راجت في السنين الأخيرة دراسات وأطروحات كثيرة تزعم أن المجتمع الليبي يتسم بالجمود والسكونية والاستكانة واللامبالاة...، والخطأ المنهجي والجوهري في هذه التحليلات يكمن في استنادها إلى وصف الظواهر الخارجية للأمور، دون الغوص تحت السطح، وفي طبيعة الحراك الاجتماعي الليبي الذي يفور ويغلي في تلافيف البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وينتظر اللحظات المناسبة للاندفاع إلى الخارج والإعلان عن نفسه بشكل أو بآخر، ولكن بالمقابل فقد لفتت قلة من الباحثين السوسيولوجيين والاقتصاديين العرب الأنظار إلى مؤشرات التحول والتشكل والصيرورة والانتقال، التي لوحظت في المجتمع الليبي، وإن بدرجات وتجليات مختلفة، وهي قراءات تحليلية موضوعية تنفي تماماً عن الواقع الليبي صفة الجمود والسكون والشلل. 

والمعروف أن التغير في المجتمعات النامية بعامة، ومنها المجتمع الليبي يحصل بفعل التحولات الداخلية، وكذلك بتأثير العوامل الخارجية (كالاتصال بالثقافات والحضارات الأخرى، والتفاعل معها وتبادل عناصرها ومؤثراتها). وقد فتح التقدم العلمي- التقني- الإعلامي في العصر الحديث الباب على مصراعيه لنقل الأفكار والآراء عن طريق الكلمة المكتوبة أو الصورة، فشكلت هذه الظاهرة العصرية دفعة قوية لمسألة الحيوية المجتمعية، في جميع بقاع الأرض دون استثناء. وغني عن القول أن من أبرز سمات المجتمع الليبي أنه متنوع، وهو تنوع يبرز عبر مستويين هما: اتجاهات الحركة، وطبيعة التكوين. فمن حيث اتجاهات الحركة نجد أن المجتمع الليبي يقع بين قوتين جاذبتين متعاكستين: الماضي والمستقبل، وكذلك بين الشرق والغرب. "وهو منكفئ على جذوره انكفاء أصيلاً"، تقليدياً متمسك بالدين والغيبيات، ولكنه في الوقت نفسه متجدد علماني مستحدث في تطلعاته، منفتح على العالم بصلات وثيقة رغم مركزه الهامشي بالنسبة للمجتمعات الحديثة، أنه منفتح ومتغير بقدر ما هو ثابت أو ساكن. 

ومن حيث طبيعة التكوين، فالمجتمع الليبي يمثل نموذجاً من التنوع والتكامل، أو هو "التنوع المتكامل". فهو متنوع في البيئة والأقاليم والمصادر الطبيعية للثروة والإمكانات المادية والإمكانات البشرية، والتنظيمات الاجتماعية والاقتصادية، وأساليب المعيشة والإنتاج، والتكوينات والانتماءات الطبقية والإثنية، والنظم السائدة، والثقافة العامة والثقافات الفرعية... 

وإذا كنا نؤيد صحة التوصيف السابق للمجتمع الليبي، فإننا يجب أن نوافق بالتالي على حقيقة موضوعية تتمثل بالاعتراف بوجود الحركة والصراع والحراك الدائم في الواقع الليبي من جهة، ويترتب على ذلك موضوعياً الاعتراف بوجود أزمة (أو بالأصح حزمة كبيرة من الأزمات) في المجتمع العربي الليبي: سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحضارية من جهة أخرى، لكن الأزمة بحد ذاتها لا تحمل معنىً سلبياً ومخيفاً، إذ ليست هناك أزمة إلا إذا كانت ناتجة عن حياة ونشاط، وتشير إلى أن المجتمع يقوم بعمليات ومحاولات للتكيف مع ظروفه والظروف المحيطة به، ومواءمة الجديد مع القديم، من خلال عملية تفاعل عميقة وشاملة يقصي فيها القديم البالي، وبخاصة الذي أصبح معرقلاً للتطور والتقدم، واستبداله بقيم وتوجهات جديدة، تنسجم مع الواقع ومتطلباته. فالأزمة الليبية بالمنظور الاجتماعي علامة صحة وحركة وحياة، وإشارة إيجابية للاتجاه نحو الأحسن والأفضل، إذا أحسن قراءتها وتحليل أبعادها، والإفادة القصوى من دروسها بصورة واقعية وعلمية وموضوعية.


كاتب صحافي من المغرب.