نفض الليبيون أيديهم من مسار طويل من الحوارات بين العواصم العربية والغربية، وأنهوا أزمة سياسية عالقة منذ سنوات وتعاقدوا على إنهاء الحرب وتوافقوا على حكومة جديدة ومجلس رئاسي جديد. تولّد عن كل هذا المخاض حكومة عبد الحميد الدبيبة، التي أعلن السبت عن تشكيلتها في انتظار منحها الثقة غدًا الإثنين أمام البرلمان.

قائمة طويلة من الوزراء، بعضهم معروف والآخر لا تجد له حتى صورة على الأنترنات ولا سيرة مهنية أو أكاديمية منشورة. مع ذلك يحدو الجميع أملٌ بتغيير المياه وإعادة ضخ دماء جديدة في المشهد السياسي الراكد في البلاد منذ سنوات.

استبقت قضية الرشاوي، النقاشَ حول تركيبة حكومة الدبيبة. وتبعها نقاش آخر حول عدّة أسماء تحمل على ظهرها "وصم" الانحياز أو الفساد. ولكن الأهم هو أنّ الحكومة قد خضت لمعايير واضحة في توزيع الحقائب والمناصب، وراعت التقسيم الجهوي في منح الوزارات. 

قد يبدو ذلك، فعلاً، أحد تجليات عمق الأزمة الليبية، حين يستند المنصب في الحكومة بما هي جهاز تنفيذي على تقسيم مناطقي. أدوارٌ تنفيذية وإدارية وتقنيّة تمنح على أساس الانتماء أولا، لا على أساس الأهلية التامة أو الكفاءة. لكن ذلك على الأقل قد أنهى الأزمة الآنية في انتظار أن تعالج الأزمة -مستقبلا- من جذورها. 

نجح الدبيبة في احترام معايير اختيار الوزراء والمسؤولين بحسب ما نص عليه الاتفاق، وخاصة في ما يتعلّق بحصص "الأقاليم". ولكنه مازال ينتظر النجاح في نيل الثقة من البرلمان ليبدأ العمل على ملفات كثيرة، لعلّ أهمها الاعداد لانتخابات قادمة، ينتظرها الجميع.


** بين الأمل والريبة: 

على خلاف ما حدث مع حكومة الوفاق الوطني، تبدو حكومة الدبيبة وحتى الساعات الأخيرة قبل انعقاد جلسة منح الثقة، سائرة نحو الحصول على ثقة البرلمان. وهذا في حدّ ذاته مؤشر مهم نحو الأمل في أن تتحسّن الأمور السياسية في البلاد.

مؤشر آخر مهم هو دعوة عبد الله الثني رئيس الحكومة المؤقتة وزراءه للاستعداد لنقل المهم إلى الوزراء الجدد، كما أن ترحيبات سابقة من قبل حكومة السراج قد بعثت الأمل بالتعاون وتسهيل الانتقال للحكومة الجديدة.

أهم المؤشرات أيضًا هو ترحيب الجيش الوطني الليبي، بمخرجات الحوار واستعداده للعمل تحت السلطة المدنية الجديدة. وهذا مؤشر يبدو الأعلى من حيث الأهميّة، فقد سبق لهذه النقطة أن كانت العائق الأبرز أمام حكومة الوفاق السابقة.

في المقابل، هناك أزمة قد تجعل من شرعيّة الحكومة ذاته ورئيسها وكل مخرجات الحوار نفسه، محل تشكيك. وهي قضيّة الرشاوي للحصول على أصوات خلال الانتخابات التي رعتها البعثة الأممية. وهذه التهم إذا ثبت وجودها قد تهز كثيرًا من "شرعية" المشهد السياسي الليبي الجديد كاملا وبرمته. 

مع ذلك أيضًا، لا تبدو الأمور الميدانيّة مزروعة بالورود. فرغم الحركة الرمزيّة المهمة التي قام بها الدبيبة في فتح الطريق بين سرت ومصراتة، وغيرها من التحركات والتصريحات، لكن الوضع يبدو صعبًا لدرجة الاحتياج لمعجزة. ولعل أهم ملف معقد وشائك وإشكالي على الإطلاق هو ملف الاتفاقية مع تركيا وملف المرتزقة وملف القاعدة التركية في الوطية.


** المصالحات والميلشيات وتوحيد المؤسسات:

وسيحتاج الدبيبة لما يشبه المعجزة كذلك ليمحو سريعًا آثار حرب مدمرة استمرت قبل قدومه لأشهرٍ على تخوم العاصمة، وسيحتاج لجهد كبير لإعادة مدنٍ كاملة مهجرة كترهونة بعائلاتها ونسائها وشيوخها وحتى مقاتليها. وسيكون محتاجًا لعمل كبير على المستوى الاجتماعي لرعاية مصالحات كبيرى وتبادل الأسرى وإنهاء حالة الاحتقان بين أطراف كانت تتواجه بالمدافع قبل أسابيع. 

سيكون أمام الدبيبة أيضًا الملف الأثقل منذ عشر سنوات في الأزمة الليبية، وهو ملف الميليشيات التي هضمت حكومة السراج جزءًا هاما منها في أجهزتها الأمنية وصبغت الجزء الأهم بطابع الدّولة دون أي تغييرات تذكر، سوى تعليق الرتب العسكرية على أكتاف مجموعات من قادة الجماعات المسلحة الذين ليس لديهم أي تكوين أمني أو قانوني، بل ربما كثيرا منهم يعزوه حتى التكوين المدرسي!

خارطة المليشيات وتبعيتها لعبة معقدة سيحتاج الدبيبة لعمل كبير لفهمها ومن ثمّة إعادة تلوينها وتوظيفها. سيكون أمام واقع التعامل مع تلك المجاميع المسلحة بشكل يسمح له بتوحيد المؤسسات وتسهيل عمل الوزارات وضبط الاجراءات الأمنية والمدنيّة وتفعيل القضاء وخاصة توفير كل الظروف لإجراء الانتخابات. 

سيكون الدبيبة أيضًا أمام ضرورة ملحة لتوحيد المؤسسات المفككة وعلى رأسها المصرف المركزي بتركة الصديق الكبير الثقيلة ومؤسسة النفط وربّما يسعفه حوار اللجنة العسكرية ببعض الأمل في تجاوز بعض العتبات العالية جدًا في طريق توحيد المؤسسة العسكريّة. 

لكن، وفي النهاية، وكما يشير معظم المتابعين للشأن الليبي، سيكون الجميع معترفًا للدبيبة بالنجاح إذا حقق أهم مهمة في كل هذا وهي إجراء الانتخابات. وعليه التركيز على مشاكل الاقتصاد السيولة والأمن وخاصة توفير التلاقيح لفيروس كورونا في أسرع وقت.

وهكذا، بقدر ما تبدو المهام معقدة وصعبة، بقدرة ما تبدو الأهداف بسيطة، وبقدر ما تبدو الريبة في كل شيء وفي كل تفاصيل المشهد، يبدو كذلك الأمل -على الأقل حاليًا- أكبر وأوضح.