن يفوز أحد غيرهم في انتخابات المؤتمر، بل الأكثر أنهم لم يكونوا حتى في المركز الثاني وحلوا في الترتيب الثالث، رغم الإمكانيات الرهيبة التي منحت لهم مادّيا وإعلاميا. فأغلب المراقبين كانوا يذهبون إلى أن المزاج الشعبي رفضهم لعدة اعتبارات من بينها مشاركتهم في العملية العسكرية التي وقعت في البلاد، بالإضافة إلى الخطاب المتطرف للعديد من قياداته.

ورغم اعترافهم في البداية أن لعبة الديمقراطية مقبولة، لكنهم في الواقع لم يرضوا بما حصل لهم لأن الصدمة كانت قوية وغير متوقعة، فبدأوا بجس نبض الفائزين المستقلين من أجل الالتحاق بكتلهم الفائزة وهو ما نجحوا فيه في بعض الدوائر، وتم ذلك عبر إغراءات سياسية ومالية مختلفة، لكن كل ذلك لم يحقق لهم ما يريدون فاختاروا بعد أشهر المسار الثاني وهو الانقلاب والتشويش الذي سيكون البداية الفعلية للعنف والتحارب الأهلي في البلاد.


الإخوان وقانون العزل... مواقف مرتعشة فرضها ضغط الشارع

في شهر مايو 2013، حاصر مسلحون مبنى مقر المؤتمر الوطني العام، في طرابلس مطالبين بتفعيل قانون العزل السياسي. لم يذكر أحد إلى من تنتمي تلك الفصائل، لكن المتابع لمسار الأحداث يعرف أنهم من الأطراف الموالية للإخوان المسلمين. بالنسبة إلى "الإخوان الليبيين تفعيل" العزل هو انتصار سياسي ينتقمون به ممن لم ينجحوا في تصفيته بالسلاح. المسألة بالنسبة إليهم نوع من الثأر، لهذا أول حركة قاموا بها بعد إلغاء القانون، محاصرة المؤسسات الرسمية بالسلاح.

ورغم هزيمتهم في انتخابات المؤتمر العام، لكن بقوا أداة ضغط دائمة من خلال مليشياتهم المسلحة التي كانت تطالب بإقرار قانون العزل. وفي تصريح لموقع سويس إنفو قال المحلل السياسي مفتاح بوذهب إن ذلك الضغط كان طريقة "ليتخلّصوا به من خصومهم وتخلُو لهم ساحة المؤتمر الوطني العام. وثانيا، قامت وبدعم مادّي عظيم من دولة عربية، بتسليح جماعات (مليشيات) لتكون الذراع العسكرية للجماعة وسِلاحها للوصول إلى السلطة والمحافظة عليها. وهُم (أي الجماعة) لا يتورّعون عن استخدام كافة الوسائل للوصول إلى غايتهم. فهُم الآن يأملون أن يخلصهم قانون العزل من خصومهم .... وتخلو لهم الطريق لكتابة دستورهم الذي يتمنّون".

الواقع أن الإخوان لم يكن تركيزهم على قانون العزل السياسي فحسب. قبل انتخابات المؤتمر العام وفرضيات الفوز الساحق جعلتهم يحلمون بتسيير كل دواليب الدولة وكتابة الدستور لكن إرادة الشعب الليبي كانت عكس ما يريدون.


عملية الكرامة... الغصة التي أصابت الجماعة

122.jpg

عندما أعلن القائد العام للجيش الليبي خليفة حفتر إطلاقه لعملية الكرامة لتطهير بنغازي من الإرهاب في 2014 (طبعا بنغازي كانت فاتحة العملية نحو معركة أشمل في شرق البلاد). كانت الصورة لدى البعض في البداية غير واضحة. فقط جماعة الإخوان المسلمين فهمت أنها جزء من خصوم عملية الكرامة باعتبارها جزءا من المشكل، ومتهما رئيسيا بدعم الإرهاب والمشاركة فيه. لذلك السبب كانت ردود قياداتها عنيفة وأقرب إلى الاضطراب والخوف من مصير ينهي الأحلام التي سطرتها سياسيا وأمنيا بعد سنوات "الثورة".

كانت الفترة التي بدأت فيها العملية، مجالا للسجال والتشكيك اللذين اختار الإسلاميون اللعب عليهما اعتمادا على وسائل إعلامهم التي تبث من طرابلس (مركز نفوذهم) وتركيا (داعهم الإقليمي الرئيسي) وقطر (العاصمة العربية للإخوان). أصوات الانتقاد كانت تنطلق من تلك الواجهات الثلاث في هدف واضح للتشويش على العملية التي أعطت أكلها منذ انطلاقتها رغم محاولات التعطيل المستمرة.

لم يتوقف الإخوان عن انتقاد الكرامة وعملية الجيش، لسببين؛ الأول لأن المستهدف هم حلفاؤهم الذين يلجأون إليهم سياسيا وميدانيا، والثاني لأن صعود قوة غيرهم تفرض الأمن على المناطق التي تسيطر عليها يعني آليا إافقادهم الشرعية الشعبية الضعيفة بطبعها.

عملية فجر ليبيا ... استعادة مزعومة لقوة مفقودة

في الوقت الذي يواصل الجيش شرقا حربه على الإرهاب، وفي ظل دخول الإسلام السياسي في هستيريا التصريحات ضد الجيش وقيادته، تشكلت في يوليو 2014 ما سمّي بتحالف "فجر ليبيا"، وهو تحالف جديد مكون من كتائب إسلامية مقربة من جماعة الإخوان.

كان تحالف "فجر ليبيا" يسعى غربا لفرض سيطرتها الأمنية على المؤسسات الرئيسية، لهذا كانت أولى معاركه ضد مليشيات مسيطرة على مطار طرابلس لتتمكن من طردها بعد حوالي شهر من المعارك، وهو مشهد كان بالنسبة إلى الإخوان نوعا من استعادة الثقة التي فقدت عند إعلان عملية الكرامة شرقا.

تلك المعركة أعادت الاعتقاد لدى قيادات الإخوان أنها تمتلك من القوة ما يؤهلها لصدّ هجوم محتمل من الجيش الليبي أو من مؤيدين له في غرب البلاد، لكن واقع الأرض أثبت أن موازين القوى مختلة بالنظر إلى التنظيم والقوة التي كان عليها الجيش، وهو أمر واقع فرض على القيادي الإخواني محمد صوان في منتصف 2018، الاعتراف بأن قيادة الجيش تحارب الإرهاب، رغم أن قياديين آخرين حافظوا على عدائهم للجيش في حربه على الإرهاب.

معركة الحسم في الجنوب ... لماذا يصر الإخوان على التشويش؟

580.jpg

في الوقت الذي يجمع فيه أغلب الطيف الليبي والإقليمي أن الجيش الليبي يخوض معركة المصير في جنوب البلاد من أجل تطهيرها من مليشيات السلاح، وهي معركة الحلقة الأخيرة لأنها قد تنهي كابوسا أرق البلاد أمنيا واقتصاديا، مازال الطرف الإسلامي يمارس نهج التشويش بهدف التقليل من قيمة المجهودات التي تُبذل، باعتباره ليس طرفا فيها إلا في دعم خصوم الدولة وجيشها.

وفي خطوة متوقعة من حكومة الوفاق المدعومة إخوانيا، تم توجيه رسالة إلى مجلس الأمن بزعم خطورة المعارك في الجنوب والتخوف من وقوع انتهاكات وهذا يعتبر "فضيحة" سياسية غير محسوبة النتائج وقد أكد المحلل السياسي ناجح بن جدو في تصريح لموقع إرم نيوز، أن "استقواء حكومة الإخوان بقيادة فايزالسراجبمجلس الأمن، يثبت مرة أخرى، أن هذه الأطراف لا تمتلك أي رؤية واضحة لحكم البلاد". كما استغرب محللون آخرون خطوة السراج رغم معرفته أن الجيش يحقق انتصارات هامة والواجب الوطني يفرض الإشادة بها لا التنديد والتظلّم لمجلس الأمن.

بعد العام الثامن من التطورات في الملف الليبي، الجميع تعلّم الدروس ممّا يحصل، والجميع ترك مجالا للمناورة ورأب الصدع، إلا جماعة الإخوان فقد بقيت على وفائها للتاريخ من خلال الوقوف أمام تقدّم الأوطان وأمنها، وهذا قد يكون مفهوما باعتبار أن أغلب أدبيات الإسلام السياسي تعتبر الفوضى جزءا مهما من تنفيذ مخططاته.