قضية الدروس الخصوصية في المغرب ما تزال تثير اعتراضاً ونقداً منذ سنوات طويلة، غير أن أصل الاعتراض والنقد لم يفلحا في تراجع هذه الظاهرة غير الحميدة عن غيها، فمشكلة الدروس الخصوصية مشكلة قديمة حديثة، وتكاد تؤرق كل أسرة هدفها أن تصل بأبنائها إلى مرحلة القبول الجامعي، لاسيما رغبات الطب، والهندسة، ولكن للأسف لا توجد ضوابط رقابية، حتى غدت الدروس تعطى في بيت المدرّس، أو الطالب، أو مراكز خاصة لهذه الغاية، وغياب التنسيق بين الجهات المعنية يجعل الحلقة مفقودة بين المدرّس، والطالب، وإدارة المدرسة، فالدروس الخصوصية أصبحت موضة الشر الذي لابد منه، كون الكثير من الآباء والأمهات، رغم أنهم حاصلون على شهادات جامعية، غير قادرين على تعليم أبنائهم بسبب تطور المناهج التربوية غير المتناسبة مع فترة تعليمهم خلال سنوات دراستهم، لا بل إن المدرّسين أنفسهم بحاجة إلى إعادة تأهيل! 

فإذا كان المدرّس في أدائه المدرسي محكوماً بالمعايير التربوية والتعليمية للمؤسسات التربوية، فإن هذا المدرّس نفسه يصبح فجأة في حل من تلك المعايير وهو ينتقل بعد دقائق من انتهاء عمله المدرسي، إلى مملكة الدروس الخصوصية التي أصبحت بمثابة ''إيدز'' يهدد السلم الاجتماعي في المغرب ويضر بالقادرين قبل غير القادرين. وقد دفع عامل عدم الثقة في التعليم العمومي بعدد كبير من الأسر إلى المزاوجة بين التعليم الحكومي أو الخاص والدروس الإضافية الخصوصية (الليلية غالبا) باعتبارها منقذاً لأبنائهم من التأخر الدراسي، ولهم في ذلك مبررات وقناعات تصطدم بالحقيقة التي تؤكد سلبية هذه الدروس غالباً ومساهمتها بسحب الثقة من التعليم العمومي، مما يزيد في تأزم الوضعية التعليمية. وفي هذا السياق يكشف الواقع المعاش، حجم المأساة وتأثيرها المدَمر على الأسر المغربية بخاصة الأسر محدودة الدخل. 


أساتذة يفرضون الدروس الخصوصية علناً:

ولو تطرقنا إلى الأستاذ الخصوصي نفسه لوقفنا على مظاهر خطيرة يتعامى عنها المسؤولون، وهي أنَ كثيراً من هؤلاء يفرضون على تلامذتهم دروساً خصوصية بالمقابل المادي، فلا يقوم هؤلاء الأساتذة بواجباتهم في قاعة الدرس حتَى يضطر التلميذ إلى أخذ دروس ليلية، يمنحه على إثرها الأستاذ نقطاً متميزة، ويحتسبها في الامتحانات. وقد يعطى التلاميذ الاختبار المقرر إنجازه بالمدرسة أو الثانوية مسبقاً، مصحوباً بالأجوبة أحياناً، ليحصل التلميذ على درجات متميزة. وهذا إيهام لأسرة التلميذ بأنَه استفاد من دروسه الخاصة، وكوسيلة إعلان مجانية لبقية التلاميذ... وفي مقابل ذلك يمنح درجات ضعيفة جداً لكل من رفض إضافة دروس ليلية عنده كوسيلة إجبار وانتقام بشعة تتنافى مع كل القيم، وهذا واقع مر تثبته الوقائع التي يحكيها الآباء يومياً. وقد أصبح العديد من أساتذة المواد العلمية واللغات يفرضون على تلاميذتهم دروساً خصوصية علناً، وهذا السلوك المقيت يجعل الآباء يشككون في مجانية التعليم ويعتبرونها مجرد أكذوبة، ويوضح ذلك بجلاء مدى الفرق بين الخطاب الرسمي، حول جودة التعليم وبين واقع الحال بنظام تربوي عاجز عن استيعاب كل أبناء الشعب، وهو ذات النظام الذي يحظى بنصيب وافر من ميزانية الدولة. غير أنَ هذه الأموال التي تضخ في القطاع لا يستفيد منها سوى العاملين به، ولا يتم استثمارها أو جزء منها، على الأقل، لينسجم مع مضامين الميثاق والزيادة التي عرفها ميزانيته خصَصت للرفع من أجور العاملين به. 


مورد مالي إضافي:

لقد ابتليت بعض المؤسسات التعليمية ببلادنا ببعض المدرسين، لا يهمُهم سوى زيادة أرصدتهم ويفرحون بانتفاخ جيوبهم ولا يهتمون بإتقان العملية التعليمية ويقصرون في حقوق التربية الخلقية وغيرها ويجعلون ضمائرهم في غفلة إلى أجل غير مسمى ويتنكرون لمصالح أبناء وبنات الشعب مفضلين الجشع والتخاذل والتراجع وانتحال أعذار واهية، والضحية التلاميذ، لأنهم لن يتمكنوا من صد هجمة الدروس الخصوصية الشرسة والوقوف في وجه موجة الإثارة الغريبة التي تحاول ضرب الاستقامة وطعن الفضيلة إلا من خلال القلَة المخلصة من المدرسين الذين يستحقون لقب المربين حيث يرفضون الانخراط في الدروس الخصوصية، بل تؤدي هذه الفئة واجبها كاملاً في الفصول المدرسية ولا تنتظر جزاءً ولا شكوراً من أحد، وهؤلاء المدرسين النزهاء المخلصين بإمكانهم تشجيع التلاميذ والتلميذات على التمسك بالأخلاق والاعتصام بهدى الاستقام. 


الدروس الخصوصية: أسعار فلكية

إنَ النجاح يرتبط عضوياً بالدروس الخصوصية، هذه النظرية ابتدعها بعض المرضى، لتحقيق مصالح ذاتية ومادية، فتختلف أثمان هذه الدروس من أستاذ لآخر حسب المواد... وبعملية بسيطة جداً، فأقل أجر شهري تؤديه الأسرة يتراوح ما بين 2000 و3000 درهم في الشهر. وتختلف التسعيرة حسب البيئة التي ينتمي إليها الطالب، و شهرة الأستاذ التي أهدته إياها سنين خدمته في هذا المجال مع العلم بأنه لا وجود لمربٍ أفضل من آخر ولا وجود لرجل تعليم يحتكر المعرفة ويبدع ويأتي بما لم يستطعه الأوائل، بل من الممكن لأستاذ حديث التخرج أن يتفوق بإيصال المعلومة بكفاءة أكبر من أستاذ صاحب شهرة أمضى عمره في التدريس واكتسب شهرته من خلال الاعتقاد الخاطئ بأن الخبرة تُقاس بعدد السنوات وليس بطريقة إيصال المعلومة وتطوير الذات ومتابعة الأساليب الحديثة بالتدريس، فقد أصبح طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية فرائس ينتهز صائدوها من أساتذة الخصوصي الفرصة للانقضاض عليها. وإذا كانت الأسر تعاني الأمرين، في ظل الغلاء ووباء كورونا، وتقوم بسلفات... فإنَ بعض المدرسين تحولوا إلى مقاولين وأصحاب مشاريع. الأكيد أنّ عقولنا قد جبلت على أنّ المدرسين رسل أو يكادوا، ولهثت الأقلام في تبجيلهم وبُحت حناجر الخطباء في وصفهم بناةً للوطن وأجياله، وليس من منصف عاقل يستطيع سلبهم هذه الرفعة والكرامة لكن التعلل بضيق ذات اليد لا يبرر للبعض منهم هذا الانزلاق المهين في مستنقعات الجشع واللامبالاة، وما أردنا طرحه لا يعني أننا نقف كالعقدة في المنشار في وجه الأستاذ وتحسين وضعه المادي، فهو صاحب حق في إعطاء دروس خصوصية، تقيه شرّ القيام بعمل آخر لا يليق بمكانته... لكن ازدياد هذه الظاهرة وغياب الضوابط لمتابعتها والإشراف عليها وما يتعلق بفوضى أسعارها هو ما نريد التأكيد عليه للحد من توغلها بين صفوف طلابنا واتخاذ الإجراءات اللازمة لحلها.


فهل يتحقق حلم الآباء بنجاح الأبناء عبر الدروس الخصوصية؟ 

لا يمكن أن نغفل خطورة هذه الدروس الليلية على صحة وذاكرة ونفسية التلاميذ... فالخطورة تأتي في مرحلة زمنية من اليوم يكون فيها مستوى إدراك التلميذ قد ضعف، وقدرته على التحصيل قد نقصت بسبب الإرهاق اليومي للعقل وقضاء أكثر من ثمان ساعات بالمدرسة، بالإضافة إلى تعب الجسد الصحي بالمقعد الذي يعدُ سجناً معنوياً، يضاف إلى ذلك الاكتظاظ الملحوظ بقاعة الدرس الخصوصي بسبب نهم المدرس ورغبته في المال على حساب المعرفة. وبناء على ما سبق يصبح من المستحيل على التلميذ أن يستفيد، بل يحصل العكس من ذلك تماماً، وهو مضاعفة الإرهاق وزيادة النفور واشتداد التشاؤم، ولا يمكننا أن نغفل العامل النفسي أيضاً عندما يصبح هذا التلميذ مجبراً على النجاح حتى لا يواجه سخط ولوم الأسرة التي تذكره دائماً بمصاريف الدروس الخاصة، وأنَ النجاح يصبح إلزامياً عليه، مما يحرك داخله رد سلبي وهو الخوف من الامتحان والذي يترتب عليه تعطيل قوَة الذاكرة أثناء الإنجاز، وهذا يترتب عليه حتماً الرسوب بدل النجاح. ومن خلال كل ذلك لا يصبح للمعرفة الفاعلة معنى بالنسبة للتلميذ، وتفقد التربية كل جسر بنفسية التلميذ المضطربة التي تتأزم بصورة خطيرة تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، ولا يصبح النجاح سوى غاية وبأي وسيلة ومهما كان الثمن.


تدمير حلقات هذه الدروس:

ولعلاج هذه الظاهرة وتلافي آثارها السيئة على المجتمع بكل ما فيه من أفراد وأسر ومدرسين ونظام تعليم وإداريين ومسؤولين بخاصة على القيم والأخلاق... ضرورة أن تتبع الدولة طريقين لعلاج الظاهرة بجانب التخطيط الدقيق والسليم:

الأول: طريق الحلول السريعة قصيرة المدى والتي قد تكون حاسمة وقوية وحادة أحياناً.

الثاني: طريق طويل المدى يتطلب التخطيط والتنفيذ الحتمي لتغيير أهم ما في النظام التعليمي بهدف تدمير كل حلقات ومراحل وأطوار الدروس الخصوصية والعوامل التي أدت إلى انتشارها والقضاء على مراحل إدمانها وتعاطيها. الحلول السريعة لظاهرة الدروس الخصوصية تعتمد على تنفيذ توصيات ومقترحات التلاميذ وأولياء وأمهات التلاميذ والمدرسين والتي تمَ التوصل إليها من خلال دراسات عديدة من الباحثين بالإضافة إلى تدريب التلاميذ على أساليب التعليم الذاتي واستخدام مصادر المعلومات والتعليم التعاوني وأساليب البحث العلمي والاجتماعي والمنطقي وربط التعليم بالحياة اليومية وتأهيل المدرس لإنهاء دوره الحالي كمجرد تسجيل حي للمعلومات ليصبح مساعداً لعملية التعلم وكذلك تغيير نظام الامتحانات الحالي القائم على الحفظ والتلقين ليهدف إلى قياس القدرات والمهارات العقلية.


التخلّي عن المدرّس التقليدي:

أما المناهج فالضرورة أصبحت تملي بناءها على أسس علمية تربوية على أيدي خبراء متخصصين، يحددون أهداف المناهج وطرق اختبارها وتصفيتها وتنظيمها واختيار الخبرات والأنشطة اللازمة لتحقيقها في ظل الاعتماد على التعليم الذاتي، وهذا يتطلب استحداث وظائف أخرى غير المدرس بصورته التقليدية، مثل مرشد المادة الذي يجيب على استفسارات التلاميذ المرتبطة بالمواد الدراسية والأخصائي العلاجي الذي يقدم المساعدة السريعة لشرح النقاط الصعبة والأخذ بأيدي التلاميذ الضعفاء وكذلك المدرس المساعد الذي يتولَى بعض الأعمال المعاونة للمدرس العادي أثناء الحصة وبعدها كتصحيح الواجبات والإجابات وعقد المناقشات وتسيير التعليم التعاوني. 


هل تتخلى الوزارة عن الترقيع؟

من المفيد جداً معالجة كل الأسباب التي أدت إلى تفاقم ظاهرة الدروس الخصوصية، أو ضبطها بالطريقة التي تخدم الطالب، وبشكل لا تتحول العملية التدريسية إلى مجرد تجارة على حساب الرسالة الإنسانية التربوية. أما ما تقوم به وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي في مجال مكافحة الدروس الخصوصية، في نظرنا ليس أكثر من عمليات ترقيع، هذا الترقيع يدفع ثمنه الآباء والأرامل ذوو الدخل المحدود، كما يدفع ثمنه المجتمع كله، وبخاصة أنَ التعليم الخصوصي تحوَل إلى عملية مدمرة للذات المغربية في مختلف مراحل التعليم، والسواد الأعظم من الأسر تضرب في الصميم بسبب هذا كله، ولا أقصد استنزاف أموال الناس فحسب، وإنما طموح الشباب وآماله ومستقبله وكذلك طموح بلد ومستقبله يضرب.

مصطفى قطبي

كاتب صحفي من المغرب.