ضمن الأدبيات الأكاديمية حول المنظمات الجهادية هناك فراغ كبير في ما يخص المجموعات المتحولة لتصبح شيئا أكثر من مجرد فاعلين عنيفين، فالكثير منها ينشط كحركات اجتماعية أيضا، في حين ألا أحد ينكر هذا التحول، لم يُكتب حول هذه المسألة إلا القليل، ما عدا نصوص صغيرة الحجم وغير أكاديمية. وإلى حد الآن ليست هناك سوى أمثلة من النشاطات الدعوية المحلية والخدمات الاجتماعية وجهود شبه حوكمية، وإن كانت التنظيمات تتكلم عن أيديولوجيا وهدف عابر للدول، لكن هذا التوجه لم يعد صحيحا فالدلائل الجديدة تفيد أن أنصار الشريعة في ليبيا تقوم بهذا النوع من النشاطات ليس فقط في ليبيا بل في الخارج أيضا.

يكتسب تنظيم أنصار الشريعة في ليبيا عددا من الهويات، فهو من جهة جمعية خيرية ومصلحة أمنية ومزوّد للخدمات الصحية والتعليم الديني، ومن جهة أخرى هو ميليشيا ومنظمة إرهابية وتدرب الأفراد على الجهاد في الخارج. وتتميز حركة أنصار الشريعة في ليبيا بأنها التنظيم الجهادي العالمي الوحيد الذي يكتسب حملة دعوية عالمية وبانتشاره غير المسبوق يفند القول بأنه يقتصر على أهداف محلية بل هو في الواقع يحاول التواجد بقوة على المستوى العالمي بالاعتماد على المساعدات والدعوة إلى قراءاته المتشددة للأسلام.

ونظريا نستطيع القول إنه يوجد طيف من التنظيمات الجهادية المركزة تماما على الجهاد العنيف على المستوى المحلي أو الدولي ولكنها تستعمل الدعوة كمبدأ تنظيمي أساسي. كما توجد حالات مختلطة حيث لا تكون الغلبة للنشاط الدعوي ولا للعنف، بيد أن هذه الأصناف من التنظيمات ليست بالضرورة جامدة، إنما يمكنها التغير حسب العوامل الداخلية والخارجية.

كانت النزعة الأبرز داخل الحركة الجهادية العالمية بعد الانتفاضات العربية لسنة 2011، قدرتها على تخطي “الصندوق” الإرهابي، فضلا عن إضافة أدوات أخرى من أجل توسيع قاعدتها غير الشرعية. صحيح أن حركة “الشباب المجاهدين” في الصومال كان لها قبل 2011 نشاطات دعوية لكن هذه التقاليد أصبحت منتشرة بوجود فضاء مفتوح وتوفر الحريات الجديدة أو الأراضي المحررة، حسب السياق المحدد لكل بلد. لقد مكن المزيد من الحريات المجموعات الجهادية العالمية من اليمن إلى تونس وليبيا وسوريا من التحول إلى تنظيمات ذات أهداف متعددة.

إن تنظيمات مثل القاعدة في شبه الجزيرة العربية وأنصار الشريعة في اليمن وكذلك مجموعات في سوريا مثل جبهة النصرة، وبدرجة أقل داعش، أصبحت قوى تمرد حقيقية وتعتمد على السكان مثلما يعتمد السكان عليهم. وربما كان ذلك تطبيقا للدروس المستخلصة من فشل تنظيم القاعدة، سلف داعش في بلاد ما بين النهرين، في احتلال الأرض في العشرية الماضية، إذ أصبحت أكثر قدرة على التعامل مع السكان المحليين.

وفي المناطق الخالية من الحروب تمكنت حركة أنصار الشريعة في ليبيا مع المنظمة الأخت المجاورة أنصار الشريعة في تونس من التحول إلى حركتين اجتماعيتين فعليتين في كلا البلدين.

وفي حين كانت حركة أنصار الشريعة في تونس تنظيما وطنيا نوعا ما من البداية، كان على أنصار الشريعة في ليبيا حشد الدعم لقاعدتها في بنغازي ومناطق أخرى مثل طرابلس وأجدابيا وسرت ودرنا وخليج سدرة وغيرها. وكان هذا النجاح نتيجة لجهودها الدعوية وتوفير الخدمات مثل توفير الغذاء والعناية الصحية والتعليم الديني وغيرها من الخدمات كمساعدة الفقراء.

كما ساعد تنظيم أنصار الشريعة في ليبيا على إصلاح الطرقات والجسور وترميم منازل الفقراء والمحتاجين وتوفير لحوم الأضاحي لهم في الأعياد، كما توسطت في حل الخلافات بين القبائل.

إن الشيء الذي جعل أنصار الشريعة في ليبيا تنظيما بارزا هو تدويل حملاتها الدعوية وتصديرها إلى مناطق خارج الحدود الليبية، وذلك في انسجام مع مفهوم الأمة الإسلامية المتخيّلة التي لا تعترف بالحدود القائمة.

ومن ذلك قام التنظيم بعدد من الحملات من أجل أهل بلاد الشام وغزة والسودان. وفي الحقيقة كانت الحملات في سوريا وغزة محدودة، لكن التنظيم برهن على قوته التنظيمية وإمكانياته في حملته في السودان في أواخر أغسطس وبداية سبتمبر سنة 2013. وكانت غاية هذه الحملة تقديم المساعدة على إثر الفياضانات التي اجتاحات أجزاء واسعة من البلاد وخلفت أضرارا جسيمة، إذ دمرت أكثر من 25 ألف مسكن وقتلت قرابة خمسين فردا.

وكان أعضاء التنظيم خلال هذه الحملة لا يخفون دلائل انتمائهم وهو ما يبين أن حركة أنصار الشريعة في ليبيا غير قلقة من النظرة تجاهها أو العجز عن العمل بسبب نشاطها الإرهابي وغيره من النشاطات غير الشرعية داخل ليبيا.

لقد كانت المساعدات في إطار هذه الحملة كبيرة، تحتوي على الأطنان من الأدوية والحبوب والخضر والحليب للأطفال، إلى جانب الملابس والزرابي لأرضية المساجد.

وكانت كل السلع تحمل شعار أنصار الشريعة وتمكن التنظيم من تجميعها وإيصالها علنا وبأمان إلى مطارالخرطوم. وبعد أشهر، في الفترة من 19 إلى 23 يناير 2014 برهنت حركة أنصار الشريعة مجددا عن قدراتها التنظيمية في الخارج بإرسالها المساعدات بنفسها وعلنا إلى سوريا، وكانت قد جمعت عشرات الآلاف من الدولارات للقيام بهذه المبادرة بالذات. وكما كان الشأن في السودان لبس الرجال المشاركون في توزيع المساعدات على هذه القرى السورية قمصانا وسترات تحمل شعار أنصار الشريعة، كما كانت صناديق المساعدات تحمل الشعار أيضا.

وكانت آخر حملة نفذت في 24 يناير 2014، حيث جاءت ردا على قصف جوي إسرائيلي على قطاع غزة. وهذا يحيل إلى إمكانية امتلاك شبكة هذا التنظيم منخرطين في غزة نظرا إلى سرعة إنجاز الحملة. هذا الاحتمال يصبح منطقيا أكثر على ضوء المعلومات التي تفيد أن تنظيم أنصار الشريعة في ليبيا صحبة تنظيم أنصار الشريعة في تونس وتنظيم أنصار الشريعة في مصر كانت تلقت على الأقل المشورة من السلفيين الفلسطينيين حول الإدارة والتنظيم والتصرف خلال سنة 2012.

وعلى ضوء كل ما ورد، هناك إمكانية بأن التنظيمات الجهادية، في المستقبل، لن تكون مهتمة فقط بالإرهاب والتدريب في الداخل أو في الخارج لكنها ستقوم بتصدير حملاتها الدعوية المحلية إلى الخارج لتسهيل نشر فكرها عبر دوائر جديدة، وبالطبع للتمكن من تجاوز الحلبة المحلية، مثلما فعلت مجموعة أنصار الشريعة في ليبيا، يتوجب توفر الكثير من التنظيم والموارد والأموال والعلاقات في بلدان أخرى للتمكن من تسهيل وقبول الحملة وخاصة عندما تكون علنية بشكل واضح برغم تصنيف المجموعة كتنظيم إرهابي.

وهذا يضيف مستوى آخر لمعنى الجهاد العالمي وكيفية محاولة المجموعات الإرهابية المتعددة تشريك الناس خارج مناطق العمليات المحلية. وسيكشف المستقبل هل ستنجح هذه المقاربة الجديدة المعتمدة على القوة الناعمة أم أنها كانت نتيجة القيود القانونية أو القدرة على العمل في الخارج بطريقة شرعية؟.

وعلى الأقل تقيم مجموعة أنصار الشريعة في ليبيا الدليل على أن لها القدرة على التحرك عبر البلدان وأن لها أهدافا ومشاغل أوسع خارج الحدود الليبية. ويمكن القول إن أنصار الشريعة في ليبيا هي بالفعل أول تنظيم جهادي دعوي عالمي حقيقي.

* باحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى

*العرب الدولية