في زحمة الأحداث والتطورات العالمية والإقليمية والعربية يتأسف المرء لما وصلت إليه أمور الأمة من تشرذم وانحطاط لم نجد له مبرراً إلا التفرقة والابتعاد عن القضايا والمصالح المصيرية التي من المفروض عدم التخلي عنها مهما كلف الأمر من تضحيات، ولعل العاقل يدرك مدى خطورة الوضع الراهن نتيجة المشروع الاستعماري الذي يستهدف المغرب العربي والمنطقة برمتها والذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها إسرائيل ومن يدور في فلكهما... 

اليوم تتعرض الشعوب المغاربية إلى عملية مدبرة من الاختراق الاستعماري التوسعي أداتها بذر الفتنة وزرع التفرقة بين شعوبنا والتمهيد إلى الاستيلاء الناعم على خيرات دولنا تحت شعارات زائفة تجدد الفكر الأيديولوجي الصليبي الصهيوني المزدوج الذي يخطط له ''خبراء اليمين العنصري المتطرف'' والسياسيون المحترفون لدى الغرب والخدم الأوفياء للوبيات حاقدة وذات مطامع ونهم. فالمغرب العربي بسبب منزلته الاستراتيجية الحاسمة وثرواته الباطنة والظاهرة سيبقى محور الصراعات المعلنة والخفية بين العمالقة والمتعملقين لأنه البوابة الرئيسية لمناطق الأزمات والثروات معا إلى جانب حدوده البحرية مع الغرب وحدوده الصحراوية مع القارة الأفريقية التي تشكل حسب اتفاق الخبراء مستقبل الإنسانية في الطاقة والمعادن والغذاء والمياه.

لقد ظل المغرب العربي في القلوب والضمائر مثلا أعلى و قيمة سامية تدفع الجماهير إلى الكفاح والتحرير ثم في مرحلة الاستقلال إلى التعاون والوحدة، و لكن مع الأسف ضاع ذلك الرمز في مهب الاختلافات الجذرية بين الأنظمة السياسية والأمزجة الشخصية منذ أول عهد الاستقلال، بل وصلت المملكة المغربية والجزائر إلى حد حرب الرمال، وابتعد حلم التعاون الضروري والحيوي المخطط بين البلدان الشقيقة وتدنت نسبة التبادل التجاري والصناعي البينى من المبادلات الاقتصادية المغاربية.

لقد عجز الاتحاد المغاربي حتى على ضمان الحد الأدنى من المكاسب لمواطني دوله، كالسفر بالبطاقة الشخصية أو إلغاء التأشيرات، أو تطوير خط السكك الحديد الرابط بينها، وعوض أن تكون المناطق الحدودية بين الدول المغاربية الخمس مناطق تنمية وتكامل، تحولت إلى مناطق حذر وريبة بخاصة مع بروز شبكات إرهابية وتشعب ارتباطاتها في ظل الوضع الأمني الرخو في ليبيا وتعقد المشهد الأمني في المناطق الجبلية الحدودية بين تونس والجزائر. وللأسف المأسوف عليه، فقد توجهت كل دولة من دول المغرب العربي إلى الشريك الأوروبي بمفردها منعزلة عن محيطها الإقليمي الطبيعي، فاستفردت القوى المهيمنة على كل منها على حدة، وأضيف لهذا الوضع المعيب جو من التطاحن الإيديولوجي الأجوف بدأ مع أحمد بن بلا وانتهى مع العقيد القذافي، وكاد يدخل بهذا الجناح الشمال إفريقي في متاهات الصراعات المسلحة المدمرة للشعوب وفي تلاعب القوى العظمى والمتوسطة لفرض مناطق النفوذ والهيمنة على حساب مصالح الأمة المغاربية الواحدة. 

وبالرغم من أن محاولة توحيد شعوب المغرب العربي الخمس (ليبيا تونس الجزائر المملكة المغربية موريتانيا) فشلت سنة 1989 منذ ولادة الاتحاد المغاربي على أيدي زعماء ذلك الزمن وبالرغم من أن العواصف الهوجاء زلزلت شعوبه وأضعفت دوله أو أربكتها منذ ما سمي بالربيع العربي منذ 2011 فإن هذا الإقليم يقع جغرافيا وتاريخيا في قلب ثلاث قارات جاورتها الأيام والمحن وهي أوروبا وإفريقيا وآسيا مما يضع دول المغرب العربي أيضاً في قلب التحولات الكبرى على مستوى السياسة والحضارة ومما يجعلها كذلك هدفا لكل المطامع الأجنبية والتدخلات الاستعمارية والمخاطر الإقليمية في لعبة الأمم الجديدة. 

وحين نقرأ كتب التاريخ من ثلاثة آلاف عام، ندرك أن قدر هذه الشعوب هو أن تتوحد وتتفاعل فقد كانت بالفعل أمة مغاربية واحدة منذ العصر الفينيقي وأبطاله الذين قهروا روما وسادوا البحر الأبيض المتوسط وهم أبطال مغاربيون أمثال حنبعل وأميلكار، ومنذ العهد الروماني بعده وعاصمته قرطاج سيدة البحر، كما اشترك المغاربيون في كتابة تاريخ البربر الأوائل من عهد الكاهنة إلى عهد ماسينيسا، إلى أن جاء الفتح الإسلامي المبارك وأسس مدينة القيروان عاصمة مملكة إفريقية التي أعطت اسمها إلى كل القارة الإفريقية، وانطلقت فتوحات القيروان الإسلامية المغاربية إلى الأندلس وإلى جنوب أوروبا وإلى القارة السمراء، فأنشأت حضارة تدين بالإسلام وتنشره بالحكمة والموعظة الحسنة وإشاعة السلام والعلم، وتأسست بيت الحكمة في القيروان منارة للطب والصيدلة والفلك والجغرافيا والرياضيات والقضاء. 

وبعيداً عن كتب التاريخ، واستحضاراً للحاضر، فقد أطل من شرفة القصر البلدي بمدينة مراكش المغربية بتاريخ 17 فبراير1989، قادة كل من المغرب وموريتانيا والجزائر وتونس وليبيا ليعلنوا قيام اتحاد دول المغرب العربي، لقطة الأرجح أنها الأولى والأخيرة التي جمعت الراحلين الحسن الثاني والشاذلي بن جديد ومعمر القذافي مع زين العابدين بن علي ومعاوية ولد الطايع. وللأسف فالأزمة الكبرى الطويلة التي عطلت التنمية والتعاون والسلام في دول المغرب العربي تتجلى في أزمة الجزائر والمغرب ! فعند قيام هذا الاتحاد كان هناك اتفاق ضمني على ألا تشكل قضية الصحراء المزمنة بين الجزائر والمغرب والقائمة منذ 1975 حجر عثرة أمام عمل الاتحاد وتقوية العلاقات بين أعضائه. 

وضعت هذه القضية على الرف عساها تجد المسار الملائم للحل دوليا دون أن يجري إقحامها ضمن جدول عمل الاتحاد فتصيبه بالشلل. كان ذلك تفاهما جيدا لكنه لم يستطع الوقوف على رجليه فهذه القضية التي تسمم العلاقة بين الجزائر والرباط ما كان يمكن تجاوزها بهذه السهولة ولهذا أدى الفتور بين البلدين وأحيانا التوتر إلى إصابة الاتحاد المغاربي بالعدوى فما استطاع أن يقوى أو يتجاوز. وهذا الملف المعيق لكل وحدة مغاربية نشأ مع جلاء الاستعمار الأسباني عن المنطقة سنة 1975 وبلغ الأمر بين الجارتين الشقيقتين (المغرب و الجزائر) درجة الحرب في مرحلة ما بين 1975 و 1976 و تمسك كل طرف بموقف حاد وتعاقبت الوساطات أميركية وفرنسية وعربية وأممية دون جدوى. وفي أي حال، بات واضحا أن هذا النزاع، الذي حال دون قيام علاقات طبيعية بين الجزائر والمغرب، لم يعُـد عثرة أمام تطبيع العلاقات بينهما، وأنه (أي النزاع) لعب الدور الأساسي في تجميد مؤسسات اتحاد المغرب العربي، الذي يجمع منذ 1989، إلى جانب البلدين، كلا من ليبيا وتونس وموريتانيا.

وأصول الأزمة في العلاقات المغربية الجزائرية ميداناً يحتاج إلى شجاعة كبيرة وموضوعية عالية، لكثرة الألغام والقنابل الموقوتة فيه. فالعلاقات المغربية الجزائرية ساءت كثيرا مع مجيء الاستعمار، وازدادت سوءا مع رحيله، ولم يستطع السياسيون في البلدين التحرر من بقايا الاستعمار ومشاكله، ولا تجاوز الأزمة، والعودة إلى أصول الأزمة هو عين الصواب لفهم أي مشكلة، فكيف إذا كانت المشكلة عويصة تولدت عنها مشاكل أخرى مثل العلاقات بين المغرب والجزائرويمكن اعتبار الأزمة المغربية الجزائرية النموذج الأمثل في هذا الباب، إذ تتفاعل العوامل الجغرافية والتاريخية والسياسية وتتداخل وتتشابك وتتقاطع كلها خلال مسافات زمنية تتباعد وتتقارب، اندلعت خلالها أزمة تلو أخرى من حرب إيسلي إلى حرب الرمال (1844 ـ 1963) وما زالت تداعياتها حاضرة وبكل قوة في مسيرة العلاقات بين الشعبين الشقيقين. وإذا كانت العلاقات الدولية تطبعها صراعات خاصة بين بلدان الجوار التي تتطاحن على مشاكل الحدود، فالمغرب والجزائر لم تخرجا عن هذه القاعدة. فالعلاقات بين المغرب والجزائر مرتبطة بقضايا تاريخية وأخرى تتعلق بتدبير الجوار أو في إطار المنافسة واختلاف التصور حول بعض القضايا الهامة التي تعرفها المنطقة كالإرهاب والهجرة غير الشرعية وغير ذلك.

صحيح أن البلدين الشقيقين بينهما تاريخ طويل من الجفاء والعداء، لكن توتير العلاقات إعلامياً، في ظل الظروف الإقليمية والدولية الحالية التي تفرض التنسيق والتعاون في جميع المجالات، يأتي لأسباب غير إعلامية تروم صب الزيت على نيران العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين. وتظهر تجليات التأثير السالب للإعلام في السياسات الخارجية، التي بات من الواضح أنها تدور في أفلاك المنابر الإعلامية للبلدين الجارين، التي لم تستطع الخروج من ذهنية العداء والعداء المضاد، وتتعامل من منطلق فرضية ثابتة تكاد تكون صنماً إعلامياً، تفيد أن المغرب والجزائر لا يمكن أن يكونا إلا في وضع العداء والصدام. وأصبح مؤكدا أن المغرب والجزائر الذين يجمعهما الكثير ويؤهلهما إلى علاقات أكثر عمقاً وثماراً على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وان التعاون بينهما ممكن وبشكل سريع إذا تركتهما لوبيات الإعلام ولم توتر علاقاتهما الثنائية، بشكل يكاد يصبح خطا تحريرياً ثابتاً. وهنا لا تجد من يقول أن على المغرب والجزائر الاستفادة من تاريخ الدول الغربية التي تتحد وتتكاثف اقتصادياً وأمنياً دون اكتراث لملفات التاريخ التي تلم العديد من الحروب الكونية والأحقاد التاريخية بين القوى الغربية.

ومع كل هذا وذاك، فلابد أن قطار المغرب والجزائر سيتلمس سكة انطلاقة جديدة تصالح البلدين الشقيقين، مع مشروع تنتظر تحقيقه منذ القدم، بعد أن تقاسمت ذكرى المقاومة الجماعية للاستعمار لكنها فشلت في ربح رهان الوحدة والتنمية بعد تأسيس كياناتها المستقلة. لكن قبل كل شيء، فلا بد من قراءة تحليلية ونقدية متحررة من رواسب الماضي ونزعة التعالي، للأحداث التاريخية التي أدت إلى حدوث هذه الأزمات لتستفيد منها أجيال الحاضر الموكل إليها بناء مستقبل الشعبين. ويرى المراقبون أن نفخ الروح في جسد دول المغرب والجزائر الشقيقين، لم يعد اختياراً، بل ضرورة حتمية تقتضيها تحولات السياق الإقليمي والدولي. فالصمود في زمن الأزمة البنيوية للاقتصاد العالمي ومواجهة تداعيات الأوضاع الأمنية والسياسية الانتقالية في مرحلة ما بعد الربيع العربي، ولاسيما أخطار الانهيار الأمني في منطقة الساحل والصحراء بات رهناً بإرساء إطار تفاوضي وتكاملي وتضامني بين المغرب والجزائر.

فالبلدين تواجههما مشاكل وقضايا موحدة ومشتركة، أليس تاريخهما ضاربا في أعماق الزمن؟ ولا يمكن حل هذه القضايا والمشاكل بدون التعاون والتآزر، وأي تأجيل لا يمكن إلا أن يجعلها تتفاقم مع الزمان، على رأس هذه القضايا: قضية التنمية البشرية التي تعطلت، وقضايا التطرف الديني والهجرة السرية، باعتبارهما مشكلتين طارئتين، والأمازيغية بصفتها قضية ثقافية واجتماعية. إنها قضايا جوهرية، ولا تستأهل أي تأخير، وليس بخوض الحروب الإعلامية... يمكن مواجهتها.

وكل ما يتمناه كل مغربي وجزائري شريف وعاقل ومحب لوطنه ولشعبه، أن تطوى الصفحات الماضية السوداء وتفتح صفحات جديدة بيضاء. لكن متى سيتحقق ذلك؟ سيتحقق عندما يتحمل المفكرون والمؤرخون والمثقفون النزهاء، من مغاربة وجزائريين قبل غيرهم من السياسيين والعسكريين، ورجال المال والأعمال مسؤوليتهم التاريخية والوطنية، لردم الهوة التي تصطنعها السياسة عندما لا توظف لخدمة الأجيال القادمة، لابد من  عقد حوارات فكرية وتاريخية مشتركة لاستخلاص الدروس والعبر من هذه الأزمات التي عطلت مسيرة البلدين الإنمائية، وأضرت بالمصالح الحيوية للشعبين.

خلاصة الكلام: الاتحاد المغاربي، كما انتظم في معاهدة مراكش، فشل وينبغي التفكير في شيء جديد، والمتأمل في واقع هذا الاتحاد، يلاحظ أنه لم يعد له من الماضي شيء، وأن التوجه الجديد هو قيام نظام مغاربي جديد، وهو ما أكده العاهل المغربي الملك محمد السادس حين عبر عن رغبته في قيام ''نظام مغاربي جديد يأخذ في الاعتبار التغيرات التي حصلت في ليبيا وتونس''.