يمكن اعتبار بلدة «لاثرون» الصغيرة الواقعة الى الشرق من راس الهلال بنحو تسع كيلومترات ، والى الشرق من البيضاء ب 50 كيلومترا ، نموذجا متميزا للثراء بالآثار المسيحية القديمة ، وإذا كان اسمها إغريقي الأصل بمعنى « الحمراء » في إشارة الى لون تربة أراضيها الخصبة ، فإن بصمات العصور الرومانية والبيزنطية تبدو واضحة من خلال بقايا الكنيستين الغربية والشرقية اللتين تم اكتشافهما في العام 1960 على يد الباحث الأمريكي ولترويدرنغ  ويعود بناؤهما في عهد الإمبراطور جستنيان الأول (527- 565)

وما بين لاثرون وراس الهلال حيث الغابات الوارفة والشلالات الساحرة وعبق الطبيعة المدهش، يوجد الموقع الأثري الذي يمكن أن يتحول الى أحد أهم المزارات المسيحية في العالم ، ولا سيما لإتباع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والكنائس الشرقية الأرثوذكسية ، فهناك كان مقر مؤسسها الأب مرقس الرسول ، وهناك دوّن أنجيله وهو واحد من الأناجيل القانونية الأربعة وواحد من الأناجيل الإزائية الثلاثة ، وفيه توجد تفاصيل مسيرة يسوع من المعمودية على يد يوحنا المعمدان إلى الموت والدفن واكتشاف القبر الفارغ، وتم اعتباره في القرن التاسع عشر ، أقدم الأناجيل ،

ويعود اكتشاف الموقع الى رجل قضى أغلب ردهات حياته في السعي الى كشف عوالم ساحرة ومثيرة وغامضة في كهوف وأوشاز منطقة الجبل الأخضر ، وانتقل من عشق الأدب الى عشق الكنوز الصامتة من أثار الأولين في المنطقة الشرقية ، أنه داوود الحلاق الذي سيبقى اسمه مرتبطا بوادي الانجيل ، بعد أن أعطاه مساحة واسعة من الاهتمام بحثا واكتشافا ودراسة وتحقيقا وتحديدا للزوايا والمفردات

والحلاق من مواليد العام 1942 في قرية صمبر شمال شحات حيث عاش طفولته هناك في اسرة متواضعة ، وقد درس في درنة، وفيها نال الثانوية العامة ، ثم التحق بكلية الآداب بجامعة ببنغازي وكان قد بدأ في نشر نصوصه الأدبية ولاسيما القصص القصيرة على صفحات مجلة « قورينا » التي كان يحررها طلبه الكلية في عقد الستينيات ، وفي الصحيفة الحائطية التي كانت تصدر عن نادي الصداقة بشحات ، ولكنه لم يكمل دراسته ، واتجه للعمل بأحد حقول النفط في أعماق الصحراء الليبية ، وتعرض للسجن خلال ما سمي بالثورة الثقافية في العام 1973 ، ولكنه عين بعد فترة قصيرة مديرا للمركز الثقافي بشحات ،ودفع به الى الفوز بالمركز الأول بين كل المراكز الثقافية في ليبيا ،  وفي العام ذاته أصدر أول مجموعة قصصية  عن دار الحقيقة ببنغازي وهي « ذات ليلة ممطرة » ثم جاءت مجموعته الثانية « الموت في الملاذ »

عندما عين الحلاق رئيسا لقسم الأثار بمؤسسة الأثار في مدينة شحات ، دخل مرحلة مهمة من حياته العملية ، حيث اتجه بكل قواه لتجسيد رغبة كانت تعتمل في داخله ، وهي اكتشاف الكنوز الصامتة في محيطه الطبيعي ، ولا سيما في الجبل الأخضر ، حيث يخفي التاريخ أسراره في ثنايا المنطقة ، وكأنه يخاف عليها من عيون المتطفلين ، وفي العام1985 قاد الحلاق بعثة عملية استطلاعية شكلّ أهدافها ، واختار عناصرها من المتطوعين ، وأطلق عليها اسم « بعثة أوشاز الاسلاف لاستكشاف كهوف وأوشاز أودية الجبل الأخضر »وكان هدفه الأساسي الكشف عن أسرار « المعاليق » وهو الاسم المحلي الذي يطلق على الكهوف المحفورة في الجبال الشاهقة والتي يصعب على البشر العاديين الوصول إليها أو ارتيادها ، رغم أن هناك مؤشرات على أن هناك من الأجيال السابقة من لجأ إليها فرارا من ظروف مخيفة أو جوائح مهلكة ، ولكن لا أحد تناولها بالبحث أو الدراسة العلمية

قامت البعثة بالصعود لأكثر من 100 كهف معلق في المنطقة الممتدة من وادي كعب قرب مدينة المرج وحتى الأودية شرق مدينة درنة ، وغطت 5000 كيلومتر مربع من الجبل الأخضر ، واستمرت أعمالها حتى عام 1987، وتمكنت خلال تلك الفترة من العثور على كثير من اللقى والأثار القديمة التي ترجع لعصور مختلفة من تاريخ ليبيا والتي تروي تفاصيل مهمة عن أساليب الحياة الدينية والاجتماعية والغذائية والصناعات الحرفية لدى الليبيين القدامى وعلاقاتهم بالحياة والموت ، والأكل واللباس ، والعمل والعبادة ، الخ

كان من أبرز اكتشافات الفريق ، وادي الإنجيل ، روى داوود الحلاق «  « خلال طيران الفريق في هليكوبتر عبر أحد الأودية شاهدنا منظرا لم نعتد مثله بين الكهوف ، كان مقرا محفورا في واجهة صخرية سحيقة، وكان اتساع المقر وتعدد أدواره يوحي بصورة جلية انه بقعة أثرية وانه يختلف عما ألفناه » ، كان عليه أن يتجه لبعض السكان المحليين ليسألهم عن ذلك الموقع ، فأجابوه بأنه معروف عندهم باسم «وادي مرقس»

 كيف جاءت فكرة الولوج الى ذلك المحيط الغامض ؟، يقول الحلاق :«في حقيقة الأمر يخضع هذا الاكتشاف لمجرد صدفة طيبة وحدها  ، إذا أننا خلال أعمالنا عبر الأجراف الوعرة والبحث عن مواقع الأوشاز ، قد كاتبنا إدارة قاعدة جوية ما لسلاح الجو الليبي ، بغية مد يد العون لنا وتسهيل مهمتنا وذلك بالسماح للفريق بالمرافقة في طائرة مروحية لمسح الأودية وتحديد مواقع الأوشاز ، وهكذا من خلال طيران منخفض في الجو وتحليق متزن عبر اتساع أحد الأودية ما بين بلدة «لاثرون» ومرفأ «رأس الهلال »  شاهدنا مقرا محفورا في واجهة صخرية سحيقة ، وكان اتساع المقر وتعدد أدواره يوحي بصورة جلية أنه بقعة أثرية ، وأنه يختلف عما ألفناه من أوشاز »

عاد الحلاق الى الخرائط الجغرافية ليجده مسجلا بنفس الاسم ، واستغرب من أن احدا لم يبحث عن سبب التسمية من قبل ، رغم أن الموضوع كان يمكن أن يثير فضول الإيطاليين أثناء احتلالهم للبلاد ، أو الإنجليز الذي دخلوا المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية ، أو حتى البعثات الأجنبية التي زارت البلاد في مناسبات عدة ، لكن يبدو أن من أقدار ليبيا أن يبقى جزء كبير من أسرارها غامضا ، وهي البلد الكبير الثري بالألغاز والسحر والجمال وبصمات التاريخ وما قبله

لم يتمكن الحلاق وفريقه ، من الصعود الى وادي الإنجيل واكتشافه الا بعد عامين من مشاهدته من الجو ، وبالوصول الى الكهف الرئيسي ، تبين أنه يتضمن بناءا مركزيا مكونا من ثلاثة طوابق أطلق عليه فيما بعد اسم “صرح مرقس الإنجيلي “ وهو محفور بين الصخور وكانت للطابق الأخير طريق تصله بالثاني وقد صار بسبب عوامل التعرية غير قابل للاستخدام‏ ،ووجد بها رموزا مسيحية وصهريجا صخريا ضخما لحفظ المياه، ومعاصر زيوت وممرات ومداخل سرية ونقوشا ورسومات دينية عن صلب المسيح.

 وفي أحد أدوار الكهف الضخم اكتشف الحلاق وفريقه ما يدل على ان هذا الموضع كان كنيسة. كما وجد بقية لتمثال رأس أسد منحوت في الأصل من الصخر، وهو علامة مرقس الانجيلي وشعاره ، وفي الوادي المجاور ، عثروا على صليب محفور بطريقة المسيحيين الأوائل عند مدخل كهف الانجيل ، وعلى مقر ديني يحوي ثمانية صلبان ومعمودية عامة تعرف اليوم باسم «عين سربلي » ، كما عثر داخل كهف معلق على مصطبة حجرية صالحة للجلوس والكتابة يرجح أن مرقس كان يكتب عليها إنجيله

يقول الحلاق: «بالرغم من اهمية هذه المواقع والبقع الأثرية التي اكتشفناها، الا اننا لا نستطيع استيفاءها حقا وبدقة لأن العمل يتطلب معاول المنقبين ويتطلب حفريات واستقصاءات علمية دقيقة لفرق من المتخصصين في أفرع عدة من علم الآثار». لا سيما وان المنطقة التي تنتشر فيها معاقل مرقس تقدر مساحتها بحوالي 2000 كيلومتر مربع.

ومار مرقس أو مرقص " ويطلق عليه اسم مرقس البشير، وهو أحد الحواريين والرسل السبعين والكاتب للسفر الثاني من العهد الجديد المعروف بإنجيل مرقس ولذلك يلقب بالانجيلي ،ويعرف في اللغة اللاتينية باسم سان ماركو الذي شيدت باسمه واحدة من أعظم كنائس العالم وهي كنيسة سان ماركو بالبندقية، أما اسمه الأصلي فهو سمعان ارسطوبوليس، الليبي المولد، الكنعاني الأصل، يرجح مولده في فترة مولد السيد المسيح عليه السلام ونشأ في أسرة يهودية متدينة وثرية  تشتغل بالزراعة وتقيم في قرية أبرتاتولس وتعرف اليوم باسم «برطلس» بالقرب من مدينة شحات الحالية «قورينا القديمة»، وحسب "البطريركية الأنطاكية" فإن أم القديس مرقس كانت تدعى مريم، وهي "إحدى المريمات التي تبعت السيد المسيح"، كما إنها هي من أشرف على تثقيف ابنها مرقس وتعليمه اللغات اليونانية واللاتينية والعبرية ، وفي فلسطين آمن مرقس بتعاليم المسيح وانضم الى دعوته التي جهر بها و هو في الثلاثين من عمره، وتقول الروايات ان المسيح عهد اليه بالتبشير بالدين الجديد بين بني قومه في الجبل الأخضر الذي يضم الليبيين الأصليين والاغريق واليهود.

 وكان والد مرقس يدعى أرسطو بولس ، يقول البابا شنـودة الثالـث: «إن أول شخـص جذبـه مرقـس للإيمـان هو أبـوه أرسطو بولس، وقد حدث أنهما بينما كانـا سائريـن في طريقهما إلى الأردن، أن لاقاهما أسـد ولبؤة في الطريق. فعرف أرسطو بولس، أن نهايته ونهاية ابنه مرقس قد اقتـربت، فقـال: اهرب يا بني، لتنجو بنفسك، واتركني أنا، لينشغل هذان الوحشان بافتراسي، فقال مرقس لأبيه: إن المسيح لا يدعهما يوقعان بنا، ثم صلى قائلاً: أكفف عنا شر هذين الوحشين، واقطع نسلهما من هذه البرية، فانشق الوحشان، وانقطع نسلهما من تلك البرية »

وخال مرقس هو برنابا واسمه الأصلي يوسف وهو أحد المسيحيين الأوائل المذكورين في العهد الجديد ، مولود في قبرص لعائلة من اليهود الهيلنستيين، وكان برنابا من رسل المسيح الإثني عشر، وقد ذكر ذلك في أعمال الرسل موصوفا بالرسول ، وينسب إليه إنجيل برنابا المكتوب سنة 50 ميلادية ، أي بعد خصامه مع بولس ، وهو إنجيل يرفضه المسيحيون بسبب نفيه ألوهية المسيح.

يقول الحلاق في كتابه عن مار مرقس أنه نشـأ في ريــف قورينا، ولم تكن نشأته في المدينة، فقد قضى طفولته ومرحلة صباه وردحاً من شبابه أيضاً في نواحي قورينا التي تعلو البحر بألفي قدم، على مرتفع من الهضاب، ينحدر تدريجياً إلى الشمال صوب البحر، على نحـو درجـات السلـم، وكانــت طفولـة مرقس في حضن إبرياتولس ( برطلس حاليا) ، التي تقع في أحضان الطبيعة، ما بين مديني قورينــا ( شحات حاليا ) وأبولونيـا ( سوسة حاليا ) ،

 حمل مار مرقس  ألقابا عدة من بينها مرقس ويعني «المطرقة» وقد أطلقه عليه الرومان في إشارة الى أن من صفاته «المخرب» أو «الهادم» بسبب ثورته على الديانة الرومانية الوثنية، وقد لجأ مع أنصاره الى كهوف الجبل الأخضر للتحصن بها من هجمات الجيش الروماني قبل ان يضطر إلى اللجوء إلى مصر العام 61 ميلادي، ثم رجع في عام 63 الى ليبيا وقضى بها سنتين ، ويرجح الباحثون أنه كتب انجيله وهو أقدم الأناجيل في أوشاز الجبل الأخضر، في وادي الانجيل ثم عاد إلى مصر ثانية حيث تم القبض عليه في الإسكندرية في عام 68 ميلادي وهناك قطع رأسه وتعرض جسده للسحل في طرقات المدينة ، ومن ثمة سُرق جسد مرقس من الإسكندرية وتم نقله إلى إيطاليا. لكن الكنيسة القبطية استعادته عام 1968 في أيام البابا كيرلس السادس ، وفي صباح الأربعاء 26 يونيو 1968 احتفل بإقامة الصلاة على مذبح الكاتدرائية المرقسية، وفي نهاية القداس حمل البابا كيرلس السادس رفات القديس مارمرقس إلى حيث أودع في مزاره الحالي تحت الهيكل الكبير في شرقية الكاتدرائية بالإسكندرية حيث المقر الرئيسي للبابا والمحج المقدس للمسيحيين المصريين والأرثوذكس.

 ويسمى مرقس كذلك بلابيوس أو لباوس ويعني «الليبي» والزيلوطي بمعنى «السريع المشي» حسبما يرجعها الحلاق في كتابه الى الكلمة العربية «ألزّلط» التي تعني «المشي السريع» ويعتقد انها الكلمة المناسبة لمرقس حتى أن حذاءه كان دائما يتمزق من كثرة السفر، ويسمى ايضا الكنعاني نسبة الى جذوره الأصلية، وذكر القديس بولس اسمه (مرقس) في رسائله. ولد مرقس الانجيلي في الجبل الأخضر

وفي مايو 2020 ، تحدث البابا تواضروس في عظته قائلا « وجود مارمرقس عندنا وهو أتى من ناحية ليبيا من الغرب تتميمًا لنبوة أشعياء قبل السيد المسيح بنحو 800 سنة « في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها (الحدود بين مصر وليبيا) ومارمرقس يمثل العمود القادم من الغرب لكي ما ينير الطريق فى الإسكندرية »

وواصل البابا عظته: "مارمرقس كان من السبعين رسولا ومعنى اسمه مطرقة ونسميه «كاروز مصر» ولذلك نطلق على كنيستنا «كنيسة رسولية» لأنها تأسست من خلال رسول، والإسكندرية نسميها  «الكرسي الرسولي» والكراسي الرسولية فى العالم معدودة ( أورشليم، الإسكندرية، أنطاكيا، روما، القسطنطينية) الكراسى الخمس الرسولية المسيحية في التاريخ