جاء قرار مجلس وزراء حكومة الوحدة الوطنية، نقل تبعية الهيئة العامة للخيالة ( السينما ) والمسرح والفنون والمكونات التابعة لها، إلى وزارة الثقافة والتنمية المعرفية، على أن يكون مقرها الرئيسي مدينة بنغازي، ليطرح عددا من الأسئلة المهمة حول مصير ملفات الفساد الذي نخر الهيئة خلال السنوات الماضية، ووضعيات الفنانين المرتبطين بها ولاسيما من داخل العاصمة طرابلس ومناطق غرب البلاد ، ومن بينهم فنانو المسرح الوطني الذي باتوا مشردين في المقاهي وعلى قارعة الرصيف ، يواجهون عطالة فنية أجبرتهم عليها سياسات حكومية طالما سعت خلال السنوات العشر الماضية الى تهميش الفن وتجاهل  موقع الفنان ودوره الطلائعي في المجتمع

تم تأسيس المسرح الوطني الليبي في العام 1966 مع إرهاصات تشكل النهضة الفنية والثقافية في البلاد ، ومع بدايات السبعينيات بدأت الحكومة في إرسال عشرات الطلبة لدراسة الفنون المسرحية في دول من شرق وغرب أوروبا كإيطاليا وفرنسا وإنجلترا وهنغاريا ويوغسلافيا وكذلك في دول عربية كتونس ومصر، وفي بعض المراحل بلغ عدد الفنانين المنتسبين للمؤسسة أكثر من 80 عضوا، وهو ما أعطى زخما ثقافيا مهما لمجتمع ثري بالمواهب، وفسح المجال أمام الشباب المتوثب نحو الركح لينطلق في رحلة مهمة من العطاء والإضافة من خلال تجارب تتعدد وتتنوع بتعدد وتنوع المدارس المسرحية ومرجعيات أصحابها

عمل المسرح الوطني وفق النظم واللوائح الحكومية أو من الهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون التي تأسست في العام 1971 ، وقد اتخذ من مسرح الكشاف الذي افتتح في العام 1970 مقرا لنشاطه وفق عقد إيجار متفق عليه على أن تتولى الهيئة العامة للثقافة دفع مبالغ الإيجار . وتعود ملكية مسرح الكشاف للمفوضية العامة للكشافة والمرشدات التي ولتراكم الديون على المسرح الوطني، طالبت باستعادته وإخراج الفرقة منه ، وساهمت الحكومات المتلاحقة منذ العام 2011 في تفاقم الأزمة. وتنكرت الهيئة العامة للخيالة والمسرح والموسيقى لتعهدات كانت تخضع في السابق لوزارة الثقافة، فتم في نوفمبر 2017 طرد فرقة المسرح الوطني من مسرح الكشاف، ورفضت الجهات المسؤولة التابعة آنذاك لحكومة الوفاق التدخل لحل الأزمة، بل أن بعض المشرفين على الهيئة العامة للثقافة والهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون تنكروا للمسرح الوطني واعتبروه خارج اهتماماتهم وذلك في تناسق مع ميولاتهم الإخوانية والجهوية المعادية للفن الرابع وللفن عموما

وقالت الحركة العامة للكشافة والمرشدات في ليبيا أن مسرح الكشاف في طرابلس بني بعرق وجهد قادة الكشاف منذ ستينيات القرن الماضي وبتمويل كامل من ميزانية الحركة الكشفية، مشيرة إلى أنه تم افتتاحه عام 1970، وتم تأجيره من قبل الهيئة العامة للثقافة في الدولة آنذاك ، وأوضحت أن عقد الاستئجار الأخير مع الهيئة انتهى منذ عام 2009 وبأنهم حاولوا طيلة السنوات الماضية تسوية الملف مع الوزراء المتعاقبين إلا أن الأمر لم يتسن إلا الآن، ليتم بذلك استلام مبنى المسرح بعد أن أبدت الهيئة العامة للثقافة عدم احتياجها له إلا أن الجهة المعنية والتي كانت تشغل المسرح وتديره وهي فرقة المسرح الوطني رفضت هذا الإجراء، وقد أشار بيان الحركة الكشفية إلى أنهم غير معنيين بعدم رضوخهم للقرار

وبالمقابل ، أكد عاملون بالمسرح الوطني أن فرقتهم تكبدت خسائر فادحة بعد أن استولت جهات مجهولة على ورشاتها ومنها ورشة النجارة والملابس والماكياج والإضاءة والمكتبة وغيرها ، وكان مشهد تدخل ميلشيا الردع الخاصة لطرد الفنانين من مقر عملهم مهينا بشكل غير مسبوق في تاريخ المسرح الليبي ، وأصاب الساحة الفنية والثقافية بصدمة أثارت الكثير من الجدل ودفعت نحو إصدار الكثير من التنديد والاستنكار سواء في العاصمة طرابلس أو في المدن الأخرى

وقد حاول رئيس الهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون في تصريحات صحفية أن يبدي تعاطفا مع مشاكل المسرحيين ، "إلى جانب عدم وجود الميزانية لدعم الفرق الوطنية أو أهلية لخلق مسرح فعال في ليبيا، فهناك مشكلة انتزاع المسرح الوطني من قبل الحركة العامة للكشافة والمرشدات في ليبيا، ووجد مؤدو المسرح أنفسهم دون خشبة يعملون فوق أرضيتها، لتطلق رصاصة الرحمة بحقهم". وفق تعبيره

لكن مصادر مطلعة قالت إن ميزانية الهيئة وصلت الى 66 مليون دينار ليبي أي ما يقارب 50 مليون دولار بسعر الصرف الرسمي خلال حكم الوفاق ، ومع ذلك لم يسع البيوضي الى حل مشكلة المسرح الوطني بدفع الديون المتخلدة بذمته الى الحركة العامة للكشافة والمرشدات ، كما أن رئيس الهيئة العامة للثقافة حسن ونيس لم يقم بأي جهد في هذا الاتجاه ، وهو ما زاد من حالة الغضب بين الفنانين وأثار عاصفة من الانتقادات الحادة في صفوف عشاق المسرح ،

وردت المصادر ذلك الى سيطرة عقلية الثأر الميلشياوي من دور الإبداع كمصدر لقيم السلام والمواطنة، وغياب ثقافة الدولة والمؤسسات لدى مسؤولين دفعت بهم المحاصصة الجهوية والإيديولوجية الى السلطة خلال سنوات عجاف واجه فيها الفنانون الليبيون التجاهل والتهميش ووصولا الى السخرية من دورهم . فعندما يرتفع صوت السلاح والممسكون به ، تتراجع لغة الفن والإبداع وثقافة الحياة والوئام

وصرّح مدير المسرح الوطني الفنان فتحي كحلول بالقول إن «يعتبر الوطني بطرابلس بيتًا لكل المبدعين في ليبيا وحاضنة لكل الأنشطة المسرحية والفنية والثقافية طيلة تلك السنوات التي مرت، ولقد مرَّ من خلالها أجيالٌ من المبدعين تعلموا ودرسوا في المسرح الوطني وقدموا إبداعهم على خشبة مسرح الكشاف، ومنذ أن تأسس تقوم الثقافة بدفع إيجار المقر الخاص بفرقة المسرح الوطني، مسرح الكشاف، لصالح المفوضية العامة للكشافة والمرشدات؛ دعمًا للحركة الكشفية، وإن تأخر الدفع في السنوات الأخيرة فهذا ليس ذنب الفنانين، لكن لظروف تمر بها البلاد والكل يعرفها، كذلك يجب النظر في إعادة مقار الفرق الأهلية للمسرح، التي تم السيطرة عليها واستغلالها وإيقاف دورها الثقافي مساهمة في قتل الوعي وإبعاد المثقفين عن دورهم الحقيقي، لكن هذا لا يعني أن يطرَد الفنانون من مقرهم وأن تقفل الأبواب في وجوههم لهذا السبب، فالمكان ملك للجميع فنانين ومبدعين وإعلاميين ومثقفي الوطن».

وبيّن النائب السابق لرئيس اتحاد الفنانين الليبيين خليل العريبي  إن «مسرح الكشاف بني في الاساس كخشبة مسرح لتقديم العروض المسرحية وهو المسرح الوحيد في مدينة طرابلس فكيف نتجرأ ونطرد الفنانين المسرحيين من هذا المنبر الذي هو حياتهم وشهد ابداعاتهم لاكثر من سبعة عقود » مردفا « لا لحرمان الفنانين المسرحيين في طرابلس من مسرح احيوه بمهرجاناتهم واعمالهم المسرحية المميزة وتداولت عليه اجيال من الفنانين في كافة المجالات منهم علي سبيل المثال لا الحصر محمد شرف الدين وحميدة الخوجة وعمران المدنيني وشعبان القبلاوي وطاهر القبايلي ولطفية ابراهيم وفتحي كحلول وعبدالمجيد الميساوي وعلي الشول وخدوجة صبري وسعاد الحداد وسعد الجازوي وعلي القبلاوي وعيسي عبد الحفيظ وعبدالله الشاوش واسماعيل العجيلي ويوسف الغرياني ومحمد الكور وغيرهم كثير واستضاف عروضا مسرحية زائرة عربية وصديقة  » منهيا حديثه بالدعوة الى إنقاذ المسرح الوطني في طرابلس و ايجاد حلول لسبب اغلاقه وإعادة الحياة المسرحية والفنية لهذا الصرح التاريخي

يقول أحد الفنانين أن المشهد بات مهينا وهو غير مقبول وليست له أية تبريرات مقنعة ، فالمسرح الوطني طرابلس يحمل إرثا عريقا ويعبّر عن وجدان الشعب وقد عرف على امتداد عقود خلت المئات من الأعمال الناجحة التي لاقت الإعجاب والاستحسان ، وكان آخرها « بالمحلي الفصيح » ، وعندما قامت ثورة فبراير اعتقد المبدعون أن وضعهم سيكون أفضل ، لكن سلطة الأمر الواقع التي فرضتها الميلشيات وشرعت لها المحسوبية والمحاباة أدت الى خيبة كبرى ، ولا سيما بوضع مسؤولين على القطاع الثقافي لا علاقة لهم بالثقافة والفن والإبداع ، ولا بمنطق الدولة والمؤسسات ، ولا بعراقة التاريخ الحضاري والثقافي ، وإنما هم في أغلب الأحيان ممن يستهزئون بدور الفنان ويرون فيه عالة على المجتمع ، بل أن بعضهم لا يعترف أصلا بمهنة الفنان وهذا ما يحز في نفوس كثيرين ممن قضوا أعمارهم على خشبة المسرح معتقدين أنهم يخدمون الشعب الذي ينتمون ويتحدثون بضمير الإنسانية في أبهى تجلياته المبدعة

منذ أغسطس الماضي ، أعلن عن قرار رئيس الحكومة بنقل تبعية الهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون الى وزارة الثقافة والتنمية المعرفية ومقرها الرئيسي الى بنغازي ،وهو أمر أسعد دون شك فناني المنطقة الشرقية ، لكنه أثار لغطا واسعا بين فناني طرابلس والمنطقة الغربية ، ولاسيما في ظل غياب هيكلية واضحة للمؤسسات الثقافية ، والفشل في إيجاد رؤية علمية وعملية لبناء حركة ثقافية فاعلة بآليات غير خاضعة لأمزجة المسؤولين ، وما قضية المسرح الوطني بطرابلس سوى واحدة من الحالات المأساوية التي يعاني منها الفنان الليبي  ، لكن الأمل يبقى ساريا في لفتة من المهندس عبد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية تدفع نحو حل قضية الديون المتراكمة على هذه المؤسسة العريقة وإعادة عناصرها الى مسرح الكشاف بعد أن تششتوا بين  المقاهي وأرصفة الشوارع ، فالمسرح حياة وحركة في إتجاه المستقبل ، وإحدى الأدوات الناجعة لبناء المجتمعات ونشر المعرفة وتكريس قيم الحرية والمواطنية