في بادرة إنسانية، أعلن المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي، أحمد المسماري، في مؤتمر صحفي من بنغازي، الثلاثاء الماضي، أن الجيش الوطني قرر وقف إطلاق النار من جانب واحد لتجنب إراقة الدماء

والسماح للمواطنين في طرابلس، بالتحرك بحرية في نهاية شهر رمضان وخلال عيد الفطر. وأضاف أن إعلان وقف إطلاق النار مبادرة تنتظر رد حكومة الوفاق قبل تنفيذها. 


وقبل أن تتناقل وسائل الإعلام العالمية مبادرته، جاء ردّ حكومة ميليشيات الوفاق، بإسم الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية محمد القبلاوي الأربعاء الماضي، مصرحاً:  أن حكومته في طرابلس قد أعلنت مسبقا رفضها لدعوات وقف إطلاق النار الحالية، لأنها بحسب تعبيره محاولة لإنقاذ قائد الجيش الليبي خليفة حفتر ''من الهزائم المتلاحقة''.


هذا الرفض لوقف النار، المستهجن واللإنساني، أفصح بما لا يدع مجالا للشك، أن الرغبة في التصعيد العسكري قد تحولت إلى ما يشبه ''الشهوة'' التي يراها الأردوغانيون والأخوانيون، حتمية ممارستها بغض النظر عن حاجته إليها أو تقييم أهميتها وتداعياتها الإيجابية والسلبية، وإن كانت النتيجة المؤكدة لذلك هي تدمير كل فرص السلام وحرق جميع أوراقه، ومن المؤسف أن تلك منهجية تركية تمارس دوما تجاه الأزمات العربية على وجه الخصوص حيث لا ترى تلك المنهجية أهميةً لإعطاء الفرصة أو المزيد من الوقت لحسم الأمور سلميا أو بأقل قدر من الخسائر مع تفضيل الحسم العسكري حتى ولو بمئات الآلاف من الضحايا وخراب المدن وتدمير الدول، والتدخل التركي في سوريا خير مثال.


فالقضية أنّ في ليبيا قوى ظلامية تمتلك السلاح والمال والإعلام، وتقف وراءها دول من قطر وملحقاتها إلى تركيا وحلف الناتو و''إسرائيل''، وتعمل هذه القوى منذ 2011 على تهجير وقتل الليبيين ونهب وتدمير ممتلكاتهم وما بنوه من مؤسسات علمية وصحية وتربوية وعسكرية طوال عقود، فهي قوى خارجة عن القانون، وخارجة عن إرادة وآمال وأحلام الليبيين، لا بل خارجة عن النسيج الوطني الذي جمعهم، والعقد الاجتماعي الفطري الذي جبلهم وكوّنهم وشكّل ثقافتهم وقيمهم وثوابتهم الوطنية. وتتمركز تلك القوى الظلامية المسلحة في المشافي والمدارس والمؤسسات الحكومية والمراكز الثقافية التي تسللت إليها وحوّلتها إلى مواقع عسكرية، ومن تلك المواقع تقصف المدنيين، وعندما يرد الجيش الليبي عليها يبادر عملاؤها في الجزيرة وعشرات الفضائيات الأخوانية المتآمرة إلى عرض صور ''المدنيين'' الذين قتلوا نتيجة القصف، ولم أر مرة واحدة يعرضون الصور الحقيقية للقتلى على اختلاف جنسياتهم من التنظيمات الإرهابية التي تسيطر على تلك المواقع وتتخذها متاريس لها !


والسؤال هنا، لماذا تُدفع التنظيمات الإرهابية العاملة تحت إمرة تركيا وقطر... إلى قصف المدنيين، و مهاجمة المدن الآمنة وقراها التي لا يستجيب أهلها لإرهابهم، أو تلك التي يريدون الانتقام منها تحت أي ظرف ومسمّى. أما لماذا؟


 
قد يكون ـ و''قد'' هنا للتحقيق والتأكيد ـ أن السياسة الأمريكية التي طالما تحدثنا عن استراتيجيتها المرسومة للمنطقة، وحقد واضعيها والسائرين على نهجها، والمرتهنين لمشيئتها هي المحدّد الأول والأخير للاستمرار في المشروع المخطّط له بدقة وعناية والمعول عليه للسيطرة على المنطقة بأيدي تركيا وأتباعها... ولا يصدق عاقل أبداً أن أردوغان قادر على أن يرسل الآلاف من الإرهابيين إلى ليبيا، من دون موافقة أسياده وأعوانه، وأنه قادر أن يحتل جزءاً من هذه البلاد من دون التعاون الحقيقي والوثيق مع الإرهابيين ومشغليهم، والأمر ذاته ينطبق على عقده صفقات كي يصبح دخوله إلى ليبيا عاملاً أساسياً في صياغة سياسة ومستقبل الإقليم، ولهذا فهو يغازل تونس والجزائر لزيادة الفرقة طبعاً بين هذه الدول من جهة، وبين مصر والسعودية والإمارات من جهة أخرى، الأمر الذي سيترك آثاره العميقة على مستقبل العلاقات العربية العربية، وعلى قدرة أي دولة عربية التعاضد والتعاون مع الدول العربية الأخرى لما فيه خيرها جميعاً. 


أوليس هذا هو بالذات ما عملت الصهيونية على إرسائه في بلداننا العربية ألا وهو منع أي تقارب أو تعاون بين أي بلدين عربيين مهما كلف ذلك من ثمن؟ لأن أي تعاضد أو تضامن بين أي بلدين عربيين قد يوضح للآخرين الآثار العظيمة لهذا التعاضد وقد يسبب عدوى بتضامن عربي أكبر وأشمل، وهذا ما تعتبره الصهيونية قاتلاً لها ولأحلامها في التوسع في هذه المنطقة على حساب العرب جميعاً.


 
السؤال هو: ما التفاهمات العميقة بين العثماني الجديد وبين هؤلاء الذين عملوا على مدى عقود لدب الفرقة والانقسام بين العرب، واليوم يعملون على تفتيت البلدان العربية من الداخل؟ وهل يحاول أردوغان الانتقام للتحالف الذي أجراه العرب مع القوى الغربية في الحرب العالمية الأولى للتخلص من السلطنة العثمانية ويود أن يقلب الطاولة بعد أكثر من قرن من الزمن تماماً، ليتماهى مع الغرب ومصالحه في المنطقة ويشن حرباً ناعمة وخشنة على أي بلد عربي يتمكن من شن حرب عليه ونهب ثرواته واستخدامه كسوق لبضائعه؟ 


وهل سيترتب على ما يقوم به أردوغان اليوم قرناً آخر، من المعاناة العربية ضد القوى التي تستهدفهم، والتي تتشكل اليوم من عثمانية جديدة وغربية وصهيونية طامعة في ثروات العرب، ومصممة على الرد على ما قام به العرب منذ قرن ضد السلطنة العثمانية والذين غدرت بهم القوى الغربية ليواجهوا اليوم تحديات أخطر مما واجهوه في كل تاريخهم، تبدأ بنهب ثرواتهم لتسرع الخطى بنهب هذه الثروات ذاتها، للسيطرة عليهم وحرمانهم من أي أمن أو أمان أو نفوذ إقليمي أو دولي؟ 


فهل يستيقظ العرب لهذا التحدي الخطير قبل فوات الأوان؟ وهل سيكونون قادرين على استبدال العثمانية القديمة الجديدة والهيمنة الامبريالية الغربية والصهيونية بالتوجه شرقاً وخلق شراكات على أسس الندية والاحترام المتبادلين مع الصين وروسيا، الذين يشكلون قطباً بديلاً للأقطاب التي عاثت بالعرب وثرواتهم فساداً وظلماً واستيطاناً ونهباً؟


وفق هذا المعيار ربما سنحت الفرصة لتسمية الأشياء بمسمياتها، ولتحديد واضح وصريح لكل ما يعوق وأعاق في الماضي الجهود العربية والدولية السابقة، ومن أجهض مهمة المبعوثين والمراقبين وغيره، وصولاً إلى إفشال فكرة تهدئة لبضعة أيام.‏  وهنا نتسائل؟


كيف يمكن لحكومة ميليشيات الوفاق، البائسة والمعلبة والمرتهنة كليا لتركيا، ألا تقرأ ما يدور حولها من بديهيات سياسية، وهي أن حلفاء ليبيا، لن يسمحوا مهما كلف الأمر بسقوط الدولة الليبية قيادةً وجيشاً وشعباً. وهنا يكفي أن نقول بأن الأصابع المحترقة بل والمحطمة لن تقوى على هزّ الضمائر فكيف تقوى على إزالة ليبيا. 


فالبنية السياسية الليبية بحواملها الاجتماعية والاقتصادية وهويتها، وخطابها واستطالاتها الإقليمية والدولية يعطيها تفرداً وخصوصية وتأثيراً عابراً للحدود الجغرافية، ما يجعل من أي محاولة لخلط الأوراق فيها أو عبث بمكوناتها ارتدادات وانعكاسات على دول الجوار، قد تتجاوز في نتائجها وتكلفتها البشرية والسياسية ما يحصل في نقطة المركز قياساً على التشابه والترابط والتداخل في البنية الثقافية للإقليم وإحساس أكثرية مكوناته، واستشعارها وفلسفتها لطبيعة وأبعاد الاستهداف، وبخاصة أن الذاكرة الجماعية لأبناء المنطقة تستحضر بعض الصورة السلبية في علاقة العرب والأتراك على خلفية الإمبراطورية العثمانية. 


والخطأ الاستراتيجي الذي وقع به الساسة الأتراك، هو سوء تقديرهم لقوة وتماسك الداخل الليبي، وطبيعة النظام السياسي ومستوى وعمق تحالفاته الإقليمية والدولية، ودرجة تركزه ومحوريته في الخريطة السياسية الإقليمية والدولية، وسقف المناورة لديه في لعبة توازن الخسائر والأرباح، عندما يتعلق الأمر بحسابات القوى الكبرى ورسم خرائط المستقبل، وهو ما يفسر درجة ثبات الموقف المصري والجزائري وارتباط ذلك بمحيطهما الاستراتيجي وتهديد أمنهما القومي.


 
خطيئة أخرى وقع فيها الساسة الأتراك وما زالوا – وهم الذين يفترض معرفتهم العميقة بها – وتتمثل بطبيعة التفكير السياسي لدى القيادة السياسية الليبية ونخبها الوطنية، وطريقة وأسلوب ولغة التعاطي معها، وبخاصة في الأزمات حيث يدرك القاصي والداني، أنها ترفض لغة التهديد والوعيد والإملاءات التي تأنفها ثقافة الليبيين، الذين يتميزون بدرجة عالية من الإحساس بالكرامة الوطنية والثقة والاعتزاز بالنفس، إلى درجة أن قاموسهم الوطني لا يأبه بأي ثمن يمكن أن يدفعه مقابل دفاعه عن تلك المنظومة الأخلاقية المتجذرة في سلوكهم العام.


في ظل مناخ عام من هذا النوع، على الشعب الليبي أن يكون قوة موحدة بمواجهة من يهدد مصالحه، وسلطاته وقيمه، وضد من ينشر الفوضى، ومَن يلجأ إلى السلاح، وضد من يريد أن يقوِّض الأمن، ويضعف الدولة، وضد مَن يلجأ إلى فرض وجوده ورأيه وسياسته ومصلحته و... و...، بالقوة المسلحة، أو بالفساد والإفساد، أو بالتآمر على الوطن والشعب، والاستقواء بالتركي ليسود بقوته، وبفرض حالات من التخريب والخراب في الوطن وعليه، ومحاولات سلبه الاستقلال والسيادة وأسباب القوة التي تحمي الحدود ووجود الشعب وسيادته...


إننا بهذا وسواه من الأعمال البنَّاءة، والتوجهات السليمة الخيِّرَة، وببذل الجهود النوعية في كل مجال لتعزيز هذا التوجه... ننهي البيئة الحاضنة للإرهاب، ونحاصر الفكر الهدام والتنظيمات الإرهابية الهدامة، ونضعف التطرف والتعصب والعنف، ونفضح مشعلي الفِتن ونشل قدراتهم على العمل الفتنوي، ونبني تدريجياً وطناً للجميع... وننهي أشكال التدخل الخارجي في الشؤون الليبية... ونهيئ المناخ الملائم لتتضافر جهودنا الليبية مع الجهود الإقليمية والدولية لانهاء الحرب، والفوضى، والتدمير، وقتل الروح التي حرَّم اللهُ، إلا بالحق... والتوجه نحو بناء ليبيا جديدة، وتخطي العقبات والوقائع التي خلفتها سنوات الحرب/الكارثة.


 
خلاصة الكلام: إن المرحلة الجديدة على أهميتها تبقى بحاجة إلى الحذر، ومواكبة تفصيلية لكل شأن يتصل بالميدان لأن من الخطر بمكان أن نثق بمن ليس أهلا للثقة... ما يعني أن الجيش الوطني الليبي، المعني جداً بحقن الدماء ووقف القتال مع من يؤمن بالعمل السياسي للبحث عن مصلحة ليبيا، فإنه معني أيضاً بمتابعة المواجهة مع الإرهاب، مهما كانت تسميات تنظيماته، فعل ذلك سابقا وسيتابعه مستقبلا...