قبل قمة الاقتصاد العالمي بدافوس السويسرية العام 2009 لم تكن لرجب طيب أردوغان أي قيمة تذكر في المنطقة العربية. كانت هناك أخبار تُتداول عن تحسن في المؤشرات الاقتصادية وتراجع في بعض درجات الفساد في بلاده بعد صعود حزبه، لكن كل ذلك كان في أطر ضيقة إعلامية وسياسية تحاول التسويق لنظام جديد لم يعلن حتى عنوانه السياسي الفعلي منسجما مع السياق التركي العام المغروس في العلمانية الموروثة عن زعيمهم مصطفى كمال أتاتورك.

في قمّة دافوس تلك خرج أردوغان غاضبا من رئيس كيان الاحتلال شمعون بيريز، حول الجرائم المرتكبة في قطاع غزّة. الرئيس التركي (رئيس الوزراء وقتها) كان يدرك قيمة فلسطين في وجدان العرب وتأثرهم بكل ما له علاقة بها، خاصة في تلك الفترة التي مارس فيها الاحتلال أبشع أنواع الوحشية في سكان القطاع، وعلى ذلك كانت فرصته لتسويق صورته. وخلال عودته إلى اسطنبول تجمع الألاف من حزب العدالة والتنمية في المطار انتظارا له بطريقة سوق لها إعلاميا بهدف خلق زعامة لم يكن يحلم بها خارج ذلك الإطار.

كثيرون وقتها لا يعرفون علاقة الأتراك بالإسرائيليين، لكن للحقيقة وجه آخر. لا يعرف أنصار أردوغان الحالم بمجد عثماني جديد، أن بينه وبين الاحتلال علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية أقوى حتى من علاقاته مع حلفائه العرب. حتى في لحظة دافوس التي صنعت منه "زعيما" لم تتوقف الاتصالات وذكرت مصادر من الاحتلال وقتها أن اتصالا جرى بينه وبين بيريز لتلطيف الأجواء وتوضيح "سوء التفاهم". في الحقيقة الأتراك والإسرائيليون يعرفون جيدا أن الخلاف لن يدوم لاعتبارات السياسة وللانصهار التركي في الخيارات الغربية حول هذه المسألة. قد تشهد العلاقات بينهم بعض البرود لكن ليس بتلك الدرجة التي يعتقد الموهومون بزعامة أردوغان أنها قد تصل العداوة.

في الواقع العلاقات التركية الاسرائيلية ليست جديدة، فالأتراك كانوا من أول الدول ذات الأغلبية المسلمة يعترفون بكيان الاحتلال في العام 1949، أي بعد سنة فقط من إعلانه. ومنذ ذلك التاريخ بقيت العلاقات وثيقة في كل المجالات حتى عند وصول أردوغان إلى السلطة من خلال تواصل المبادلات التجارية والمناورات العسكرية المشتركة والتنسيق الدائم في مختلف القضايا التي تهم المنطقة رغم أن "الزعيم العثماني الجديد" يحاول إيهام أنصاره بعلاقات متوترة مع الاحتلال.

في إطار بادرة لتثبيت العلاقة بين الاحتلال وتركيا قام أردوغان العام 2005 بزيارة إلى "إسرائيل"، مصحوبا بوفد اقتصادي مكوّن من 200 رجل أعمال داعيا إلى إقامة سوق تجاري بالمنطقة يشمل أيضا المنطقة العربية، بما يعني أنه لا يريد الاكتفاء بالتطبيع التركي بل يطمح إلى جر بقية العرب نحو التطبيع. وكانت الزيارة مؤشرا عن استراتيجية جديدة ليس لقطع العلاقات كما يتتظر أنصاره بل نحو تمتين تلك العلاقات وهو ما حصل بعد ذلك بالفعل.

وفي بحث اقتصادي حول العلاقة بين أنقرة والاحتلال تمت الإشارة إلى أن متوسط الصادرات الإسرائيلية السنوية إلى تركيا في الفترة 2002-2010، بلغ "ما يقرب من 1.5 مليار دولار، والواردات منها مليار دولار، ووضعت إسرائيل خططاً أولية لتوسيع التبادل التجاري ليشمل بناء خط لنقل المياه العذبة من تركيا إلى إسرائيل، إضافة للكهرباء والغاز والنفط، فيما بلغت قيمة مجموعة المشاريع العسكرية بين البلدين في تلك المرحلة، نحو 1.8 مليار دولار، وشكِّلت قيمة المشاريع نسبة عالية إذا جرى قياسها بالميزان التجاري بينهما، البالغ 2.6 مليار دولار سنويًا".

البحث أشار أيضا إلى أن قيمة التعاون بين الطرفين ارتفعت بعد 2010، أي بعد ما يصوّر لدى أنصار "الزعيم التركي" أنها فترة العداوة، حيث بلغت في 2012، 2.2 مليار دولار، كما أن مشاريع المقاولات التركية في الاحتلال إلى حدود 2014، بلغت 104 مشروعات بناء كبرى.

في تقرير نشرته جريدة زمان التركية 2018، قالت إن تركيا هي البلد الأول إسلاميا من حيث المبادلات التجارية من كيان الاحتلال، مشيرة إلى أن الأرقام تضاعفت بين 2014 و2018، بل تضاعفت بما نسبته 10 بالمئة بين سنتي 2017 و2018، بقيمة مبادلات بلغت 4 مليارات دولار، وهي أرقام كبيرة تتجاوز كل الدول الإسلامية التي اختارت التطبيع مع الاحتلال. وما يؤكد قوة العلاقات الاقتصادية بين أنقرة والاحتلال، تعيين ملحق تجاري بسفارة أنقرة، لتمتين العلاقات أكثر ولتسهيل التعاون الاقتصادي بينهما بشكل أسهل.

تعاون تركيا مع الاحتلال شمل أيضا المجال العسكري، حيث تحولت العلاقة بين الجانبين منذ 2006، من تنسيقية إلى استراتيجية، من خلال زيارة لوزير الدفاع في كيان الاحتلال إيهود بارك إلى أنقرة ولقائه مسؤولين أتراك كبار. وقد ذكر البحث السابق أن شركات الأسلحة الإسرائيلية مُنحت عقودا معلنة وسرية لتطوير الدبابات من طراز "إم60"، وتحديث المقاتلات من نوع "إف16 وإف5"، وبيع طائرات دون طيار، بالإضافة إلى اتفاق من أجل شراء طائرات "هيرون" الإسرائيلية من دون طيار، بقيمة 180 مليون دولار.

العلاقة التركية الاسرائيلية التركية شملت أيضا قطاع السياحة، حيث تعتبر أنقرة وجهة لحوالي نصف مليون سائح وتتطور النسبة سنويا رغم تراجعها في بعض الفترات لأسباب أمنية تبعا للتطورات الحاصلة في فلسطين والهاجس الدائم من الإسرائيليين من أي عمليات تحصلهم بسبب ممارساتهم في حق الفلسطينيين.

أردوغان يصوّر اليوم نفسه زعيما إسلاميا حالم بمجد أجداده، وكل تدخلاته في المنطقة وتسببه في كوارث فيها تثبت ذلك التوجه، لكن الإشكال في المعجبين به أنهم لم يستطيعوا التفريق بين سياسي يبحث عن مجد ذاتي بشعارات كبيرة وبين حقيقة ممارساته في الواقع وعلى رأسها العلاقة القوية مع الاحتلال الإسرائيلي وهي النقطة التي يهرب منها دائما أولئك المعجبين باعتبارهم لا يجدون لها تبريرا.