عبد الستار العايدي – كاتب تونسي

سعى حزب العدالة والتنمية ذو التوجه الإسلامي منذ توليه السلطة إلى فرض التوجه العثماني الجديد كرؤية توفّق بين قيم الجمهورية والمجد الإمبراطوري العثماني دعما لمصالح الحزب الداخلية والخارجية وكإستراتيجية تصل الحاضر بماضي إمبراطورية قد اندثرت، رؤية حاولت السياسة التركية من خلالها منذ بداية ثورات "الربيع العربي" رسم خريطة جيوستراتيجية جديدة لتمكين نفوذها من التغلغل داخل دول شمال إفريقيا، تونس وليبيا والجزائر والمغرب، تحت طائلة نقاط خارطة طريق تجمع بين مرجعيات مشتركة، دينية وتاريخية وجغرافية.  

بعد سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي في تونس، وفوز حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي في الانتخابات، استغلت تركيا الفراغ السياسي لتعزيز نفوذها وتواجدها على كافة الأصعدة، السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية وغيرها. 

ونتاجا للتقارب والتوافق الفكري والايديولوجي بين حزب العدالة والتنمية التركي وحركة النهضة التونسية تحت مظلة التنظيم العالمي للاخوان المسلمين ، الذي أكده تصريح سفير تركيا بتونس لاذاعة موزاييك اف ام، 19 جوان 2020 ، بالقول: "لدينا علاقات جيدة مع حركة النهضة" وأن "صداقة شخصية تجمع كل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي"،   فتحت حركة النهضة الباب على مصراعيه للنفوذ التركي ليصل إلى المؤسستين العسكرية والأمنية، واستحواذه على أغلب صفقات العتاد الأمني أو التسليح.

صفقات تأكدت على لسان رئيس مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية إسماعيل دمير، الذي كشف عن صادرات تركية إلى تونس بقيمة 150 مليون دولار لتعزيز دفاعاتها العسكرية، وذلك رغم ثبوت محدودية القدرات الميدانية للمعدات العسكرية التركية في ساحات المعارك.

تغلغل تركي داخل مؤسسات الدولة التونسية الحيوية لتكريس الهيمنة التركية على إيالتها السابقة تونس تماما مثل ليبيا، وسعي لتعزيز نفوذها العسكري في شمال أفريقيا من خلال استثمار حاجة الجيش التونسي إلى آليات متطورة لمحاربة الإرهاب ، هذه الصفقات مرتبطة بحسابات أملتها المعادلات التي تحكم المشهد الإقليمي، وأن توقيت الكشف عن هذه الصفقات مرتبط بمخططات تركيا عبر وكيلها الرسمي في تونس، حركة النهضة، لتحويل تونس إلى "رأس حربة" لمشاريعها في منطقة شمال إفريقيا، خاصة وأن الاعلان عنها جاء بعد يوم واحد من إقرار البرلمان التركي تمديد التواجد العسكري التركي في ليبيا لمدة 18 شهرا إضافيا بتعلة الحفاظ على المصالح التركية في المنطقة.

وإستنادا لرغبة تونس بعد الثورة في إختيار توجه جديد لعقد شراكات دفاعية مع قوى صاعدة على غرار تركيا التي تعتبر قوة عسكرية كبرى على المستوى العالمي، وهي ثاني أكبر جيش في الناتو، بحثا عن سبيل للخروج من دائرة الهيمنة الفرنسية والامريكية، سارعت تركيا لتقديم كل التسهيلات المتاحة لعقد اتفاقيات عسكرية، نقطة ايجابية ضمن الاستراتيجية التركية لوضع يدها على جزء من هذا القطاع الحيوي وضمان موطأ قدم جيوستراتيجي لتنفيذ سياسة تسييج دول شمال إفريقيا بالسلاح التركي وضمان هيمنة مستقبلية على هذه السوق الكبرى ومفتاح لغزو المنطقة. 

حفاظا على العلاقات الوطيدة بين الحزبين الاسلاميين ودعم النفوذ التركي الاقتصادي في تونس على حساب توجهات الدولة العامة، حاولت حركة النهضة منح تركيا تأشيرة تجارية مفتوحة بالضغط سياسيا من أجل تجديد الاتفاقية التي تقر بتحرير توريد البضائع التركية لتونس، وهي الاتفاقية التي وقعت أول مرة في عهد حكومة حمادي الجبالي، سنة 2012 ، وتمنح امتيازات ضريبية للبضائع التركية على حساب البضائع التونسية.

وفي نفس السياق، فقد كشفت مصادر من وزارة التجارة لصحيفة "العين" الاماراتية الاخبارية بتاريخ 12 أكتوبر 2020، أن "قيادات إخوانية تقف وراء ملف توريد بضائع أجنبية دون الاستجابة للصيغ القانونية. واضافت مؤكدة "أن هذا الملف مطروح حاليا لدى القضاء التونسي، والذي يورط قيادات مقربة من راشد الغنوشي باحتكار سوق التوريد والاستفادة منه بشكل غير قانوني".

ورغم ما أقرّته الحكومة التونسية في ميزانية 2018 من فرض رسوم جمركية على عدد من المنتجات التركية، في محاولة لتعديل العجز في الميزان التجاري، وتصريح فولكان بوزكير، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في المجلس الوطني التركي، خلال زيارته تونس، الذي إعترف فيه "باختلال الميزان التجاري بين البلدين، مبرزاً ضرورة التفكير في زيادة الصادرات التونسية إلى تركيا، ورفع قيمة التبادل التجاري إلى حوالي ملياري دولار في الفترة القريبة المقبلة، لا يزال عجز المبادلات التجارية لصالح تركيا متفاقما ولا تزال الصادرات التونسية إلى تركيا تعتمد أساساً على مواد غير مصنّعة، مثل الفوسفاظ الخام وزيت الزيتون، اللذين يُعاد تصنيعهما بما يساعد الاقتصاد التركي، بينما لا تسهّل تركيا دخول البضائع أو المنتجات التونسية إلى أسواقها، ولا تشجّع رجال الأعمال الأتراك على الاستثمار في تونس وشراء منتجاتها.

ووفق البيانات الرسمية لوزارة التجارة لسنة 2020، فان الصادرات التونسية لتركيا قد بلغت 447.5 مليون دينار فيما وصل حجم الواردات من البضائع التركية 2588.1 مليون دينار بعجز يقدر بـ 2140.6 مليون دينار . كما تشير بعض الإحصائيات إلى أن عدد الشركات التركية المستثمرة لا تتجاوز 26 شركة من بين 3455 شركة أجنبية تنشط في تونس، إذ يبلغ حجم أعمالها 400 مليون دينار وهو مبلغ بسيط للغاية، ولا تشغل إلا ما يقارب 2500 شخص .

وفي خضم ارتفاع الصادرات التركية خلال الفترة التي تلت الثورة، أصبح العجز التجاري المشار اليه سابقا مشكلة تزعج العلاقات التركية التونسية على مستوى التعاون الاقتصادي، مما دفع تركيا لصياغة خارطة طريق جديدة تسعى على ضوئها الى بلورة شراكة إقتصادية استراتيجية مع تونس للحفاظ على نفوذها المتعاظم داخل السوق الاستهلاكية التونسية والتقليص من العجز الواضح في المبادلات التجارية، لضمان البوابة التجارية التونسية مفتوحة امامها ومدّ هيمنتها الجغراسياسية حتى تطال الدولة الليبية بحرا وبرا خاصة بعد  إقرار تمديد تواجدها العسكري . 

حركة النهضة، فشلت بعدها في فرض مشروع اتفاقيتين تجاريتين جديدتين مع تركيا وقطر على البرلمان وسط احتجاجات واسعة لبعض الكتل البرلمانية، وقد صاحب تأجيل النظر في الاتفاقيتين اتهامات من النواب لرئيس البرلمان راشد الغنوشي باستغلال سلطته، لتمكين الدولتين من مزيد التغلغل وإحكام القبضة على الاقتصاد التونسي، في إطار أجندة سياسية مرتبطة بالمشروع الإخواني في تونس.

بعد أن حققت الانتاجات الدرامية التركية نسب نجاح لاكتساح المجتمع العربي ودول شمال إفريقيا، حاولت السياسة التركية الخارجية فرض نفوذها الناعم عبر إستراتيجيتها في إختراق مجالي التعليم والثقافة في تونس، من خلال تكثيف التعاون الأكاديمي وفتح أبواب الجامعات التركية للطلبة بتسهيلات كبيرة وعبر إنشاء مراكز ثقافية تؤسس لنشر الثقافة والتاريخ التركي .

في شهر جوان 2014 ، صادق البرلمان التونسي على قانون يعزز التعاون الثقافي مع تركيا لإحداث مراكز ثقافية مشتركة في البلدين لتطوير علاقات التعاون بين البلدين في ميادين الثقافة والتربية والعلوم. ورغم أن هذا يقوم على مبدأ التشاركية، فقد حذر بعض الناشطين في المجال الثقافي من "غزو ثقافي تركي" لتعزيز حضورها في بلدان الربيع العربي بعد أن نجحت سابقا في "غزوها" فنيا.

وفي سياق ما سبق، في شهر ماي 2019، أشرف سفير تركيا في تونس السابق، عمر فاروق دوغان، على حفل توزيع جوائز لفائزين بمسابقة في اللغة التركية التي نظمها كل من المركز الثقافي التركي "يونس إمره" ومدرسة معارف، المسابقة حول كتابة مقالات تهتم بالعلاقات العريقة والتاريخية بين البلدين، وتراوحت الجوائز بين تذاكر سفر إلى تركيا ولوحات ذكية وترسيم مجاني لكل أغلب الفائزين بمدارس معارف.

"وقف معارف"، تم إنشاءه في العام 2016، ليتولى إدارة المدارس في الخارج، واستطاع الوقف خلال فترة وجيزة، التواصل مع 70 دولة حول العالم، وأسس ممثليات في 34 بلدا من بينها تونس، ويمتلك حاليا قرابة 100 مدرسة لمختلف المراحل التعليمية في 20 دولة، وتطور نشاط هذه المؤسسة بشكل لافت في تونس مؤخرا في خطوة تكشف رغبة النظام التركي في الانفتاح الثقافي على تونس وأفريقيا تمهيدا لتكون موطئ نفوذها الجديد بعد انتكاستها في الشرق الأوسط. وآخر تظاهراتها كان تنظيم معرض للتعليم الجامعي التركي، بمشاركة 16 جامعة تركية، في تونس خلال شهر مارس 2019.

تغلغل تركي ناعم داخل مجال التعليم والثقافة سبقته هيمنة واضحة على سوق البضائع الاستهلاكية مثل المأكولات والملابس أثار حفيظة بعض المهتمين  الذين وصفوه بأنه سبيل تركي للسيطرة وكسب النفوذ، وأن ذلك تطبيق   لمشروعها التوسعي الجديد في المنطقة الذي يوازي فيه سبيل السيطرة على سوق السلاح وكسب الولاء السياسي التام.

وبالإضافة إلى المزايا التي يقدمها التعليم التركي لجلب العشرات او المئات من الطلبة التونسيين للدراسة في تركيا عوضاً عن الذهاب إلى الجامعات الأوروبية، تعوّل وزارة الثقافة التركية على تقارب الثقافتين والعلاقات العائلية عبر التصاهر المتبادل بين الأتراك والتونسيين، وعلى أهمية تونس التي تكمن في انفتاحها على الحضارة الأوروبية وقبولها للثقافات المتعددة وكذلك الاستقرار السياسي وتوفر الإرادة السياسية لتطوير التعاون.

حققت خارطة الطريق التركية نسب نجاح مهمة في التغلغل داخل الدولة التونسية عبر وكيلها الاخواني، حركة النهضة، هذا الحلم التركي الذي كان من الصعب أن يتحقق ، وذلك عبر وسائل مختلفة أبرزها زيادة الترويج لتركيا في تونس عبر قنوات إعلامية واستثمارية وسياسية مختلفة وعبر كسب ولاءات جهات سياسية في البلاد ، وتطوير الشراكات العسكرية ، ونخر المبادلات التجارية وقلب ميزان التبادل التجاري لصالحها خلال سنوات قليلة.

تونس، بوابة شمال إفريقيا ومفتاح البوابة الخلفية لتركيا لبسط نفوذها داخل العمق الاستراتيجي، الجزائر وليبيا، على المستوى الاقتصادي والسياسي،   أهمية برزت من واقع نفوذ الديبلوماسية التونسية لحل الملف الليبي، وسعي تركيا لمساندة الموقف التونسي من الصراع الليبي بعد دورها الفاعل في إعادة فتح السفارة التركية في طرابلس بعد ثلاث سنوات من الإغلاق، وتطابق وجهتا النظر التركية والتونسية، الإخوانية، بضرورة إشراك الإسلاميين في الحكم، وهو تمهيد تركي لتأسيس جبهة إقليمية في مواجهة الجبهة التي تقودها مصر الرافضة لإشراك تيارات الإسلام السياسي في الحكم.