ينتمي العقيد الليبي الرّاحل معمّر القّافي سياسيًا الى المدرسة النّاصريّة ،نسبة الى الزعيم المصري جمال عبد الناصر ،بكل خطوطها العريضة ،فالعقيد الليبي الرّاحل لم يكن يخفي إعجابه بالرئيس المصري ولا تبنّيه لأفكاره وسياساته ،فعبد النّاصر الذي أورث للعقيد معمّر القذّافي لقب "أمين القوميّة العربيّة" ،ورثَ عنه الأخير أيضًا نزعة "عدم الإنحياز" في السياسة الدّوليّة .
وإن كان معنى "عدم الانحياز" الذي تشكّل في قالب منظّمة دولية تحمل نفس الإسم إبان الحرب الباردة بين قطبي العالم الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية ،لا يبدو دقيقا ومضللا ،بحكم انحيازه الواضح ،وانحياز معظم أعضائه الى المعسكر الاشتراكي السوفياتي ،إلاّ أنه كان أيضًا ،وفي المقابل ،علامة تدلُّ على عدم قبول هذه الدّول بالتبعيّة لأي من المعسكرين .
وفي هذا الاطار ،كانت مصر جمال عبد النّاصر ،وبعدها ليبيا معمّر القذّافي ،ترسم سياستها الدّوليّة ،فالعلاقة مع الاتحاد السوفياتي كانت علاقة وثيقة وقويّة ولكنها لم تكن علاقة تبعيّة ،بل تخللتها ،أكثر من ذلك لحظات توتّر كبيرة .
بعد أيام قليلة فقط ،من اعلان مجموعة من الضباط الليبيين عن تغيير نظام الحكم وازاحة الملك عن السلطة ،في الفاتح من سبتمبر عام 1969 ،كان التحاد السوفياتي من أوّل الدّول التي أعلنت عن اعترافها بالسلطات الجديدة في طرابلس تحت قيادة ضابط شاب لم يتجاوز الـ27 من عمره يدعى معمّر القذّافي .
بدأت العلاقات الرسمية بين ليبيا والاتحاد السوفياتي في نهاية العام 1955 أي قبل 14 عاما من وصول القذافي ورفاقه الى السلطة . ومنذ العام 1969 ،حتى العام 1991 تاريخ الاعلان عن تفكك الاتحاد السوفياتي ،زار العقيد الليبي الراحل معمّر القذّافي موسكو ثلاث مرّات :1976 و1981 و1981 ،بينما كانت زيارته الرابعة في العام 2008 وقد أصبحت موسكو عاصمة لروسيا الاتحادية .
القذّافي صديق لدود:
في أحد شهاداته التلفزية يقول السفير الرّوسي الأسبق بوغوص أكوبوف بأن معمّر القذّافي قد ساعد الإتحاد السوفياتي في أحد سنوات الجفاف بالخبز ،ففي موسم من المواسم السيئة على مستوى الحصاد ،أمر القذافي السّفن الاسترالية التي كانت محملة بالقمح في إتجاه الموانئ الليبية بأن تتجه الى الموانئ السوفياتية "وهكذا بالفعل أكلنا خبز القذافي" يعلّق السفير أكوبوف .
غير أنّ السفير الروسي يؤكّد بأنّ العلاقة لم تكن دوما على أحسن ما يرام ،إذ يقول في شهادته "القذّافي وحتى نهاية حياته لم يقف ضدنا علنًا ولم يتهم روسيا ولا لمرة واحدة ولم يقدم على الإساءة لنا أبدًا ،لكنه لم يوافق دائما إلى حين الإطاحة به على تنفيذ الاتفاقيات الموقّعة" .
ويضيف أكوبوف "ربّما كان القذافي يتظاهر بالتعاون معنا دون تنفيذ أي شيء ليساوم بذلك الغرب" . كما يروي السفير الروسي قصّة تصويت روسيا عام 1992 على عقوبات دولية في مجلس الأمن ضد ليبيا ،وهو ما أشعل غضب القذافي الذي رفض دفع مستحقات ليبية لروسيا ،وأجاب بذلك سفير موسكو في طرابلس الذي جاء يطلب تلك الأموال ،قائلا "لن أدفع لكم درهما واحدًا" .
طيلة حكم القذافي كان التعاون الاقتصادي والعسكري بين الجانبين كبيرًا جدا ،فبعد توقّف الدّول الغربيّة عن بيع السلاح الى ليبيا في العام 1974 بسبب سياستها المعادية للغرب وطردها للقواعد الأمريكية والاجراءات الوطنية والتأميم ودعم قضايا التحرر في أفريقيا وآسيا وبعض البؤر داخل أوروبا وأمريكا اللاتينية ،تم ابرام أول صفقة أسلحة بين طرابلس وموسكو في ديسمبر من العام 1974 .
أما اقتصاديا فقد بلغ حجم التعاون الاقتصادي بين الطرفين خلال العقد الأوّل من حكم العقيد القذافي حوالي المليار دولار ،وشمل التعاون طيلة عقود عدة مجالات منها الكهرباء والطاقة النووية والأبحاث والنّقل والبنية التحتية والمقاولات والتعمير والصناعة والتجارة والطاقة والنفط . كل هذا التعاون والصداقة لم يكن يخلو من فترات توتّر وصلت أحيانا لحد التهديد بقطع العلاقات .
السفير الروسي يهدّد :
في شهادته يروي السفير أكوبوف كذلك أنّه تلقى برقية من موسكو تقول "اتصلوا بالليبيين للحصول عاجلا خارج جدول الامدادات على ناقلة نفط لتزويد مصفاة لم تكن تكرر الا النفط ذي النسبة الضئيلة من الكبريت الذي كان يستخرج في ليبيا فقط ،وأي نوعٍ آخر من النفط لم يكن يناسب تلك المصفاة".
ويضيف أكوبوف: "توجهت لشركة النفط المحلية الليبية وهناك كان الجواب بأن كل حصص الامدادات مقررة وموزعة مسبقا وليس بوسع الشركة تقديم أي شيء ،ثمّ توجهت الى وزير النفط وهو أيضًا لم يستجب لطلبي ،فما العمل ؟ ذهبت الى عبد السلام جلود الشخص الثاني في ليبيا والمسؤول على الاقتصاد بالكامل وهو أيضًا لم يساعدني".
ويواصل السفير الروسي القصة قائلا: "عدتُ الى مقري ومزاجي ليس على ما يرام ،استدعيت السكريتير الثاني في السفارة وطلبت منه أن يرتّب لي على جناح السرعة لقاء مع مسؤول المراسم عند معمّر القذّافي ..بعد ذلك وصلتُ الى مكتب مسؤول المراسم وأخرجت بطاقتي الديبلوماسية التي كانت تمنح لسفراء كأوراق رسمية ،وضعتها على الطاولة وقلت: هذه بطاقتي اذا لم يحل حتى صباح الغد موضوع تحميل الناقلة بالنفط الليبي وارسالها الى مصفاة باطومي فسوف أغادر فورا الى موسكو ،وأقدّم إقتراحا باستدعاء أو سحب السفير من ليبيا ،وان لم تقبل موسكو بذلك فسوف أقدّم استقالتي بنفسي ،أنا لا أستطيع البقاء في بلد مدين لنا بمليارات الدولارات بينما لا يستطيع تزويدنا بناقلة نفط واحدة عند الضرورة القصوى ،فما الداعي لوجودي كسفير هنا ان لم أكن قادرًا على حل مسألة بسيطة كهذه؟"
ويختم أكوبوف قصته بالقول: "ومساء في ساعة متأخرة بعد الحادية عشر ،رنّ جرس الهاتف بمقر إقامتي ،كان على الخط رئيس المراسم خاطبني قائلا: أيها السفير الآن سيتكلّم معك السيّد جلود ،قال جلود: أيها السفير لا تقلق ولا تغادر الناقلة تم تحميلها بالنفط هي جاهزة للإنطلاق" .
تعاون عسكري وأمني استثنائي:
كان التعاون العسكر بين موسكو وطرابلس طيلة حكم العقيد معمّر القذافي كبيرًا جدا ،فموسكو التي خسرت سوقها المصرية الكبيرة بعد وصول السادات الى الحكم في مصر ،وليبيا المحاصرة اقتصادية وعسكريا من الدّول الغربيّة ،كان لقاء المصالح بينهما مفيدا للجانبين . وفي هذا الاطار يقول السفير أكوبوف: "لقد كان هناك بالفعل تعاون بين الاتحاد السوفياتي وليبيا في المجال الأمني ،لقد عمل في السفارة السوفياتة في طرابلس ممثل لجهازنا الاستخباري وقام بتأمين الصلات والاتصالات مع ممثلي جهاز الأمن الليبي".
مضيفًا بالقول: "هذه الصلات والروابط والتعاون في مجال الاستخبارات كانت مثمرة ،حيث تم تبادل المعلومات وفق ما يتلائم مع مصالح الطرفين بالطيع" كما تعتبر ليبيا أحد أكبر حرفاء السلاح السوفياتي ،والروسي ،ورغم الانفتاح الليبي على الغرب في السنوات الأخيرة من عمر حكم العقيد معمّر القذّافي فقد حافظت موسكو على حصة كبيرة من الشراءات الليبية للسلاح .
وفي المحصلة ،فان معمر القذافي خرّيج مدرسة عبد الناصر السياسيّة القائمة على مبدأ عدم الانحياز في السياسة الخارجيّة ،قد نجح في الحفاظ على استقلاليته التامة عن موسكو ،لكن في المقابل أيضًا كان حليفًا قويًا وحريفًا ثريا كذلك ،كما اتسمت العلاقة بين الطرفين بالكثير من التعاون في كافة المجالات ،وهو علاقة لم تكن بمنأى عن بعض الهزات والتوترات الراجعة لظروف موضوعيّة وتاريخيّة وربّما بعضها شخصيّة أيضًا في علاقة بشخصية العقيد القذّافي نفسه وبعض زعماء الاتحاد السوفياتي ومسؤوليه الكبار .