تتمسك فاطمة بأغصان الزيتون للحفاظ على توازنها على السلم الذي تجلس فوقه قبل أن تجني الزيتون بالمشط الذي يشبه أصابع اليد، فتتساقط حباته على البساط المفروش تحت الشجرة محدثا ايقاعا منتظما.

تعاود هذه المرأة المسنة تثبيت قدميها المرهقتان من الوقوف على أعلى درجات السلم الحديدي لتبلغ الأغصان البعيدة، متحاشية نظرات مالك الضيعة الذي يقف بالأسفل ويكتفي بالمشاهدة ويداه لا تغادران جيوبه.

هذه الحركات المضنية جزء من عمل فاطمة في الجني بأحد ضيعات ريف محافظة القيروان (وسط) التي تساهم بنسبة كبيرة في إنتاج الزيتون التونسي وفي تصديره إلى الاتحاد الأوروبي (نحو مليون دولار العام الماضي).

وتعتبر تونس من أبرز البلدان المنتجة لزيت الزيتون وهي تحتل المركز الثاني بعد إسبانيا بإنتاج نحو 270 ألف طن من الزيت. ويصدر زيتها غير المعلب في مجمله إلى أسواق أوروبية مثل فرنسا وإيطاليا.

عرق جبين

يتطلب جني شجرة زيتون واحدة الكثير من الساعات والجهد لكن ليس لفاطمة التي تعيش مع أولادها الأربعة المعطلين عن العمل حل سوى الكد لتوفر لقمة العيش الكريم لعائلتها بعد وفاة زوجها المعطل قبل سنوات.

بعد أن تجاهد فاطمة طوال ساعات لتوقع حبات الزيتون على البساط البلاستيكي تقوم بجمعها في أكياس لتوجه إلى المعصرة ثم تعيد الكرة ثانية بجني شجرة بعد الشجرة نازلة وصاعدة من السلم حتى ينتهي نهار عملها.

لا تغفل فاطمة خلال ساعات العمل الطويلة أن تسكب مع بعض زميلاتها في نفس حقل الزيتون إبريق الشاي الساخن الموضوع على الجمر على أمل أن تسحب مع رشفاته الحلوة كالعسل مرارة المعاناة وتشحن طاقتها من جديد.

تشترك فاطمة في العمل بالضيعة مع خمس نساء أخريات يتقاسمن العمل في صمت لا يطيقه أي كان. عادة تنشد النساء أغاني تراثية مستبشرين بموسم جني الزيتون وتعلو في بعض الأحيان زغاريدهن للتعبير عن بهجتهن.

في منتصف النهار عندما يحين موعد الغداء تغتنم النسوة الفرصة للراحة وتبادل الحديث عن حياتهن وهن يغمسن الخبز المدور المصنوع من السميد في الزيت وبعض الأكلات المتواضعة التي كثيرا ما تكون بلا لحم أو سمك.

مسؤولية جسيمة

لقد رسم العمل الفلاحي تجاعيد الكبر على وجوه هؤلاء النسوة اللاتي كانوا يأملن في حياة أفضل لكن وفاة بعض الأزواج أو ركون بعضهم للراحة والجلوس بالمقاهي علاوة عن استمرار بطالة أولادهن، زاد في معاناتهن.

كانت فاطمة تأمل أن يكبر أبناؤها لتودع العمل الفلاحي ولكن حلمها بالراحة لم يتحقق بسبب تواصل بطالة أبنائها الأربعة. "أعمل كي أتمكن من توفير قوت أولادي وخلاص فواتير الكهرباء والماء" تقول فاطمة.

لا تتجاوز أجرة فاطمة بالجني 10 دنانير يوميا (5 دولارات) تتسلمها نهاية اليوم لتذهب بعدها لشراء بعض المستلزمات فيما ينتظرها أولادها الشبان على أحر من الجمر لتجهز لهم الطعام وتمنحهم بعض المصروف.

"لقد بحث أبنائي عن شغل دون جدوى، فرص التوظيف هنا تكاد تكون معدومة وهم يرفضون العمل معي في حقول الزيتون لأنهم لا يقبلون بأجر متدن"، تضيف.

تقضي فاطمة عشر ساعات تقريبا في جني الزيتون لكن بعد يوم شاق من العمل يأتي مشوار آخر من التعب في المنزل بين جهد الطبخ والغسيل قبل أن تخلد للنوم باكرا دون حتى أن تستمتع ببعض المسلسلات الدرامية.

لا يختلف الحال كثيرا عن زميلتها جميلة فهي تنام أيضا باكرا لتستيقظ مع بزوغ الشمس لتواصل عملها في جني الزيتون لتكسب قوت عائلتها الفقيرة رغم تجاوزها العقد السادس وتأثر بنيتها الجسدية الضعيفة.

تبدو حركة هذه المرأة في العمل بطيئة لكن تجربتها القديمة في جني الزيتون تساعدها على مواصلة العمل بأقل جهد ومع ذلك يتركها صاحب الضيعة تعمل لتكسب قوتها وتعيل ابنتها المعاقة في ظل وضعها المتدهور.

بآخر النهار يحمل مالك الضيعة المنصف عوينات أكياس الزيتون التي جمعتها النسوة إلى المعصرة ليحولها إلى زيت صاف يتراوح سعره بين 8 و10 دنانير (بين 4 و5 دولار للتر الواحد) تصدر منه كميات هامة للخارج.

رغم العائدات المدرة لهذا القطاع يقول لمراسلون إن أرباحه تبقى "محدودة جدا" بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج، مؤكدا أنه "غير قادر على مضاعفة أجر العاملات بسبب تدني عائدات زيت الزيتون في ظل ارتفاع الكلفة".

الركون للراحة

يركز هذا الرجل كل موسم جني على انتداب النساء للعمل في ضيعته بسبب قبولهن العمل بأجر متدن خلافا للرجال الذين يرفضون العمل بمقابل زهيد "ويخيرون الجلوس بالمقاهي لشرب الشاي والقهوة ولعب الورق".

وتمثل نسبة نشاط المرأة الريفية في القطاع الفلاحي بـ65 بالمائة حسب رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة والصيد البحري بالقيروان المولدي الرمضاني الذي يؤكد أن النشاط الفلاحي "يرتكز أساسا على جهد النساء".

وترجع فاطمة قبول المرأة بالأجور المتدنية لإكراهات الواقع في ظل ارتفاع النفقات وغلاء المعيشة، مشيرة إلى أن جزءا من الرجال في الأرياف "يرفضون إعانة زوجاتهم في العمل الفلاحي بينما يعولون على أجروهن".

يصنف عادة عمل النساء في القطاع الفلاحي من قبل المنظمات الحقوقية والاجتماعية ضمن الأعمال الهشة التي لا تتمتع بالتغطية الاجتماعية أو بمنظومة التقاعد، وهو عمل لا يخضع في نفس الوقت للمراقبة المهنية من الدولة.

بحسب دراسة أجرتها جمعية النساء الديمقراطيات (منظمة حقوقية) تشتغل 61٪ من النساء كعاملات موسميات فيما يشتغل 28٪ منهن بصفة قارة. وتوكل للنساء مهمات شاقة منها عملية جني الزيتون بنسبة (78٪).

حوادث قاتلة

وفي ظل عزوف الرجال عن العمل بحقول الزيتون يواجه أصحاب المزارع الكثير من المصاعب لجني الزيتون. ورغم أنهم يغطون ذلك النقص في يد العاملة بانتداب النساء فإنهم لا يوفرون لهم الظروف الملائمة للعمل.

من بين المصاعب التي تعترض النساء الفلاحات في الكثير من الأرياف هي عدم حصولهم على ظروف مريحة وآمنة لنقلهم من مكان إقامتهم إلى مكان العمل وغالبا ما يتم نقلهم وراء شاحنات صغيرة في وضعية مخلة بالنقل.

وعلى طوال السنوات الماضية تم تسجيل حوادث سير قاتلة أودت بحياة عدد من النساء كن متجهات للعمل في حقول الزيتون. ولم تمنع حملات الأمن التي تحاول التصدي لهذه الظاهرة من عدم تكرر تلك الحوادث القاتلة.

حول وضعية الفلاحات في الحقول تقول المندوبة الجهوية للمرأة والأسرة والطفولة في محافظة القيروان أنيسة السعيدي لمراسلون إن "الاستغلال الاقتصادي والتشغيل الهش للنساء يعد شكلا من أشكال العنف ضد المرأة".  

وقالت إن "النساء الفلاحات معرضات إلى الانتهاك على مستوى التفاوت في الأجور والنقل غير الآمن"، معتبرة أن الحل يكمن في مزيد التحسيس أصحاب المزارع لنقلهم بشكل آمن وتحسيس أزواجهم لتقاسم الأدوار داخل الأسرة.