خلال السنوات الثلاث الأولى التي أعقبت الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي، شعارات كثيرة رفعت وآمال كثيرة سُوّقت من مُردّدي التكبيرات وأنصار الإسلام السياسي، بأن الفرج قادم للّيبيين وأن فجر الحرية جاءهم ليفتح لهم صفحة جديدة في التّاريخ. كل الانتفاضات غير المدروسة تكون على هذه الصورة من الاندفاعية ورفع سقف الثّورية. 

لكن كثيرين لم يدركوا حجم الورطة التي وقعوا فيها، ولم يدركوا أن الغضب على نظام في لحظة من التاريخ قد تقضي على مصير دولة بأكملها، خاصة إذا كان رافعو تلك الشعارات وحاملو تلك الآمال قادمين من كهوف الموت ومن مكاتب المخابرات، وممن يرون في التخريب جزءا من نجاح مشاريعهم السياسية.

طرابلس في ليبيا استثناء منذ لحظة 2011، والإسلاميون فيها استثناء أيضا. هي العاصمة برمزيتها التاريخية والسياسية وهي الشاهدة على مراحل تحّدي مؤامرات كثيرة من الداخل والخارج. وهم بتاريخهم المرتبط بأكثر من حدث ومكان في ليبيا وخارجها. طرابلس بالنسبة إليهم حالة خاصة. حتى عندما ساعدهم الناتو في مدن أخرى على كامل شرق البلاد، بقيت أهدافهم منقوصة وأعينهم شاخصة نحو مركز السلطة الذي مثل لهم لسنوات عقدة لم ينجحوا في فكّها.

في طرابلس رأى الإسلاميون أنفسهم سادة البلاد، وفيها فتحوا المجال للمخابرات الإقليمية باللعب أينما وكيف ما شاءت. أحسوا للحظات أنهم ملكوا كلّ شيء وعلى ذلك الأساس شرعنوا كل شيء إلى اللحظة التي صدمتهم الانتخابات في 2012 ووجدوا أنفسهم مجتمعين على هامش الخارطة الانتخابية، الأمر الذي أعادهم إلى السلاح باعتباره أداتهم التي تثبّت لهم وجودهم في العاصمة وفي البلاد عموما ولتُفتح صفحة جديدة شعارها المليشيات والفوضى.

 بعد العام 2013، عاشت العاصمة طرابلس أصعب فتراتها، كانت الدماء والسلاح والعصابات هي سيدة القرارات والموقف. لا أحد كان قادرا على ردعها ولا رادّ لها إلا صراعاتها فيما بينها. خلال كل تلك الفترة كانت العاصمة فضاء مريحا للجماعات المتطرفة والعنيفة لبناء نفسها وتوفير تمويلاتها. بالنسبة إليها متى كانت الفوضى، كان وجودها، وعلى ذلك كانت تسعى بكل الطرق لاستدامة الحالة، بالاغتيالات حينا وبالخطف حينا وبالترهيب أحيانا.

بقيت العاصمة على حالتها تلك إلى حين توقيع اتفاق الصخيرات الذي كان من بين مخرجاته الوضع الأمني وكيفية التعامل مع المليشيات المسيطرة على العاصمة. الواقع أن المليشيات كانت جزءا من ذلك الحوار، فالإسلاميون المشاركون فيه هم من مكوني تلك المجموعات أو في أقل الحالات من داعميها والصامتين عن ممارساتها. كانت الخطّة في تجميع تلك المليشيات تحت سلطة الحكومة المنبثقة عن الاتفاق وهو ما تم في مراحل لاحقة تحت مسمى الأجهزة الأمنية، لكن ذلك بقي مجرّد قرار مع جماعات أغلبها سلفية متشدّدة، القوانين والاتفاقات لا تعني لها شيئا خارج مشروعها وهو ما تأكد في أحداث لاحقة، حيث بقيت حكومة السراج تحت ضغطها دون أن تكون لها أي سلطة عليها.

في شهر ديسمبر من العام الماضي نشرت صحيفة الغاردين البريطانية من العاصمة طرابلس عن حال المدينة وسلوك المليشيات. كان التقرير يكفي لكشف ما ترتكبه من جرائم بحق الدولة. الخطير في ذلك أنها خاضعة إجرائيا لحكومة الوفاق لكسب الشرعية، وفي الواقع فائز السراج هو الذي تكسب شرعية وجوده منها، وكذا حال الحكومات التي سبقت. في طرابلس بعد سنوات "الثورة" من أراد الحكم عليه أن يبرم صلحا مع مجموعات السلاح وعناوين الإرهاب، هذا هو الواقع وهذه هي خريطة التحالفات. من دون هذا المشهد سيكون صوت الرصاص وسط مكتبك وقد حصل هذا مع رؤوس في الدولة وصورة علي زيدان في اكتوبر 2013 مازالت عالقة في أذهان الليبيين.

 التقرير البريطاني أشار إلى مجموعة مسلحة "مزوّدة بالزي الرسمي الأزرق الأنيق الخاص بوزارة الداخلية"، لكنها أضاف أنها "تبقى مجموعة مسلحة تمثل العنف والتهديد" وأشار إلى أن هناك العشرات من الدكتاتوريين، مُمثلين في المجموعات المسلحة.

كان التقرير شهادة ميدانية على حالة الفوضى والرضوخ للمليشيات الإرهابية، وهي صورة ثمان سنوات من اللاقانون وحكم المزاج، وهي معارك الكل ضد الكل، لا أحد يرى نفسه خارج دائرة التأثير، وهكذا يتصرّف كل أمراء الحروب. هم يختارون المكان الأهم في الوقت المهم وقد نجحوا إلى حد ما، على الأقل إلى اللحظة التي هجم فيها الجيش والتي جعلت منهم موحدين ضد الجيش، وهذا مفهوم باعتبار أن مصيرهم ووجودهم مقترنان بحالة الفوضى وفرض الأمر الواقع على المسؤولين في الدولة.

وفي يناير الماضي، في تجاوز مكشوف لكل ما يمثل السلطة في طرابلس، أعلنت "قوة حماية طرابلس" تمرّدها على حكومة الوفاق وعدم التزامها بقراراتها وعدم خضوعها لسلطة المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، متجاوزة في خطابها وزارة الداخلية، وقالت إنها لن تعتبر قراراته شرعية، حيث هاجم القيادي في القوة عاطف بالرقيق خلال تصريحات إعلامية، وزير الداخلية، فتحي باشاغا، قائلا "لا خيار لديه سوى الخضوع لقوة حماية طرابلس"، مطالبا إياه أن يمنح لقوة الردع الخاصة مكافحة الإرهاب، ولقوة التدخل السريع ملف البحث الجنائي، ولكتائب ثوار طرابلس ملف الهجرة غير الشرعية"، مكرراً أنه "لا خيار لديه غير ذلك".

الغريب أن هذه القوة اليوم في المعارك الدّائرة في طرابلس هي إحدى المكونات الأساسية لقوات الوفاق، وكأن الشعار بالنسبة إلى مليشيات السلاح هو الوحدة عندما يكون مصر ومصير مصالحها مهدد.

 في طرابلس اليوم الخارطة تغيّرت، قيادة الجيش أعلنت حربها التي لا عودة فيها على تلك المليشيات. من حوالي شهر ونصف والسلاح هو السائد. المشهد بدأ يوحي بأن بدائل جديدة قد تطرأ على العاصمة. رغم تعقّد المعركة وتدخّل القوى الإقليمية لاستدامة التحارب، لكن مؤشرات مختلفة تدلّ على قرب حسم الجيش الليبي للمعركة وإنهاء حالة الفوضى والانفلات التي تعيشها طرابلس منذ سنوات. فائز السراج نفسه اليوم في موقع المتورّط والمحرج من مستقبل الحرب. يعرف أن ملفات كثيرة قد تجعله في وضع الاتهام ولهذا أصبحت زياراته مكوكية واتصالاته لا تتوقف، حتى من يتهمهم بالوقوف إلى جانب الجيش يطرق أبوابهم لإنقاذه. الرجل كان أداة طيعة للإخوان المسلمين وسلّم لهم وللمليشيات المرتبطة بهم مفتاح العاصمة، ولم يعد قادرا على استرجاعه، مراكز النفوذ كانت أقوى منه، وهي التي جعلته واجهة لمشاريعها، والحرب جعلته في الواجهة رغم أن الكواليس وراءها غيره ممن يسعى إلى الإبقاء على حالة الفوضى.

لكل حرب نتائج وتأثيرات، وطرابلس في قلب هذه القاعدة. العاصمة التي عاشت خلال سنوات مضت تحت حكم مافيات المال والسلاح والتطرّف تفتح اليوم أعينها على طرف جديد يريد أن ينهي اللّعبة لصالحه في إطار مشروع كامل لفرض الاستقرار وهو ما لن يكون في حينه بالتأكيد، لكن سيتحقق لا محالة في ظل الرغبة الشعبية في إنهاء الانفلات والفوضى.