رأى الباحث المغربي وأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية عبدالله أبوعوض الحسني، أن ما يقع من تغيرات دولية وتحالفات، جعل الموقف الفرنسي يعي جيدا، أن لغة الأريحية التي كان يفاوض بها دول شمال إفريقيا لم تعد تجدي نفعا. وقال الحسني في مقابلة مع "بوابة إفريقيا الإخبارية"، إن "التراجع الفرنسي يصب في صالح المنطقة المغاربية، لأن المنطقة المغاربية تميل الآن إلى مراعات مصالحها لحماية أمنها واستقرارها الاجتماعي"... وإلى نص الحوار

- صراع مصالح الدول الكبرى دبلوماسيا بدأ يقايض العلاقة الفرنسية بدول المغرب العربي.

فرنسا وشمال إفريقيا اقتربت لغتهما إلى حد التنازع في الآونة الأخيرة.

المشهد المقبل سيكون مليء بالمفاجأت الدولية عامة، وستنعكس لا محالة على المنطقة المغاربية.

فرنسا قد تغيب من شمال إفريقيا إن لم تعد ترتيب أوراقها.

بداية..كيف تابعتم تراجع النفوذ الفرنسي في دول المغرب العربي؟

ما دام السؤال مرتبط بالمغرب العربي، فهو في الحقيقة ليس من المسلمات التي يمكن طرحها الآن، بل العلاقات الفرنسية بدول المغرب العربي لا زالت تعرف ارتباطا وثيقا على مستويين، الاقتصادي بتبادل المصالح الاقتصادية والثقافية باعتماد اللغة الفرنسية كلغة للتداول الإداري وحتى العلمي، غير أن صراع مصالح الدول الكبرى دبلوماسيا بدأ يقايض العلاقة الفرنسية بدول المغرب العربي، من خلال انفتاحه المرتبط بمصلحته أولا وأخيرا، غير معترف بالحقبة الاستعمارية الفرنسية التي رسخت شروطها على تلك الدول بعد مطالبتها الأخيرة بالاستقلال. والتوترات التي ظهرت مؤخرا بين الجزائر وفرنسا إلى حد منع الطائرات الفرنسية من المرور على السماء الجزائرية، أو محاولة نعت المغرب بالتجسس على مسؤولين فرنسيين أو قضية التأشيرات التونسية وارتباطها بالإسلام، كل هذا لا يمنح الجزم بتراجع النفوذ الفرنسي بالمغرب العربي، وهو ما ترجم في سرعة جمع هذا التوتر بسرعة دبلوماسية متينة. 

هل فقدت باريس "حديقتها الخلفية" في شمال إفريقيا؟

مصطلح حديقتها الخلفية حسب ما تم تداوله سياسيا فيما مضى، مركب خطأ، فالدول التي استعمرت من طرف فرنسا، غالبيتها أخذت استقلالها بلغة القوة ثم المفاوضات، ما يعني أن لغة المفاوضات ترتبط بجانب المصلحة، أكثر من أي شيء آخر، فرنسا مع شمال إفريقيا اقتربت في الآونة الأخيرة لغتهما إلى حد التنازع، والسعي لحماية المصلحة، مع التلميح أن دول أخرى تريد إفريقيا كمنجم عن طريق شمال إفريقيا.

ماذا عن الامتيازات الاقتصادية وتراجع النفوذ الفرنسي لصالح قوى إقليمية أخرى؟

وهو صلب النقاش، فما يقع من تغيرات دولية وتحالفات، جعل الموقف الفرنسي يعي جيدا، أن لغة الأريحية التي كان يفاوض بها دول شمال إفريقيا لم تعد تجدي نفعا، فشمال إفريقيا هو ترجمة لطريق الحرير بالنسبة لدولة الصين، وهو كذلك بوابة استراتيجية للمصالح الأمريكية، وتحالفات للإيديولوجية العسكرية الروسية، وتطلع لتجديد الدور الريادي لإسبانيا، ومفاجأة للألمان بما فرضته دول شمال إفريقيا من استيعاب للغة المصلحة التي تنفتح بها على العالم، كل ذلك يضعف من النفوذ الفرنسي الذي مال في الأخير لإعلان الحرب الإيديولوجية باسم الحرية على المقدسات الإسلامية، والتي هي في صلب العقيدة الموحدة لدول شمال إفريقيا، بدل من الاهتمام بالانفتاح الاقتصادي واحترام التغير الذي طرأ على هذه الدول.

ما أسباب هذا التراجع وتأثيراته على باريس ودول المنطقة؟

يمكن إيعاز أسباب هذا التراجع إلى عاملين:

- العامل الاستراتيجي، والمرتبط بالسهو الفرنسي عن ما تعرفه دول الشمال الإفريقي من تغيرات جيوسياسية داخليا، وكذلك عدم استيعاب الانفتاح تحت مبدأ الاحترام على المتغير السياسي لهذه الدول، فالنظرة الاستعلائية لصناع القرار الفرنسي استغلت بمنطق العكس من الدول الكبرى التي فتحت سبل التعاون والشراكات تحت مبدأ الندية والاستفادة المشتركة.

- العامل الاقتصادي، وهو المبني على اعتبار أن دول شمال إفريقيا، كسوق مفتوح للشركات الفرنسية الكبرى، وهو ما جعل هاته الدول أن ترى جانب مصلحتها أولا باعتبار منسوب الوعي العام الداخلي، صار واعيا ومراقبا لتوجهات مؤسسات الدولة وضاغطا عليها.

لذا فالدولة الفرنسية ملزمة بإعادة تنظيم آليات الاشتغال مع هذه الدول لتحافظ على مكانتها داخلها.

التراجع الفرنسي هل يصب في صالح باريس أم المنطقة المغاربية؟

طبعا يصب في صالح المنطقة المغاربية، فكما سبق وأشرت أن الدول العظمى، لا تعترف بالنفوذ المصلحي المرتبط بالحقبة الاستعمارية، لأن لغة العولمة صارت ترجمة حقيقة للغة المصلحة الاقتصادية والامتداد الثقافي، والمنطقة المغاربية تميل الآن إلى مراعات مصالحها لحماية أمنها واستقرارها الاجتماعي، والانفتاح الاقتصادي الأخير لهذه الدول مثلا على الصين لدليل على أن اللغة الدبلوماسية تحت منطق المقايضة المنفعية المشتركة التي تتبناها الصين، قد بدأ يعطي ثماره لهذه الدول ويسحب البساط من الدولة الفرنسية التي صارت تتراجع دبلوماسيتها في اكتساب رهان البقاء الشامل في جوانب المصلحة الذاتية مع هذه الدول.

من وجهة نظرك.. كيف يمكن لدول المنطقة المغاربية الاستفادة أو استغلال هذا التراجع لصالحها؟

بصفة عامة، ما يعرفه العالم الآن من تحولات سياسية كبرى، وبروز قطبيات جديدة ك (بريكس) أو غيرها، ليدفع قدما إلى صناعة قطبية بشمال إفريقيا تعتمد مقاربة سياسية واقتصادية وثقافية، لتحافظ هذه الدول على استمراريتها وشرعيتها داخل مجتمعاتها، فهذا التراجع هو مؤشر إيجابي على تحرر هذه الدول من الارتباط الوحيد، إلى خلق ارتباطات تتوحد فيها المصالح وتتقاسم، فلغة القوة الآن تختلف عن منطق الابتزاز، لأن القوة في هذا الوقت هي باسم المنفعة المشتركة والانفتاح المنضبط بالاحترام.

ما ملامح المشهد خلال المرحلة المقبلة؟

المشهد المقبل سيكون مليء بالمفاجأت الدولية عامة، وستنعكس لا محالة على المنطقة المغاربية، فمؤشر الطاقة يعطي تشتت في الاتحاد الأوروبي، والحرب الروسية على أوكرانيا توحي بغياب القطبية الواحدة، وبروز قطبيات متعددة، فمن العالم الجغرافي المبني على القارات أو السياسي المبني على الاتحادات، إلى عالم مبني على القطبية الاقتصادية والقطبية العسكرية والقطبية الإيديولوجية وهكذا.

وبالنسبة لفرنسا إن لم تعد ترتيب أوراقها باعتماد لغة الاحترام والبعد المشترك في ما يسمى بالمنفعة المزدوجة، قد تغيب من شمال إفريقيا، ومن إفريقيا كما حدث مع بعض الدول الإفريقية التي تبنت المدرسة الأنجلوساكسونية رسميا.