في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2009، كنتُ أعبرُ مع أبي الحدود الغربية للبلاد في اتجاه الجزائر، الوجهة الأولى للتجارة الأقل كُلفةً في الرُّسوم الجمركية لسكان المناطق الغربيّة في تونس. "أم الطبول" و"بوشبكة" و"حيدرة" و"حزوة" و"تمغزة" و"ببوش" و"غار الدماء" و"ملولة"، كلها معابر حدودية رسمية  بينهما، وغير الرسمية تقدر بالعشرات. ظلت تلك المعابر، ورغم كل ما حل بالبلدين من عشرية سوداء في الجزائر وانتفاضات شعبية بتونس، تضخ الحياة بالسياح الجزائريين وبتجار تونس على وجه الخصوص.

كنا في اتجاه "بوشبكة" الأقرب جغرافيا لمدينتنا، والأقرب وجدانيا لأبي. هناك حيث يقطن أغلب أبناء عمومته وقبيلته، في تلك المنطقة الممتدة من "سبيطلة" وصولا إلى "فريانة". كانت عيناي تتسعان تدريجيا كلما ابتعدنا عن أضواء "المكناسي" قريتنا الصغيرة التي تبعد نفس المسافة تقريبا عن محافظات "قفصة"، "سيدي بوزيد"، و"القصرين"، في وسط غرب تونس. مدينةٌ محاطةٌ بالجبال من جهاتها الأربع. ولكلِّ جبلٍ منها قصصٌ كثيرة، وولي صالح يحرس قمته. وحيثما سلكت إحدى الاتجاهات ستترحم على أحد أولياء الله الصالحين، ثم تمر.

ترحمتُ وأبي على "سيدي عبد العزيز" رفيق الطريق الوطنية عدد 14 باتجاه "قفصة". وانطلقنا.

 لا يُحب أبي الهدوء عند السياقة. وهذا تقريبًا سبب اختياري لمؤانسته في الرّحلة. يَرفعُ صوت الموسيقي و يُخرِج نصف يده من شباك السيارة. وبين الحين والآخر، حينما يراني أغفو،  يضربني برفقٍ على رأسي، ويضحكُ ساخرًا. يفعلُ هذا باستمرار إلى أن أصرخ وأدير وجهي للنافذة.

لم يكن ثمّة شيء قادرٌ على امتصاص كل ذلك الهرج والضجيج غير أغنية واحدة لفنان الراي المغربي الشاب ميمون الوجدي "آش بَكّاك يا نوارة". وبشكل لافت للانتباه يتكئ أبي للوراء، يشعل سيجارته الكريهة ويغلق النافذة قليلا لتتضح له الكلمات أكثر، ثم  يبدأ بالغناء معها بتنهيدات المتقطعة.

نعيدُ هذه الأغنية عشرات المرات بشكل متتالٍ لدرجة اني كنت أغفو و أستيقظ لأجدها مازالت تصدح. أُعبّر عن سخريتي من تكرارها المُمِل. ولا أفهم كيف لبشرٍ أن يستمع لنفس الكلمات بشكل متواصل؟

لم ينته الطريق الطويل بعد. كان ممتدًا كالحلم، واضحًا كعيون أبي. تسرقُ منه الشمس في ساعات شروقها الأولى ضبابه و غموضه. بدأت سيارات التهريب تلوح في الأفق. سياراتٌ بلا لوحات منجمية يُغلفها الغبار من كل جوانبها وتبدو عرباتها ممتلئة بأشياء تشبه كرات الثلج المغلفة. قال أبي إنها تحمل الملابس الآتية من السوق التركية عبر الجزائر فـ"الرزين"، أي المواد "الثقيلة" كالنحاس والفضة المهربة وحتى قطع السيارات لا نراها صباحا ولا يراها أحد. فهي تعبر سريعة وينتهي بها الحال في مخازن الحرس الديواني أو عند السوق الموازية. أما سيارات البنزين فأصبحت بالشكل شبه العادي تتجول في شوارعنا و تصل حمولتها لدكاكين على قارعة الطريق. ولعل الحكومة نفسها تشتري منهم قبل المواطنين. 

لم يترك أبي للتعب فرصة التمكن مني كان يفتح معي حديثا كلما توقفت عن طرح الأسئلة.

طلب مني تغيير الأغاني إلى حين الوصول لذات الأغنية المكررة. وفجأةً، قال بنبرة حزينة، ولأول مرة، بأن لهُ ذكريات معها. تحطّمت في ذات الثانية صورة أبي العنيد، صلب القلب، ولمحتُ في عينيه طفلاً صغيرًا.

توقفت عندي كلّ التذمرات وصرتُ أحرك أصابعي سريعا. وما إن وصلتُ أغنيتهُ تلك، حتى أصبحتُ مثله هادئة أنصت لكل كلمة يقولها "ميمون الوجدي".

لم أفهم الكلمات بعد، لكن هناك مفردات بدت لي واضحة "دمعتك تسيل، بكاك الحب". كان ميمون الوجدي يقول، وكما أفهمُ الآن: "ما الذي يبكيك أيتها الزهرة؟ ما الذي جعل دموعك تسيل؟ ما الذي آلمك و جعلك تسهرين طوال الليل؟". هذه الكلمات التي تتكرر طوال السبع دقائق ,بدت لي لأول مرة قصيرةً جدًا. أقصرَ من كل تلك المرات التي سمعناها فيها. لم تغفل عيناي ثانية واحدة عن اقتناص ملامح أبي وهو يدندن برأسه مع الأغنية. وكانت عيناه تودُّ قول شيء ما. 

وصَلنا الجزائر. عبرنا كل تلك المرتفعات الجبلية الوعرة. ولم أر شيئا من بنايات "وهران" الشاهقة وصورِ "بجاية" الجميلة. كان كل ما حولي محلات تجارية و طرقًا مكتظة بالسيارات الشعبية والرجال. رجالٌ فقط! 

لم أشاهد فتاة واحدة حتى في دورة المياه المخصصة للنساء. عندما فتحت باب إحداها، صرخ في وجهي شيخ كبير: ما الذي أتى بكِ إلى هُنا؟ و قطع يمينًا واثقًا، أني تُونسية!

في تلك الفترة، كانت السيّاراتُ الشعبيّة تنتشرُ بكثافة في تونس والجزائر، وفي المقابلِ كان الوضع الاقتصادي يتدهور في مناطق الحوض المنجمي التونسيّة وتخومها، تحديدًا بعد أحداث العام 2008 الاحتجاجيّة العنيفة التي كادت تهز أركان النّظام السياسي برمّته، والذي واجهها بكل قوّةٍ وعنف. وبدأ -إثرها- في تشديد الخِناق على التجارة الموازية والمهربين في الوسط الغربي للبلاد، فكانت منطقة "واد سوف" و "تبسة" تمتلئ بالتجار التونسيين، ينهالون هناك على كل شيء. 

بعد أكثر من سبع ساعات من النوم المتقطع، أنهى أبي قضاء حاجياته وأخبرني أنه من الضروري العودة سريعا للمنزل لأن عاصفة بدأتْ تلوح في الأفق. كلُّ مَا فكرت فيه في تلك اللحظة هو أني سأكون مع أبي بمفردنا، مُجددًا، وأن الخجل لن يمنعني من طرح أسئلة عن قصة تلك الأغنية. 

وضعتُ أكياس الشكولاتة وعلب العصير وكل الهدايا التي اشتراها لي تحت قدمي ونظرت له بمكر وتساءلت عن رغبته في أن أغير "الكاسيت" وصولا إلى "أغنيته ". تلك التي أصبحت في نظري، منذ تلك اللحظة، مِلكِيّة خاصةً لوالدي. ولم يكن "الشاب ميمون الوجدي" سوى صوت يقول ما يريده أبي. 

كنت أكره حرس الحدود والمعابر وتفتيش السيارات وكل تلك الرتابة، التي يبدو لي أنّها لا جدوي منها. كنا نقف لساعات طويلة و ننزل من السيارة لمرات متتالية نقطع خلالها أحاديثنا ونبدأ أخرى. يدير لي أبي وجهي كلما نزع أحدهم بنطاله لقضاء حاجته أمامنا بلا إشعار مسبق. 

كان الحرس همجيين ويبدون لي عمالقة برؤوس كبيرة يحملون أسلحة ضخمة ويقذفون أمتعة المسافرين عندما يندلع شجار بينهم. تتعالى ملابس داخلية نسائية وأحذية أطفال في الفضاء وينسكب الزبادي والعصير في القاع. نرى كلابًا كبيرة تشتم علب السيارات الخلفية باحثة عن "الحشيش" وأقراص المخدرات. كنت أريد الطيران فوق ذلك الطابور الطويل بلا وثيقة أو جواز سفر.

أيقظني أبي بصوته يتحدث في الهاتف، وهذا يعني أننا دخلنا حدود البلاد. فتحتُ النافذة و قلت "أين هي أغنيتك؟". ضحك ثم شغل الكاسيت. 

وبلا سؤال مسبق انطلق بالحديث عن ميمون الوجدي رفيق "أيام الزمة" (تعني في العاميّة التونسية "سنوات الجفاف"، ولكنها تطلق مجازًا على السنوات التي يكون فيها ركود اقتصادي). هكذا عبّر عن أيام الأزمات وماضٍ ليس بالبعيد لكنه لا يريد تذكره مطلقا. يتجنب حين يكون مزاجه متعكرا مصادفة أي شيء يجمعه به، عدا ميمون الوجدي وأغانيه.

يقول أبي أنه حين كانت الحياة تطلب منه ثمنًا لكل شيء كان ميمون الوجدي هو الوحيد الذي يسير معه بلا مقابل. لا شيء مكلّفٌ، سوى خيطٍ كهربائي قرب الفراش. حدّثني طويلا عنه وعن غيره من مغنيي الراي بين المغرب والجزائر وحتي التونسيون الذين يتقنون غناء الراي. لكن صوتًا بداخلي كان يصر على معرفة قصة تلك الأغنية بالذّات. كان أبي يشعر بذلك، كان يشعر بكل شيء حولي أكثر من أمي ومن كل البشر. لا أعلم سبب محاولاته الفاشلة في إخفاء أمر ما: حبٌّ قديم، أو ذكرى لا يريد للزمن أن يحركها، رُبَّما.

يصبح الأمر أكثر تعقيدًا، حينما يتعلق الأمر بهزائم الآباء أمام عيون بناتهم. لا يمكنهم مطلقا الانتصار للموضوعية على حسابنا. ولكن أبي أخيرًا روى لي الحكاية!



قال أبي أن أخته هي الوحيدة التي أراد لها القدر أن تعبر معه للمجهول. تركتْ عمتي بيت جدتي عند زواجها، والتحقت بوالدي إلي بيت خالهم الكبير. وظلت -رغم مكابرة الجميع بقول ذلك- تشتغل شبه معينة منزلية في البيت، قبل أن يستقل والدي عن خاله ماديا ويشتغل لحسابه الخاص.

كان يعود للبيت الكبير ولا يريد رؤية أي حزن في عيناها ولا أي قلق. كان بمثابة بيتها الوحيد. وبمجرد وصوله تنبعث فيها طمأنينة لا يعرف حتى هو سببها. وهذا ما كانت تقوله الأغنية تماما. هذا ما كان رفيق درب أبي يصدح به من جهاز رديء ملقي بأحد زوايا غرفته. 

تزوجت عمتي قبله بسنوات وأنجبت أطفالا، ولكن كل ما كان يشعر به أبي من مسؤولية تجاهها لم يخفت، إلا بعد سنوات من إدراكه بأنها أصبحت تنتمي إلى بيت آخر.

بدأت أضواء مدينة "قفصة" تتلاشى قليلا في المرآة العاكسة بجانبي. لم أكن متعبة أو مرهقة من طول طريق العودة عكس ما كنت عليه حين غادرنا. هناك نوع من المقاومة يولد بشكل آلي عندما تخطو آخر خطوة خارج حدودك. كانت تلك اللحظة الأولى التي أفهم فيها ما هو الفراغ وأني لست الوحيدة التي أَحَبها أبي. كان والدي أبًا منذ زمنٍ بعيد قبل أن ينجبني وإخوتي، كان أبا لا يعرفه أحد سوى عمتي.. وميمون الوجدي. 




* كاتبة تونسيّة، وباحثة في الفنون البصريّة