خاص بوابة افريقيا للاخبار 

 قد لا يجانب المرء الصواب بالقول أن لا أحد ، لا في شرق الكرة الأرضية ولا في غربها ، كان يتوقع أن تشكل ثورة الياسمين في تونس في ديسمبر 2011  نواة ما أصبح لاحقا "تسونامي" سياسيا هادرا دق أبواب ثمانية بلدان عربية ،  أطاح بأربعة من قادتها ( الرئيس التونسي زين العابدين بن علي هرب ، والرئيس المصري حسني مبارك اعتقل ، فيما قتل معمر القذافي وتنحى الرئيس اليمني علي عبد الله صالح بموجب مبادرة خليجية ) فيما لا زال الخامس, الرئيس السوري بشار الأسد ، مجهول المصير ..و لم يخطر ببال الدول الكبرى في الإتحاد الأوروبي أن يقع ما وقع جنوب المتوسط ، حيث بدا صناع القرار الأوروبي على قدر ليس بالهين من الارتباك والحيرة ..

ذهول وارتباك في المشهد الأوروبي

فيما لاذت بعض العواصم الأوربية بالصمت حيال ما يجري لدى الجيران الجنوبيين ، والثورات تقرع أبواب عرب الضفة الجنوبية بابا بابا تقريبا ، لم تخف عواصم أوروبية

أخرى دفاعها ، باستماتة أحيانا ، عن رجال آيلين للسقوط ... فهذه وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة ميشيل أليو ماري تعرب في الأيام الأولى للثورة التونسية أمام برلمان بلادها عن استعداد باريس لمساعدة نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي في الحفاظ على الأمن.. وهو ما اضطرها لاحقا لتقديم استقالتها بعد الجدل الذي أثاره موقفها هذا..

 أما وزير خارجية إيطاليا السابق فرانكو فراتيني فذهب فجر الثورة الليبية إلى حد المطالبة بضرورة  "دعم الحكومات من المغرب إلى مصر بقوة لأن قادتها أقاموا دولا علمانية صدت الأصوليات".. بيد أن استحكام الثورة في مصر، أكد للأوروبيين أن الأمر ليس مجرد إحراق شاب نفسه أوحدث منفرد في تونس ، بقدر ما هو مؤشر إلى مرحلة عربية جديدة بعناوين غير مسبوقة.

وقد سُجلت مآخذ مختلفة على الموقف الأوروبي بسبب قصوره عن الاستيعاب المبكر للتحول الجاري في العالم العربي بوصفه هبة نابعة من الشعوب.. وحتى في أفضل حالات التفاعل في المرحلة الأولى ، كانت أوروبا تميل إلى تركيز تفكيرها على سبل ضمان أمن إسرائيل في هذا الخضم العربي المتحرك ، وهو تراجع أوروبي موقت عن الاهتمامات التقليدية التي كانت تدور حول الإرهاب ودور الإسلاميين والهجرة السرية ، لكنه لا يرتقي إلى تطلعات الشارع العربي بالتأكيد.

يمكن القول إجمالا إن الاوربيين (والغرب عموما) بدوا متجاوزين في بادىء الأمر .. وهو ما يثير بعض الغرابة على اعتبار أن الدول الغربية كانت حتى عهد قريب (عام 2004 ) تروج لماسمي في حينه مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي دعا إلى إصلاحات محدودة بهدف معلن: "تنفيس الضغط على الشعوب العربية" ، وهو مشروع تم  التراجع عنه تدريجيا بسبب ردات فعل النخب السياسية الحاكمة وحتى النخب المثقفة في العالم العربي وخوف الغرب من تأثير المشروع سلبا على مصالحه في المنطقة..

محاولات التفاعل والإمساك بخيوط المشهد

في مارس 2011 ، أخذت بعض المواقف الأوروبية في التشكل بشأن ما يجري على ضفتها الجنوبية ، وذلك بعد فترة غير قصيرة من التحفظ .. وبدأت بعض العواصم الأوروبية تصدر ردودا "جريئة " وواضحة في محاولة  للتفاعل مع الأحداث.. ففي خطاب ألقاه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أمام سفراء بلاده في العالم أقر أنه كانت لفرنسا "علاقات مع أنظمة لم تكن مثالا في الديمقراطية" مؤكدا "أن نهضة الشعوب العربية وتوقها للحرية يسمحان لفرنسا بالاستناد إليهما لوضع حد لمبدأ الاستقرار الذي كان يجعل باريس في حالت تناقض دائمة بين القيم التي كان يجب الدفاع عنها وحقيقة الواقع المعاش.. واليوم ثمة فرصة للتوفيق بين الواقع والقيم".. وفي المناسبة عينها ، اعلن وزير الخارجية الفرنسي السابق آلان جوبيه أن "الثورات الجارية جنوب المتوسط تدفعنا لتغيير نظرتنا إلى تلك المنطقة وإلى ابتداع طريقة جديدة في ممارسة الدبلوماسية"

وفي مابدا محاولة عملية لمجاراة للإيقاع العربي الثوري ، حاول الاتحاد الأوروبي صياغة "الجوار الأوربي" أو سياسة الحوار الجديدة كما أطلقتها كارتين أشتون ممثلة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي في ربيع 2011 ، و"هي شراكة جديدة من أجل الديمقراطية  والازدهار المتبادل في جنوب المتوسط" 

وبينما شدد وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه في كلمة أمام برلمان بلاده في 30 مارس 2011 على " واجب أوروبا في دعم بزوغ منطقة استقرار وازدهار في جوارها الجنوبي المباشر" ، قدمت الخارجية الالمانية في ابريل 2011 بالتقدم عرض شراكة لمصر " من أجل التحول الديمقراطية من خلال مساعدات محددة على أساس من الندية والشراكة ودعم المجتمع المدني "

من التدخل المباشر في الثورات إلى الانكفاء

على نقيض تونس ومصر، جاءت ثورات ليبيا وسوريا واليمن على إيقاع مسترسل ومأزوم ، وهو ما منح للساسة الأوربيين الوقت والفرصة  للإمساك بخيوط الأزمة السياسية المعتملة جنوب صفة المتوسط.. وبدت فرنسا أكثر  الأطراف الأوربية  حرصا على عدم تكرار أخطاء الانطلاقة والأكثر استعدادا للدخول في خط الثورات.. فرأيناها تحمل لواء العمل العسكري في ليبيا، بعد أن تلكأت كثيرا في الحالتين التونسية والمصرية..  صحيفة لوموند واسعة الانتشار لم تفوت فرصة انتقاد هذا التلكؤ في

افتتاحية لاذعة في اليوم الذي تلا هروب بن علي" لقد انتظرت باريس يوما كاملا بعد رحيل بن علي لتعلن أنها تقف إلى جانب المطالبين بالديمقراطية "

 وإذا كانت الحماسة الفرنسية للتدخل العسكري قد حسمت الأمور في ليبيا لصالح من نزلوا إلى الشوارع ، فإن تحمسها للعمل العسكري ضد الأسد لم يُجد شيئا بسبب حسابات جيوجياسية وإقليمية  متعددة ، رغم ان قمع نظام الأسد للمدنيين لم يكن أقل شراسة من قمع القذافي لمواطنيه. . وكان، أن جر اقتصار "التدخل الخشن" على ليبيا، على فرنسا والدول الغربية بشكل عام انتقادات واتهامات بالانتقائية في التعاطي مع الثورات العربية من قبيل أن الغرب تدخل في ليبيا ليس من أجل سواد عيون الليبيين ودعم رغبتهم في الانعتاق والحرية ، ولكن لحماية مصالح أوروبا النفطية الغربية والآفاق الاستتثمارية في واحد من أهم "الحقول" جنوب المتوسط .

على أن انحراف الثورات عن مسارها وأهدافها ، فضلا عن ركوبها من إخوان ومتطرفين ، عوامل حالت دون زهر "الربيع العربي" الذي استحال  "شتاء قارسا" فتح أبواب الدمار والخراب على بلدان وأجيال بأكملها ... إذ برهنت هذه الجماعات والأحزاب الدينية أنها لا تدور حول الوطن بقدرما تلهث وراء أهداف مشبوهة، وهو ما حمل الأطراف الأوروبية على إعادة حساباتها مرة أخرى، وسحب دعمها والعدول عن انحيازها لهذه الجماعات الدينية التي نجحت في لعب دور الضحية في الماضي،

وتمكنت من ركوب موجة الثورات في العالم العربي ، فقط لتفوت على شعوبه فرصة تاريخية للتغيير الحق. وتضيع صرخة المواطن التونسي الشهيرة : لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية..