في إطار الملف الذي يعده الأسبوع المغاربي بمناسبة اليوم العالمي للمدن، في هذا الجزء الثالث حاورت بوابة إفريقيا الإخبارية والأسبوع المغاربي، الباحث التونسي في علم الاجتماع وأستاذ التربية المدنية والمدرب في مجال المواطنة ومفاهيمها، الأستاذ زهير عزعوزي لشرح مفهوم المدينة واقعا و"تطوّرا"، خاصة مفهوم المدن الذكية ومدى حضوره في المدينة التونسية إضافة إلى شرح مفاهيم متصلة كالحداثة والمواطنة وتطور الفضاء العمومي. وتجدون في نص الحوار شرحا مستفيضا وتعرية لواقع خلناه"ذكيا" حتى أكد الأستاذ زهير عزعوزي أنه" يحتاج لنظام حياة ذكي ولمسؤولين أذكياء ولميزانيات ذكية وأموال طائلة"...

تعريف المدينة سوسيولوجيا

تعتبر المدينة تنظيما اجتماعيا يتكون من مجموعة من النظم والأنساق الاجتماعية داخل تنظيم إيكولوجي معين. والمدينة ظاهرة اجتماعية ترجع أساسا إلى وظيفتها في نسج علاقات معينة بين الفاعلين الاجتماعين داخل محيط اجتماعي له خصوصيات مرتبة بالوسط الحضري أساسا. والمدينة من وجهة النظر السوسيولوجية هي حياة مليئة بالحركة وبالعلاقات ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني، إذ تُعرّف المدينة كظاهرة وجود أنماط عديدة من الأنشطة المكونة لحياة الإنسان في مختلف أبعادها.

وتشير أغلب البحوث السوسيولوجية إلى ارتباط مفهوم المدينة بالوسط الحضري مقابل مفهوم القرية في الوسط الريفي. ومن هذا المنطلق فإن الدراسات تتحدث عن المدينة مقابل القرية وتتحدث عن الوسط الحضري مقابل الوسط الريفي. وهي ثنائية تحدد بشكل قطعيّ مجال تخصص علم الاجتماع الحضري وعلم الاجتماع الريفي.

عالم الاجتماع العربي ابن خلدون 1332/1405 تحدث كثيرا عن المدينة في المقدمة حين ذكر أنّ "البناء واختطاط المنازل إنما هو من منازع الحضارة التي يدعو إليها الترف والدعة ... وذلك متأخر عن البداوة ومنازعها ... فالمدن والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير وهي موضوع للعموم لا لخصوص فتحتاج إلى اجتماع الأيدي وكثرة التعاون ... "

وأضاف " ... إعلم أن المدن قرار تتخذه الأمم عند حصوص الغاية المطلوبة من الترف ودواعيه فتؤثر الدعة والسكون وتتجه إلى اتخاذ المنازل للقرار ... ولما كان ذلك القرار والمأوى وجب أن يراعي فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها وجلب المنافع وتسهيل المرافق إليها ... "

مواصفات المدن الذكية

نحن نعيش اليوم في عالم الميديا الرقمية وعالم التكنولوجيا المتطورة التي أصبحت تقاس بمقاييس الذكاء الاصطناعي وبمدى الامتداد الذكي للتطورات القائمة على إدماج الوسائل التكنولوجية الذكية لتظهر على شكل مؤشرات دالة على المحيط وعلى الفضاء العمومي. إن شكل المدينة اليوم في دول عديدة يتسم بالذكاء. ومفهوم المدينة الذكية يشير إلى المدينة التي تساعد على انتشار بيئة رقمية صديقة للبيئة في جوهرها وداعمة لمفهوم الاستدامة في عمقها.

وإذا ما عدنا لتعريف المدينة الذكية حسب الاتحاد الدولي للاتصالات فنجده قد بين أن "المدينة الذكية هي مدينة مبتكرة تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحسين نوعية الحياة وكفاءة العمليات والخدمات الحضرية والقدرة على المنافسة". كما حدد الاتحاد الأوروبي ستّة عناصر ترتكز عليها المدينة الذكية وهي "الاقتصاد الذكي والأشخاص الأذكياء والشفافية والمشاركة الذكية في القرارات والنقل القائم على التكنولوجيا الحديثة والبيئة الذكية والحياة الذكية "

ومن أمثلة المدن الذكية في العالم نجد نيوروك وسان فرانسيسكو وأمستردام ومدريد وستوكهولم. أما في الشرق الأوسط فنجد دبي التي بدأت في التحول إلى مدينة ذكية منذ .2013

إن الاهتام بمفهوم المدن الذكية يُفسّر سوسيولوجيًا بأسباب عديدة أهمها أن الإنسان ينزع تدريجيا لملاءمة بيئته لما تعرف ظروف حياته من التطور والرخاء ولعل إنسان العالم الرقمي اليوم يصنع أرقى ما توصلت له البشرية من تقنية وتكنولوجيا تساعده على مزيد من الرخاء كما أشار إلى ذلك ابن خلدون. كما أن التقنيات الرقمية أصبحت أكثر من ضرورية في مدن يزورها سنويا ملايين الأشخاص ومن الضروري لساكنيها استعمال لغة العصر الذكية وهي التقنيات التفاعلية الذكية في إدارة تفاصيل الحياة اليومية.

إن عالما يعيش أكثر من نصف سكانه في مدن كبيرة لهو عالم يطمح يوميا في مزيد الإسراع بقيمة الذكاء وبقيمة الترف والرخاء ليتمظهر كل ذلك في شكل جديد من الحياة المدينية التي تنزع نحو الاستخدام المستدام للتكنولوجيا في كل لحظات الحياة.

هل تعرف تونس مثل هذا الاهتمام بالمدن الذكية؟

إن مفهوم المدينة الذكية يحتاج لنظام حياة ذكي ولمسؤولين أذكياء ولميزانيات ذكية وأموال طائلة. وإذا ما أخضعنا الواقع التونسي لمفهوم المعيارية الذي يتيح المقارنة ليجيب عن سؤال : هل أن تونس كدولة تسير نحو الاعتماد على المدن الذكية ؟ فإننا قطعا سنجد الإجابة بالنفي.

فلا تاريخ البلاد التونسية البعيد ولا القريب كان قد شكّل حيزا من الاهتمام بالتكنولوجيا الذكية سواء في الاستعمال أو في الإنتاج : ففي تونس يقتصر الأمر على الاستعمال بغرض الاستهلاك لأنواع عديدة من التكنولوجيات الذكية وأساسا ما ارتبط منها بالهواتف الذكية فقط أو السبورات الذكية في مؤسسات تربوية محددة وقليلة العدد.

كما أن البلاد التونسية تعرف أزمة كبيرة في الخلل السكاني حيث تعيش تقريبا جل المدن التونسية إشكاليات عديدة مرتبة بالفعل الإنساني في البيئة شكلا ومضمونا. وهذا ما ينعكس في ظواهر مثل البناء الفوضوي وغياب الرؤية البيئية المستدامة وعدم القدرة على جلب وتركيز التكنولوجيات الذكية من الخارج.

إننا نعيش في تونس ومنذ الاستقلال علاقات اجتماعية غير مستقرة وما قراءة تاريخ تونس منذ الاستقلال إلى اليوم سوى مشهد ملخص للوضعية غير المشجعة على استخدام التكنولوجيا الذكية من أجل بناء وتخطيط مدن ذكية.

هل تتوفر المدينة التونسية على مواصفات المدينة الحديثة؟

ربما لو نظرنا إلى مفهوم المدينة الحديثة دون النظر إلى ارتباطها بمفهوم المدينة الذكية سنجد بعضا من الملامح موجودة في مدينة تونس ولكننا لا يمكن الجزم بأن مدينة تونس كفضاء هي مدينة حديثة.

إن معايير المدينة الحديثة تقوم على التخطيط الحضري وعلى التناسق الجمالي للمحيط وعلى السلوك المواطني التفاعلي مع البيئة والمحيط وعلى سياسات عمومية مشجعة على الذكاء الرقمي وعلى الاستخدام الواعي والمسؤول للتكنولوجيا.

إننا إذا ما أخضعنا مدينة تونس لهكذا مقاييس فإننا سنلاحظ وجود مشكل رئيسي يتمثل في الفكرة التالية: "مدينة تونس بفضائها المعماري الحالي وبسكانها الحاليين لا يمكن أن تبدو مدينة ذكية بالمفهوم المتعارف عليه. وهذا في حد ذاته إشكال سوسيولوجي مهم جدا".

هل تطور الفضاء العمومي في تونس؟

لقد تناول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس مفهوم الفضاء العمومي حين تحدث عن معنى ودلالة (Public Sphere)  وقد تم تقديم مفهوم الفضاء العمومي في إطار نظرية واضحة المعالم من خلال كتابه " التحول البنيوي للمجال العام " والصادر سنة 1961.

وقد أشار هابرماس إلى أن الفضاء العمومي هو الحيز المجالي الذي يتناقش فيه المواطنون ويتبادلون الأفكار والمعلومات ويطرحون المواضيع المشتركة المتعلقة بمظاهر الحياة وأساسا في بعدها السياسي. إن الحديث عن الفضاء العمومي في المدينة بشكل عام يشير وبقوة أن هناك مدنا تطور فيها مفهوم الفضاء العمومي بسرعة وأن هناك مدنا كان تطور مفهوم الفضاء العام فيها بطيئا وبدرجات متفاوتة.

إن مدينة تونس خلال العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي كانت تتميز بوجود فضاء عام تنتشر فيه النقاشات وتدور فيه الأفكار وتطرح فيه التداولات الكلامية بأشكال تعبيرية عديدة. إلا أنه وبعد الاستقلال سنة 1956 انحسرت مساحة الفضاء العمومي ارتباطا بالأوضاع السياسية التي لم تعط مجالا واسعا للمواطنين ليكونوا معبرين عن التعددية والديموقراطية والاختلاف في الرأي وهي عناصر مهمة جدا تنبني عليها مقولة الفضاء العمومي.

وبعد الثورة التونسية سنة 2011 تطور مفهوم الفضاء العمومي وبسرعة كبيرة لتعرف مدينة تونس حركية كبيرة في الشارع وفي وسائل الإعلام وفي المؤسسات بمختلف أنواعها وهو ما يجعلنا كباحثين نقر بوجود فضاء عمومي يقوم على الحرية في الرأي وفي التفكير وعلى وجود تنوع كبير وبروز تشكيلات متمايزة ومختلفة على صعيد المجتمع المدني والمجتمع السياسي.

ما هي علاقة المواطنة والحس المدني بثقافة المدينة؟

إن تعريف المدينة اليوم يقوم على العناصر التفاعلية بين المواطن كفاعل وبين المحيط كوسط يتحرك في إطاره مواطنون مختلفون في نقاط عديدة ويحملون أبعادا ثقافية متمايزة. إن الربط بين مفهوم المواطنة ومفهوم المدينة يجب أن يعود إلى مفهوم التنشئة الاجتماعية وإلى مفهوم التمثلات المجتمعية للفضاء واستخداماته.

إن المدينة كمجال عمومي تجمع بين متناقضات عديدة منها الثقافي ومنها الاقتصادي ومنها الجندري ومنها الإيديولوجي وهي بذلك تعبّر عن "الإنسان متعدد الأبعاد". وهذا الإنسان في علاقة بالتنشئة الاجتماعية يستبطن سلوكات مواطنية معينة ويعيش متفاعلا مع محيطه عن طريق إدراكه لعناصر المحيط.

إن وعيا بأهمية البيئة في الفضاء المديني لا يمكن إلا أن ينتج سلوكا مواطنيا محترما للبيئة. وإن وعيا مواطنيا بأهمية التعايش السلمي لا يمكن أن ينتج سوى شكل راقي من المعاملات الإنسانية المحترمة للاختلاف والتعددية.

وإن وعيا بقيمة الإنسان الحرّ والمسؤول لا يمكن أن ينتج سوى تعامل راقي وإنساني بين المواطنين. وهذه الملاحظات كلها تندرج في باب علاقة المواطنة بثقافة المدينة حيث يتحول الإنسان إلى فكر واع ومسؤول وإلى فكر مستبطن عن طريق التنشئة الاجتماعية لثقافة المدينة الإيجابية.

ولعلّ البشرية اليوم تجد نفسها أمام مفترق طرق عديدة لتختار، جيدا، بين الذهاب نحو إنسانيتها ومدنيتها أو نحو التراجع التدريجي عن القيم الكونية المحددة لعلاقة الفرد بالمحيط وبالفاعلين من حوله. أعتقد أن المواطنة في بعدها التطبيقي، اليوم، تبقى الرهان الإنساني الأقوى للذهاب بعيدا في طريق السلام المجتمعي والحفاظ على التماسك الاجتماعي.