في مثل هذا اليوم 5 ابريل من العام 1999، وصل المواطنان الليبيان عبد الباسط علي المقرحي (47 سنة)، والأمين خليفة فحيمة (43 سنة)، إلى لاهاي لإنهاء إجراء محاكمتهما في هولندا بتهمة التورط في قضية لوكربي

 وفي نفس اليوم قامت الأمم المتحدة بتعليق العقوبات التي فرضت ظلما وعدوانا على ليبيا والتي شكلت حصارا قاسيا على البلاد بعد أن زعمت  كل من بريطانيا وأميركا وفرنسا في صحيفة اتهام مشتركة يوم 14 نوفمبر  1991 أن المسؤول عن  إسقاط الطائرة الأمريكية بان أمريكان بقرية لوكربي الأسكتلندية هم عناصر بالمخابرات الليبية، ثم سعت الولايات المتحدة لاستصدار قرار من مجلس الأمن بالأمم المتحدة يوم 13 مارس 1992 نص على حظر الرحلات الجوية من وإلى ليبيا، ومنع بيعها أي أسلحة.

ونظراً لعدم امتثال ليبيا لمطالب الأمم المتحدة استصدر مجلس الأمن قرارا آخر يوم 11 نوفمبر 1993، طالب فيه بحظر بيع المعدات والآلات البترولية، وتجميد كل الأرصدة الليبية بالخارج، ويطلب تسليم المتهمين للقضاء الإنجليزي. وقد أعلنت ليبيا عن استعدادها لإرسال المتهمين إلى جهة ثالثة محايدة، ولكن قوبل هذا العرض بالرفض من قبل لندن وواشنطن.

وفي 8 مايو/ أيار 1997 طار القذافي، متحديت الحظر الجوي لأول مرة في زيارة للنيجر. وفي 19 أكتوبر1997 أرسلت الحكومة الليبية برسالة إلى أقارب وعائلات ضحايا لوكربي طالبتهم فيها بقبول تعويضات مالية، والعمل على إنهاء المقاطعة الدولية. وفي نفس الشهر، زار الرئيس نيلسون مانديلا طرابلس التي سافر إليها عن طريق البر احتراما للحظر الجوي، وكان مانديلا أهم شخصية دولية تزور القذافي منذ قرار مجلس الأمن الصادر سنة 1992.

كما  طلبت الحكومة الليبية يوم 20 مارس/1998 من مجلس الأمن مناقشة موضوع العقوبات، والنظر إلى آثاره "الخطيرة" على المجتمع الليبي، إلا أن ممثل الولايات المتحدة بيل ريتشاردسون حمّل مسؤولية معاناة الشعب الليبي على مماطلة الحكومة الليبية وعدم امتثالها لقرارات الشرعية الدولية.

وبعد وساطات إقليمية ودولية مع القيادة الليبية وافق الزعيم الراحل معمر القذافي على تسليم المقرحي وفحيمة الى المحكمة الهولندية وذلك على إثر سنوات طويلة من التحقيقات وجمع المعلومات بدأت القضية الدولية التي قدرت تكاليفها بنحو 80 مليون دولار، واستغرقت نحو 85 يوماً، واستمعت إلى 235 شاهداً، وأنتجت ما يزيد عن عشرة آلاف صفحة من الوثائق القانونية، لتصدر حكماً يوم 31 يناير2001 بإدانة المقرحي وبراءة فحيمة. ثم تكلفت قيمة استئناف الحكم ما يزيد عن 83 مليون دولار إضافيا. وفي 14 مارس2002 أقرت المحكمة إدانة المقرحي ومعاقبته بالسجن. وقد رحب البيت الأبيض بقرار المحكمة النهائي وطالب بضرورة استكمال بقية الشروط المترتبة على ليبيا، والتي تمخضت عن قبولها دفع تعويضات لعائلات الضحايا بقيمة 2,7 مليار دولار.

مثلت قضية لوكربي إمتدادا للعداء التاريخي بين الغرب والنظام الجماهيري ، والذي إنتهى بالتدخل المباشر في ليبيا في العام 2011 لدعم الجماعات المسلحة ، وفي مارس الماضي جاء  اللجنة الاسكتلندية المستقلة  لمراجعة القضايا الجنائية بإحالة الحكم بإدانة الليبي عبد الباسط المقرحي للمحكمة العليا في اسكتلندا لإعادة النظر فيه ، ليطرح العديد من الأسئلة حول أصل القضية  وتوابعها السياسية والجنائية وطبيعة الحكم الصادر ، خصوصا وأن اللجنة  تعتقد الآن أنه ربما حدث إساءة لتطبيق العدالة في قضية المقرحي ، وتدفع بسببين لقرارها هما أن حكم الإدانة غير معقول وأن دليل الإدانة لم يُكشف عنه النقاب.

وقال  بيل ماثيوس رئيس اللجنة في بيان "نشير إلى أنه أتيحت معلومات إضافية منذ مراجعتنا الأخيرة، بينها ما هو مشاع، واللجنة تدرسها الآن وتُقيمها"، وأضاف "أنا على يقين بأن المسألة ترجع الآن للجهة الملائمة..المحكمة العليا.. لتنظر في كل القضايا المثارة في بيان الأسباب التي نقدمها".

في 13 يناير 2001 حكم على المقرحي بالسجن المؤبد إثر إدانته بالتورط ،وفي نوفمبر 2003، قررت المحكمة العليا في اسكتلندا أن على المقرحي أن يمضي 27 عاما علي الأقل في السجن قبل أن يحظى بالإفراج المشروط، وفي 20 أغسطس 2009 أفرجت  عنه الحكومة الأسكتلندية لأسباب إنسانية وذلك بسبب إستفحال معاناته من مرض السرطان ، ليعلن عن وفاته في 20 مايو  2012

كانت طائرة الركاب التابعة لشركة "بان أميركان" إنفجرت أثناء رحلتها رقم103 فوق بلدة لوكربي في ديسمبر 1988 وهي في طريقها من لندن إلى نيويورك مما تسبب في مقتل 270 شخصا كانوا على متنها معظمهم أميركيون كانوا في طريقهم إلى بلادهم للاحتفال بعيد الميلاد.

وعلى إمتداد أكثر من 30 عاما إستمر السجال حول تلك الحادثة المرعبة ، والتي تم إستغلالها سياسيا ضد النظام الليبي السابق ، حيث نجحت الولايات المتحدة وبريطانيا في إستغلال تاثيرهما داخل مجلس الامن الدولي لإصدار القرار784 في 31 مارس 1992 بأغلبية 10 أصواتوامتناع 5 أعضاء عن التصويت ،بما يوجب على ليبيا الاستجابة لطلب الدولتين ، ويهدد بفرض عقوبات عليها من بينها حظر الطيران منها واليها ، وقد رفضت ليبيا الاستجابة لهذا القرار وتم فعلا توقيع العقوبات في الموعد المضروب كأجل نهائي وهو 15 بريل 1992 ،  قامت الدولتان في وقت لاحق في 11 نوفمبر من نفس العام باستصدار قرار اخر من مجلس الامن برقم 883 يطوّر من نوع العقوبات المفروضة ويوسّعها لاجبار ليبيا على الاذعان لمطالب الدولتين.

بعد 30 عاما، كشفت صحيفة "الدايلي ميل البريطانية" في ديسمبر 2018  عن  دليل براءة ليبيا في قضية لوكربي، وقالت إن التحقيقات اتهمت المقرحي بناءا على مجموعة من الأكاذيب الملفقة، وأشارت إلى أن الليبي عبد المجيد جعاكة كان أحد الشهود السيئين في القضية حيث إدعى هو الآخر رؤية "المقرحي" يحمل حقيبة سامسونايت بنية اللون من صالة القادمين بمطار لوكا فى مالطا بتاريخ 20 ديسمبر 1988.وفي صباح اليوم التالي زعم أن الحقيبة تم تحميلها على متن رحلة إلى فرانكفورت،حيث سيتم نقلها إلى لندن في رحلة طيران "بان آم" لتنفيذ الهجوم

وبينت الصحيفة أنه  وبناءا على تلك المعلومات الملفقة حكم على  المقرحي  ظلمنا بالسجن مدى الحياة عن طريق محاكمة غير عادلة وغير عادية جرت في قاعدة جوية أمريكية غير مستخدمة بالقرب من أوتريخت بهولندا ،وتابعت أن عدم الكفاءة والانتقام والنفعية السياسية كانت وراء اللقاء التهمة  على ليبيا ومن ثم التغطية على الفاعل الحقيقي من أعلى المستويات في لندن وواشنطن،حيث كشفت الصحيفة أن المهاجم الحقيقي يعيش اليوم فى الولايات المتحدة تحت غطاء برنامج حماية الشهود الأمريكي.

وأردفت الصحيفة: بعد سلسلة من التحقيقات امتدت نحو 3 سنوات شارك فيها ضباط ومسئولون على أعلى مستوى من بريطانيا وأمريكا، أشارت الأدلة إلى تورط عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة.

=وقد ألقي القبض على خلايا نائمة من الجبهة في سلسلة من المداهمات التي جرت بألمانيا قبل بضعة أسابيع من حادث لوكربي،حيث تم ضبط قنابل مخبأة في مشغلات راديو كاسيت توشيبا إلى جانب ترسانة وصفتها دايلي ميل بالمخيفة من المتفجرات والأسلحة النارية والذخيرة.

كما خبير بريطاني أن الأدلة المستخدمة لإدانة ليبيا في قضية لوكربي تم تصنيعها بعد تحطم الطائرة المنكوبة، ما يعني أن التهمة قد لُفقت لليبيا زوراً وبهتانا ،ونقلت صحيفة “الديلي ميل” عن الخبير الذي فضّل عدم ذكر اسمه أن لوحة الدارات الكهربائية لأجهزة المؤقت التي تسببت في الانفجار، وزعم أنها كانت من تصنيع شركة “ميبو” لم تحصل على براءة الاختراع حتى عام 1991 أي بعد ثلاثة أعوام من الحادثة.

وأشار الخبير إلى أن فحص الطب الشرعي الجديد الذي أجري في مختبر بزيورخ أثبت أن الشظايا “المرفوعة من بقايا الحطام”، لم تتطابق مع لوحات شركة “ميبو” السويسرية التي أشار التقرير الأصلي إلى أنها احتوت على آثار من رقائق النحاس، فيما لم تَبع الشركة المذكورة أياً منها في القطع القديمة التي بيعت لليبيا وألمانيا الشرقية قبل هذا الحادث.

ووفقا لتقرير نشرته شبكة "سى إن إن" الأمريكية تم نشره فى 29 أغسطس 2011، فإن براءة المقرحى ظلت مثار جدل بين عائلات الضحايا، حيث يدافع البعض عن المدان الليبى ومنهم دكتور جيم سواير الذى قتلت ابنته فى الحادث، وقال إنه متأكد من براءة المقرحى، مضيفا إن الأمريكيين دفعوا مليونى دولار للشاهد الرئيسى فى القضية لتوريطه،

و قال سواير إن أهالي الضحايا كانوا يعرفون أن طهران تقف وراء الحادث، ولكنهم لم يتمكنوا من الحديث عن هذ الأمر.بينما نقلت صحيفة “ميرور” البريطانية عن سهى ابنة خبير المتفجرات الراحل مروان خريسات، الأردني الجنسية، قوله إن نظام طهران يقف وراء عملية لوكيربي، مشيرة إلى أنه جمع  الأدلة اللازمة على تورط طهران في الحادث الإرهابي وتركها لابنته.

وقالت اللجنة الأسكتلندية المستقلة لمراجعة القضايا الجنائية أول أمس الأربعاء إنها درست ستة أسباب للمراجعة وخلصت إلى أن خطأ قضائيا ربما حدث بسبب "حكم غير معقول" و "عدم إفشاء".

وأوضحت إنه "لم يكن من الممكن أن تقبل محكمة محاكمة معقولة أن السيد المقرحي قد تم تحديده على أنه المشتري" للأشياء التي كانت داخل حقيبة قنبلة مستخدمة في الهجوم ،ووجدت أيضاً أنه كان ينبغي على التاجر أن يكشف للدفاع بياناً وتقريرا للشرطة بشأن حيازة صور للمقرحي من قبل صاحب متجر مالطي ساعدت أدلته في إدانة المواطن  الليبي.

ووافقت اللجنة على طلب إحالة إدانة عبد الباسط المقرحي إلى محكمة الاستئناف، بعد تقديم المحامي عامر أنور الطلب نيابة عن عائلة المقرحي، ولقي الطلب دعما من بعض أسر ضحايا كارثة عام 1988.

وقال محامي عائلة المقرحي في تصريحات صحفية إن إلغاء الحكم سيعني أن حكومتي الولايات المتحدة بريطانيا ستكتشفان أنهما عاشتا كذبة ضخمة على مدى 31 عاما، وسجنتا رجلا كانتا تعرفان أنه بريء وتعاقبان الشعب الليبي على جريمة لم يرتكبها

قبل ثلاث سنوات ، دعت أسرة المقرحي الى إعادة النظر في القضية بناء على المعطيات الجديدة التي ظهرت وأغلبها تبريء المتهم الرئيسي وبلاده من التورط في إسقاط الطائرة ، وقال محامو المقرحي أنه كان ضحية تطبيق أحكام العدالة في تاريخ القانون البريطاني، مشيرين إلى أن إيران يشتبه منذ وقت طويل في تورطها في الهجوم، واستدلوا بتوجيه إيران أوامر لجماعة سورية – فلسطينية بتنفيذ هجوم انتقاما لإسقاط الولايات المتحدة طائرة إيرباص إيرانية في يوليو  1988، ومقتل 290 راكبا على متنها.

والحديث عن براءة ليبيا من القضية ليس وليد اليوم ، ولا هو نتيجة لما تم الكشف عنه مؤخرا من حيثيات جديدة ، وإنما سبق ذلك ب30 عاما ، حيث تم تجيير القضية للإنتقام السياسي من نظام القذافي ، بسبب علاقاته المتوترة مع الغرب وخاصة لندن وواشنطن ، اللتين كانت تعتبرانه نظاما داعما للإرهاب ، ومعاديا لمصالحهما ، فكانت النتيجة  العقوبات الأممية  بما فيها الحصار الظالم الذي تعرض له الشعب الليبي  ما بين العامين 1993  و1999 ورفعت نهائيا في 12 سبتمبر 2003 بعد ان اعترفت ليبيا بمسؤوليتها عن الاعتداء ووقعت اتفاقاً مع لندن وواشنطن لدفع تعويضات لاسر الضحايا.

وصلت الخسائر المالية المباشرة الى 33 مليار دولار ، وضربت العقوبات كل المجالات نتيجة حرمان البلاد من التعامل مع الشركات الغربية وتكنولوجياتها  المتطورة ، وأدى ذلك الى صوبة بالغة في حياة المجتمع وفي وضع الدولة والى حالة من التململ والتوتر بين الليبيين كان  من بين نتائجها إنتشار الفكر الإرهابي وخاصة المنطقة الشرقية ما جعل مدينة كدرنة تصنف في العام 2008 على أنها الأكثر تصديرا للإنتحاريين الى العراق ،

كما أدت العقوبات الى تراجع كبير في مجالات الصحة والتعليم والزراعة والخدمات وغيرها ، والى إتساع ظاهرة الفساد التي إستظلت بالخوف من المجهول ، وإندفع النظام الى البحث عن فضاءات بديلة فكان التوجه الى إفريقيا ، ما أثار بدوره توترا إضافية لدى الليبيين غذته أبواق الإسلام السياسي بالحديث عن التفريط في ثروات البلاد للأفارقة ،

وكانت النتيجة لكل ذلك أحداث 2011 وما أفرزته من إنتشار للجماعات الإرهابية التي كان أغلب عناصرها من شباب نما وترعرع تحت الحصار ، وعاش حالة الضغط السياسي والأمني والإجتماعي ، لتدخل ليبيا نفق الفوضى الذي بات يمثل إمتدادا لماسبقه من سنوات الخضوع للعقوبات الدولية ، وهو تقريبا ذات ما حصل في العراق ، الذي واجه عقوبات قاسية ساهمت في تدمير مقدرات الدولة و ضرب النسيج الإجتماعي وهجرة العقول ونشر الخطاب المتشدد وتوفير الأرضية لقوى الإسلام السياسي التي لا تزال تمثل في  الحالتين العراقية والليبية مشكلة للداخل ، وكذلك للقوى الخارجية التي كانت وراء إنعاشها بإستعمال العقوبات والحصار ليس لعزل النظام فقط ، وإنما لضرب كيان الدولة ، وتبخيس سيادتها ، ووتجويلها الى مجرد جغرافيا مهيئة لاحتضان الفوضى واستقبال أدوات العبث الخارجي.