تحيي تونس اليوم الخميس 15 أكتوبر 2015 الذكرى الثانية و الخمسين لجلاء آخر جندي فرنسي عن أراضيها على إثر اندلاع معركة بنزرت الحاسمة و الفاصلة في الحرب التي خاضتها تونس للتحرر من نير الإستعمار الفرنسي و نحت مسيرة الإستقلال الوطني بأحرف من نور و دم، عندما صرخت عاليا في وجه فرنسا الغاشم و كل العالم:" ألا فانتبهوا تونس هنا و سوف تحارب و تنتصر"!.

و سقط في معركة الجلاء التي مثلت منعرجا مفصليا في تاريخ البلاد  الآلاف من الشهداء و الجرحى، دون نسيان الخسائر المادية لبلد ما زال في بداية تأسيس دولته شبه المستقلة وقتها. و أكد شهود عيان ممن عايشوا حرب بنزرت أن الخسائر في صفوف الجيش التونسي و المدنيين كانت فادحة حتى أن  سرادق و مواكب العزاء انتصبت في كل بيت بالمدينة الواقعة شمال تونس و المطلة على ضفاف  المتوسط.

"بوابة إفريقيا الإخبارية" سلطت الضوء على مجريات و أطوار و مسارات و نتائج كبرى المعارك التي خاضها التونسيون ضد فرنسا لكسب ره‍ان الإستقلال التام و بسط السيادة التونسية الكاملة على كل شبر من تراب وطنهم ذات أكتوبر 1963 ، في الملف التالي:

يقال إن التاريخ يكتبهالمنتصرون، و لكن للشهداء نصيب الأسد في خط التحرر الوطني لكل بلد، ولذلك فهم حتما المنتصرون في كل المعارك، و من هنا انطلقت معركة بنزرت التاريخية أو معركة الجلاء كما تسمى رسميا في تونس باندلاع المواجهات المسلحة التي دارت في شهر جويلية 1961 بين القوات الفرنسية المرابطة قرب مدينة بنزرت والجيش التونسي الفتي تسانده أعداد من المواطنين المتطوعين وسط  تصعيد عسكري فرنسي منقطع النظير، حيث نزل المستعمر بكل ثقله العسكري رغم اختلال موازين القوى بين الجانبين.

دامت معركة الجلاء عن بنزرت أربعة أيام من 19 إلى 22 جويلية 1961 و شهدت معارك عنيفة بين قوات الاستعمار الفرنسي وبين الشعب التونسي بكل فئاته إلى أن صادق مجلس الأمن الدولي على قرار يقضي بوقف إطلاق النار. و بعد تعاطف قوى السلم في العالم مع القضية التونسية أجبرت فرنسا على الدخول في مفاوضات مع الحكومة التونسية وقد تم التوصل الى اتفاق 18 سبتمبر 1961 الذي نص على سحب كل القوات الفرنسية من مدينة بنزرت والعودة الى بلادها.  وبذلك شرعت قوات الاستعمار الفرنسي في الانسحاب من أرض الجلاء بداية من 29 سبتمبر 1963،  ليكتمل الجلاء التام عن قاعدة بنزرت يوم 15 أكتوبر 1963 برحيل آخر جندي فرنسي، و هو تاريخ الجلاء التام و تكريس السيادة الوطنية التونسية الكاملة على كل شبر من تراب الوطن.

أسباب إندلاع المعركة

"في مقابل انتظارات الطرف التونسي لإلتزام فرنسا بجدول انسحابها من ولاية بنزرت وفق بروتوكول الاستقلال، كانت الاطراف الاستعمارية الفرنسية تعزز تواجدها المدني بإحداث مكاتب خدمات بريدية وفضاءات تجارية جديدة وغيرها من الضروريات و والكماليات لجاليتها هناك في بنزرت".  و وسط هذه "الأجواء السياسية و العسكرية المشحونة و تذمّر فرنسا المتواصل من تحول تونس إلى قاعدة خلفيّة للثورة الجزائرية، بدأت رحى المعركة تستعد للدوران لتكون حادثة ثكنة سيدي احمد شرارة التصعيد في اتجاه الحرب،  حيث انطلق الطرف الفرنسي يوم 30 جوان 1961 في اجراء اشغال توسعة للمطار العسكري بثكنة سيدي احمد ببنزرت فتصدت قوات الحرس الوطني التونسي فورا للعملية و اعادت الاسلاك الحديدية إلى مكانها الاصلي في حركة اغضبت الفرنسيين و استقبل القائم بالأعمال الفرنسي في غرة جويلية الباهي الأدغم الوزير الأول و الصادق المقدم وزير الخارجية ليبلغهما إنزعاج فرنسا الشديد من العملية". بعد ذلك اجتمع الديوان السياسي للحزب الدستوري يوم 4 جويلية و أصدر بيانا يعلن فيه فشل المفاوضات حول جلاء قاعدة بنزرت من طرف الجيش الفرنسي داعيا  إلى ضرورة خوض الحرب لإستعادة بنزرت و انطلقت يوم 5 جويلية عملية التعبئة الشعبية في كامل انحاء الجمهورية و جرى إيفاد مئات المتطوعين من الشباب والكشافة و المقاومين إلى بنزرت.

معركة سيدي يوسف و القشة التي قصمت ظهر البعير

في الحقيقة انطلقت الشرارة الاولى لمعركة الجلاء بتاريخ 8 فيفري 1958، حيث شنت طائرات الجيش الفرنسي المرابط قرب الحدود التونسية الجزائرية هجوما عنيفا  على سوق أسبوعية في قرية ساقية سيدي يوسف من ولاية الكاف شمال غرب البلاد سقط خلاله عدد كبير من التونسيين و الجزائريين.

تواصل القصف الفرنسي لقرية سيدي يوسف نحو ساعة من الزمن،  مما حول القرية إلى خراب، وقد بلغ عدد القتلى 68 منهم 12 طفلا أغلبهم من تلامذة المدرسة الابتدائية و 9 نساء و عون من الجمارك،فيما بلغ عدد الجرحى 87 جريحا، إضافة الى الخسائر المادية الفادحة.

و وفق مصادر أخرى  فقد خلف هذا الهجوم 79 شهيدا من بينهم 20 طفلا و11 امرأة و130 جريحا، هذه الحادثة اتخذها الزعيم الحبيب بورقيبة ذريعة لمطالبة فرنسا بإخلاء قاعدة بنزرت وبذلك قررت الحكومة التونسية العمل على إجلاء بقايا الجيوش الفرنسية عن قاعدة بنزرت .

تدخل مجلس الأمن الدولي

زحفت القوات الفرنسية خارج القاعدة تدعمها المدرعات و تقدمت يوم 21 جويلية نحو المدينة و خرج بورقيبة و حث الجيش التونسي على الإستبسال في القتال و تحولّت المواجهات إلى حرب شوارع حقيقية و كثّف الطيران الحربي الفرنسي قصفه للمدينة وتضاعف عدد القتلى خاصة من المدنيين.

تواصلت الاشتباكات طيلة يومي الجمعة 21 و السبت 22 جويلية من نفس السنة حتى صدور القرار 164 عن مجلس الأمن بوقف إطلاق النار بعد أن كان ذلك اليوم هو الأكثر دموية في المعركة.

يوم 25 جويلية  1961 وصل داغ همرشولد الأمين العام للأمم المتحدة الى بنزرت و انتهى بإصدار قرارات هامة لفائدة تونس.  و في 27 أوت 1961 صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالأغلبية المطلقة على ضرورة فتح التفاوض بين تونس و فرنسا من أجل تحقيق الجلاء عن بنزرت و بعد ان انعقدت المفاوضات توصل الطرفان إلى أن يكون موعد الجلاء عن بنزرت يوم 15 اكتوبر.

معركة الجلاء في تواريخ

سبتمبر 1958: الحكومة التونسية تحدد لفرنسا أجلا اقصاه 8 فيفري 1960 لتحديد تاريخ الجلاء عن بنزرت.
30 جوان 1961: قوات الحرس الوطني تتصدى لأشغال توسعة مهبط الطائرات بثكنة سيدي احمد.
1 جويلية 1961: احتجاج من القائم بالأعمال الفرنسي على ذلك العمل يولد بداية أزمة ديبلوماسية بين البلدين حول بنزرت.
3 جويلية: اجتماع جهوي في بنزرت يشرف عليه الباهي الأدغم لدراسة الوضع.
4 جويلية: عبد المجيد شاكر يعلن قرار الحزب بتطهير البلاد من الوجود الاجنبي وانطلاق عمليات التعبئة.
10 جويلية: والي بنزرت يراسل القائد العسكري الفرنسي طالبا عدم ظهور الجنود الفرنسيين بالمدينة و هو ما تم فعلا.
13 جويلية: فرنسا تعلن رفض المفاوضات تحت التهديد.
14 جويلية: بورقيبة يخطب أمام 100 ألف متظاهر ويؤكد على ضرورة الجلاء.
18 جويلية: شارل ديغول يعلن رسميا عدم استعداد فرنسا للتفاوض حول الانسحاب من بنزرت.
19 جويلية: انطلاق المعارك وسقوط 50 تونسيا (قتيلا وجريحا) و30 جريحا فرنسيا.
20 جويلية: تواصل المعارك وسقوط مزيد من الجرحى وارتفاع عدد القتلى إلى أكثر من 200.
21 جويلية: بورقيبة يحث على الاستبسال في القتال و فرنسا تكثف قصفها للمدينة و تحول المعركة إلى حرب شوارع حقيقية.
22 جويلية: صدور قرار عن مجلس الأمن بوقف اطلاق النار بعد أن كان ذلك اليوم هوالأكثر دموية في المعركة.
25 جويلية: وصول الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد إلى بنزرت
21 أوت 1961: عقد اجتماع في الأمم المتحدة للنظر في قضية بنزرت ينتهي باصدار قرارات لفائدة تونس.
27 أوت 1961: الجمعية العامة للأمم المتحدة تصوت بالأغلبية المطلقة على إدانة العدوان الفرنسي و تطالب بفتح التفاوض بين تونس و فرنسا من أجل تحقيق الجلاء عن بنزرت
18 سبتمبر 1961: التوصل لإتفاق تونسي-فرنسي ينص على سحب كل القوات الفرنسية من مدينة بنزرت والعودة إلى بلادها.
4 اكتوبر 1961: الإعلان عن موعد جلاءالفرنسيين عن التراب التونسي وخروجه من بنزرت
15 اكتوبر 1963: جلاء آخر جندى فرنسي عن الأراضي التونسية.

حقيقة ما وقع أيام 19 و20 و21 و22 جويلية 1961

مصادر عسكرية شاركت في المعركة أكدت في تصريحات اعلامية سابقة أن "توتر الوضع في بنزرت في صائفة 1961 بعدما أقدم الفرنسيون على اطالة مربض الانزال بمطار سيدي أحمد مسايرة لتعويض أسراب الطائرات من نوع "ميستار" بأسراب عصرية من نوع "ميسترال" مبرهنين بذلك على تمسكهم بالقاعدة وتجاهلهم للمطالب التونسية المتكررة الداعية الى اجلائها وتسليمها للجيش التونسي الناشئ.

وفي 19 جويلية 1961 عمد الفرنسيون الى جلب فرق من المظليين من الجزائر حيث كانت تدور حرب طاحنة مع الثوار الجزائريين، فيما منعت الحكومة التونسية تحليق الطائرات الفرنسية في المجال الجوي التونسي".

ذات الجهة أشارت إلى أن المعركة "اندلعت في نفس اليوم حين دكّ الجيش التونسي بقيادة الملازم الأول سعيد الكاتب مطار سيدي أحمد دكّا عنيفا بقذائف الهاون ممّا أدى الى تحطيم ست طائرات ومقتل وجرح العديد من المظليين الفرنسيين القادمين من الجزائر.   أبرق الأميرال «أمان» الى القيادة الفرنسية بباريس قائلا: إن القاعدة الاستراتيجية الفرنسية ببنزرت مهددة بالسقوط في أيدي وحدات من الجيش التونسي بقيادة ضباط من خريجي مدرسة سان سير العسكرية وضباط صف من قدماء محاربي الهند الصينية" ليتلقى الرد التالي: «اضربوا بقوة و بسرعة»  فجمع الأميرال "ضباط أركانه و وضع خطة ميدانية لغزوالمدينة بواسطة هجوم على ثلاثة محاور:

المحور الأول: الطريق الرابطة بين سيدي احمد و باب ماطر في المدخل الغربي من بنزرت حيث تقدمت وحدات فرنسية مدرعة .

المحور الثاني: وادي المرج والكرنيش حيث أوكلوا الى المظليين المعززين بسيارات مصفحة و الى المشاة المحمولين التقدم لتطويق المدينة من الشمال.

المحور الثالث: المجال المائي لقنال بنزرت حيث أوكلوا الى كومندوس البحرية اجراء عمليات انزال واقامة رؤوس جسر على طول ضفاف القنال.

بورقيبة يعطي تعليماته لانتشار الجيش في بنزرت

و للتصدي للهجوم الفرنسي على المدينة  أعطى الزعيم بورقيبة تعليماته بنشر قوات الجيش الوطني في جميع شوارع بنزرت و إعداد خطة عسكرية تعتمد على تكتيكات معينة تقوم أساسا على الكر و الفر و الإنتشار المحكم في كل شوارع و أنهج المدينة، و هو ما ساعد وحدات الجيش الوطني على كسر حدة التفوق العسكري الفرنسي من حيث المعدات و الآليات الحربية التي اعتمدها كالمدرعات و المدافع.

بالتوازي مع ذلك دعا بورقيبة التونسيين  إلى الخروج في مسيرات شعبية حاشدة في كامل جهات البلاد  و هو ما تم،حيث خرج في بنزرت لوحدها حوالي 50 ألف متظاهرا في تحد صارخ لفرنسا.

المعادلة المفقودة

في 19 جويلية 1961، قامت قوات الجيش التونسي صحبة آلاف من المتطوعين بحصار القاعدة و سارت المعركة في البداية لصالح التونسيين إذ تم اقتحام مركز التموين الفرنسي بالمصيدة، كما نجحت المدفعية التونسية في تحطيم سبع طائرات فرنسية في مدارج مطار سيدي أحمد و قتل وجرح العديد من المظليين الفرنسيين القادمين من الجزائر. كذلك  جرت محاولات لاقتحام ترسانة ثكنة منزل بورقيبة، فأبرق الأميرال موريس أمان، إلى القيادة الفرنسية بباريس يطلب المساندة فأرسل الجيش الفرنسي معدات مدرعة و آليات مزنجرة و فرق هندسة ميدانية ومدافع بعيدة المدى وبطريات هاون و حوصرت المياه الاقليمية التونسية بالبوارج الحربية و حاملة الطائرات كليومنسو و البارجة الثقيلة جورج ليق و الوحدات المظلية المنضوية تحت لواء ليجيون ايترونجار.    قامت القوات الفرنسية ب" شن هجوم معاكس كاسح مستندة على تعزيزات إضافية من الجزائر و تمكنت من احتلال جزء كبير من المدينة فتعرّض الزعيم لإنتقاد شديد من معارضيه و إتهموه بالغرور لعلمه المسبق بعدم تكافئ موازين القوى بين جيش تونسي ناشئ لم يمض على تأسيسه سوى خمسة سنوات و بين ثالث أكبر قوة عسكرية في العالم بعد  الولايات المتحدة الأمريكية و الإتحاد السوفياتي، وفق ما جاء في بعض المصادر التاريخية".

اعتمد الجيش الفرنسي على شبكات رهيبة من شبكات الإسناد و التموين و محطات رصد سمعي و لوجيستي،  إضافة إلى تجهيزات مدفعية و نابلم  مدرعات و آليات مزنجرة و قطع و طائرات حربية و فرق مظليين تم جلبها من الجزائر و مدافع.  في الأثناء قامت البوارج  البحرية الفرنسية القادمة من قاعدة  تولون و غيرها بمحاصرة المياه الإقليمية التونسية بغاية إحكام السيطرة على بنزرت.

تونس تعلن الحرب على فرنسا

في المقابل، واجه الجيش التونسي هذه القوة الفرنسية الرهيبة ببنادق رشاش و تجهيزات عسكرية تقليدية كالقنابل الممضادة لتقدم الدبابات. عدم تكافؤ الميزان العسكري بين تونس و فرنسا لم يمنع الجيش التونسي من التجرأ على الوقوف الند للند مع أعتى الجيوش في العالم آنذاك و ذلك عبر الدخول في مواجهة مفتوحة زادها و زوادها الوحيد حب الوطن و الدفاع عن الأرض و العرض ، حيث انتشرت وحدات الجيش التونسي في كل أزقة و أنهج المدينة و قامت بقصف عمارة البحرية الفرنسية المنتصبة في المدينة بعد أن رفضت تونس كل دعوات العدو إلى الإستسلام و إلقاء السلاح.

فرنسا تقر بنجاح خطة الجيش التونسي و حكمة بورقيبة

نجاح الجيش التونسي في كسر حدة الهجوم الفرنسي على بنزرت عبر خطة الإنتشار المحكمة في المدينة أجبرت قائد الحرب الفرنسي و هو الأميرال "أمان" على الإعتراف في تصريحات إعلامية وقتها بتوفق التونسيين في عرقلة تقدم قواته للسيطرة على المدينة.

تصريحات خالدة للزعيم بورقيبة

رغم عدم تكافؤ الميزان العسكري بين الجيشين التونسي و الفرنسي حسم الزعيم الحبيب بورقيبة المعركة برد مزلزل تناقله العالم على ما أعلنه شارل ديغول وقتها  بإن "فرنسا لا تريد و لا تستطيع التفريط في بنزرت"، معلنا الدخول في مواجهة التحرير الأخيرة بقوله في تصريحات مدوية :" لست مضطرا لمغالطة شعبي و اللجوء إلى الكذب و لست الرجل الذي يتبنى سياسة فرنسية لا يجد فيها مصلحة بلاده، لا أستطيع قبول ذلك و أخير المواجهة". كما أعلن بورقيبة خلال خطاب له لتعبئة الرأي العام التونسي أن "معركة بنزرت جديّة و ليست بالأكذوبة". و أضاف أن تونس "وصلت إلى مرحلة لا يمكن بعدها الإنتظار" ،مشددا على ضرورة جدولة فرنسا مغادرة قواتها للمدينة و على إجلاء و جلاء آخر جندي فرنسي من التراب التونسي حتى تكتمل معركة الإستقلال الوطني عن فرنسا بصفة نهائية، إلا أن فرنسا تتعنت و تندلع بذلك الحرب على إثر إعلان الإذاعة التونسية بتاريخ 19 جويلية البيان التالي: «لقد تلقت القوات المسلحة التونسيةأمرا بقصف كل طائرة تخترق المجال الجوّي التونسي»، يليه خطاب آخر لبورقيبة مفاده شحن معنويات الجيش و الشعب من ذلك قوله :«على كل رجل يسمع ندائي أن يقاوم و أن يخيّر الموت على التفريط في شبر واحد من أرضنا».

أبطال معركة بنزرت

يؤكد المؤرخون أن أبطال معركة الجلاء هم كل التونسيين بمختلف فئاتهم من قوات عسكرية و قوات حرس و قيادة سياسية و مواطنين، إلا أن نصيب التفوق في هذه الحرب كان لقوات الحرس  الوطني التي ساهمت في تكبيد العدو خسائر فادحة في العدد و العتاد، يليها في سلم الانتصار الديبوماسية التونسية التي نجحت في حشد الرأي العام الدولي  لنصرة قضية التحرر الوطني التونسي الكامل.

الرائد محمد البجاوي بطل بحجم وطن

من أبطال معركة بنزرت الذين أبلوا البلاء الحسن من أجل الدفاع عن حرمة الوطن نجد كذلك أفراد قوات جيشنا الوطني الفتي وقتها و لكنه نحت نياشين النصر رغم فداحة الخسائر المسجلة في صفوفه. و من بين أبطال جيشنا الذين رووا تونس بدماءهم نجد الرائد الشهيد  محمد البجاوي الذي استشهد رافضا إلقاء السلاح في مشهد بطولي و وطني نادر قارب الأسطورة، و كذلك  الملازم الأول الشهيد الطيب بن علية و الملازم الشهيد محمد العزيز تاج و الملازم الشهيد الهادي والي و غيرهم و هم كثر.

7000 شهيدا و 1115 جريحا

اختلفت المصادر حول عدد شهداء معركة الجلاء، إذ أفادت بعض الجهات أنه سقط خلالها 670 شهيدا و 11 15جريحا، في حين أكد ضابط الحرس الوطني حسن مرزوق الذي خاض المعركة في كتاب أصدره لاحقا أن عدد الضحايا بلغ 7 آلاف.

شهادات من الصحافة العالمية: قصص قتل مرعبة و صمود تونسي خارق

استمعت اللجنة التي عينتها الأمم المتحدة حول انتهاك فرنسا لحقوق الانسان في معركة بنزرت الى شهادات بعض التونسيين، كما إطلعت على بعض التقارير الصحفية الأجنبية، وقد جاء في أوراق عمل هذه اللجنة ما يلي:

أفاد مراسل ال«بي.بي.سي» (M. Mahheus) أنه رأى جثثا كثيرة ممزقة ومنها جثة لامرأة بُقر بطنها ليخرج منه رضيع وقد قطع نصف رأسه.

قالت الصحفية الفلندية «باولا بوركا»: «لقد رفعت الغطاء عن بعض الجثث لأتمكن من تصويرها وقد لاحظت أن بعضها يحمل آثار الطعن الى جانب ثقب الرصاص.. و قد كانت أيادي بعض هؤلاء مقيّدة..كما رأيت امرأة تدفن طفلا كان صدره مهشما.. رأيت أيضا زوجين كانا محروقين ب«النابالم».. إن حرب بنزرت ستظل مأساة في وجه الغرب في الحرب العالمية الثانية ضد الاستعمار".

كما جاء في شهادة الصحفي الفرنسي «بيتشار» أنه ظل في بنزرت ليومين كاملين يعاني مما حدث وقال :"لقد رأيت رأىت جثثا كثيرة في كل مكان ولو أمكنني المقارنة بين الهجوم على بنزرت والهجوم على بورسعيد (حيث غطى المعركة)، لقلت إن الخسائر المادية في بورسعيد كانت أكبر ولكن الخسائر البشرية في بنزرت كانت أكبر بكثير".

وجاء في شهادة الدكتور البلجيكي «فان بيتر» أنه يتذكر مشهدا فظيعا لن ينساه أبدا، حيث قام الجنود الفرنسيون بقتل امرأة حامل واستخراج الجنين من بطنها ودهسه.

وقال «تايدجاف تايقلند»، إنه رأى جنودا فرنسيين يقومون بعمليات نهب للبيوت حيث كانوا يستولون على المال و الذهب و يقتلون بدم بارد ثم يغادرون.

وذكر «توماس برادي» مراسل «نيويورك تايمز» أنه رأى في ملعب منزل بورقيبة 27 جثة ملقاة كان من بينها 10 لمدنيين و امرأة. كما بعث في مراسلته ليوم 23 جويلية أنه عاين في المقبرة دفن 250 جثة ثلاثة منها كانت متفحمة تماما. 

صحفيا سويديا أورد ما يلي في مراسلته عن الحرب «لا أحد يمكنه أن يعرف عدد القتلى ففي كل يوم وكلما اقتحم بيت الا و وجد بداخله أموات، لقد أحصى أحد الضباط 200 قتيل مدني في موقع واحد وفي يوم واحد فقط... لا أحد يعرف العدد...».
وأضاف أيضا... «في مقبرة المسلمين كان المشهد مرعبا... كانت  هناك صفوف من الجثث بعضها غير مكتمل.»

شاهد آخر يصرّح بأنه شاهد حوالي 60 جثة لأشخاص كانت أيديهم مربوطة الى الخلف بأسلاك كهربائية كما عاين بعض الجثث التي كانت مقطعة الأوصال.

كما أفاد حارس مخزن قرب المصيدة أن متطوّعين تونسيين كانوا مختبئين عند مرور مدرّعة فرنسية وبمجرّد أن رفع أحدهم رأسه أطلقت عليهم النيران بوحشية ولم ينج منهم إلاّ حوالي 28 من ضمن 80 متطوعا تقريبا.

كما أفاد مواطن من سكان منزل جميل أنه رأى جرحى ممدّدين يئنون في حين كانت القوات الفرنسية تحفر خنادق.