لم تكن ليبيا قبل العام 2011 في موقع جيّد على مؤشرات الفساد التي تصدرها المراكز وهيئات البحوث العالمية، حتى ما قبل "17 فبراير" كانت هناك تجاوزات كثيرة في عدد من المجالات الاقتصادية كان التعامل الرسمي معها مهادنا. لكن ما يمكن أن نسمّيه "الطامة الكبرى" في ليبيا بدأ بعد أحداث 2011، بعد غياب تام لسيطرة الدولة ودخول ليبيا في مرحلة جديدة من سيطرة المليشيات والتي أول ما وضعت أمام أعينها مقدرات البلاد المالية والنفطية لتبدأ مرحلة ممنهجة من الفساد جعلها في أسوأ سلالم الفساد في العالم.

المؤشرات التي تقدّمها سنويا منظمة الشفافية الدولية تقدّم صورة واضحة عن حالة كل دولة في خرائط البحث سواء كانت الأكثر إيجابية من ناحية مكافحة الفساد أو الأكثر سلبية أو سوداوية في التعامل مع تلك الظاهرة. ومن سوء حظ ليبيا أنها كانت ضمن الصنف الثاني الذي يعيش اليوم المرحلة الأصعب في علاقة بملف الفساد في كل مناحيه.

العام 2011، وفي آخر تصنيف أصدرته منظمة الشفافية الدولية عن الفساد كانت ليبيا تحتل المرتبة 146 من بين حوالي 180 دولة. بالتأكيد كان ترتيبا سيئا يبيّن أن خللا ما موجود حتى في تلك الفترة. الشعار الذي رفعه 'الثوار" كان في الأصل مقاومة مظاهر الفساد التي زعموا أنها مستفحلة في عهد القذافي، لكن بمجرد سقوط النظام دخلت ليبيا في مرحلة فوضى لم تعرفها في تاريخها الحديث حيث انتشر الفساد في كل المجالات وبطرق غير مسبوقة، فتدحرجت البلاد في العام 2012 إلى المرتبة 171 عالميا أي ثماني مراتب فقط على أسوأ دولة في مؤشرات الفساد.

بين العام 2012 و2017 تاريخ آخر مؤشر تصدره المنظمة المذكورة لم تخرج ليبيا عن العشرين دولة الأكثر فسادا في العالم، بل كانت في أغلب هذه السنوات في العشر مراتب الأخيرة ما يعطي دليلا واضحا أن الشعارات التي رفعت في 2011، كانت مجرّد خدعة تمهّد لمرحلة تالية أعقد وأصعب كان للمليشيات والفوضى الإدارية والسياسية دور فيها.

على المستوى الإداري تسبب الفساد في استنزاف أموال الدولة في مسالك غير معروفة أو غير مدروسة حيث تمت مضاعفة مراكز التوظيف الحكومي فوق حاجة وطاقة الدولة وميزانياتها بل إن مصادر رقابة داخلية أكدت أن أكثر من 100 ألف موظف حكومي يتمتعون بتوظيف مزدوج حيث استغلوا الحالة التي عليها الدولة لربط علاقات خاصة تمكنهم من توفير عائدات إضافية دون مراعاة وضعية البلاد الاقتصادية وكان المصرف المركزي في إحصائيات قدمها خلال السنوات الأخيرة قد أكد أن تلك العمليات تسببت في إرهاق الميزانية العامة للدولة التي تدفع سنويا ما يتجاوز 5 مليار دولار رواتب حكومية تقليص قيمة الاحتياطي المالي دون 30 مليار دولار بعد أن كان قبل سقوط النظام يتجاوز 150 مليار دولار. وفي خطوة لمقاومة تلك الظاهرة قالت هيئة الرقابة المالية بداية مع العام الماضي 2017 إنها اتخذت قرار بسحب 100 ألف وظيفة بعد ثبوت تعاطي لأصحابها لعمل مزدوج.

الأموال الليبية ليست بعيدة عن ظاهرة الفساد، آخرها ما تم الكشف عنه في يوليو من العام الماضي في سابقة خطيرة لم يتوقعها الليبيون ولا حتى غيرهم. شبكة من مهربي الأموال حاولت تهريب مبالغ ضخمة من البنين إلى السودان ومن خلالها كانت النية متجهة لإدخالها إلى ليبيا بطرق غير شرعية. تلك الأموال تبيّن أنها عبارة عن مخزونات وضعها النظام الليبي السابق في عدد من الدول الإفريقية بغاية استغلالها في أوقات الأزمات. لكن تلك الشبكة تفطنت إليها وبدأت في التخطيط لتهريبها قبل أن يتم اكتشافها عبر شخص سوري مقيم في بنين أين اتصل بمسؤولين ليبيين لمعرفة المسألة.

لكن بالعودة إلى العام 2011 نكتشف بداية التعلاعب الحقيقي بالأموال الليبية حيث ذكرت مصادر إعلامية أن خزينة الدولة كانت تحوي إلى لحظة سقوط النظام مبالغ كبيرة وبالتالي كانت عملية التصرف غير مدروسة بل تلحقها شبهات فساد كبيرة، حيث تشير أخبار إلى إحدى الشخصيات الهامة في المجلس الانتقالي تلقت بموافقة شخصية من مصطفى عبدالجليل، مبالغ تقدّر ب238 ألف دولار بهدف توزيعها على بعض المسلحين الذي شاركوا في "الثورة" لكن ذلك لم يحصل واختفت تلك الأموال وبعد التثبت تبيّن أن عملية توزيعها لم تتم وفق الصيغ القانونية.

مظاهر الفساد المالي تواصلت خلال كامل سنوات ما بعد "17 فبراير" حيث تؤكّد مصادر الرقابة أن عملية كبرى تمت سنة 2012 من خلال المؤسسة الليبية للاستثمار فقدت من رصيدها في لبنان مبلغ 2.15 مليار دولار كان من المفترض إلى تصل إلى مصرف ليبيا المركزي لكن تلك الأموال لم تدخل ما يؤكّد وقوع شبهة فساد كبرى يتحمل مسؤوليتهم رأسا مصطفي عبدالجليل باعتباره على علم بالعملية ولم يتعامل مع الأمر بالشكل المطلوب.

النفط الليبي لم يسلم بدوره من عمليات الفساد، بل ربمّا هو أكثر القطاعات فسادا باعتباره يوفّر عائدات مالية كبرى ويمثل 95 بالمئة تقريبا من العائدات العامة للدولة. الفساد فيه ينقسم إلى قسمين؛ الأول هو سوء التصرف في الأموال التي يوفرها وتكوّن أنواع من اللوبيات التي تتعامل معه كنوع من الملكية الخاصة التي تعطي الحق في نيل امتيازاتها. والقسم الثاني هو تشكل شبكات تهريب متعددة الجنسيات تستغل عامل الفوضى للقيام بعملياتها عبر البحر والبر جنوبا وغربا، حيث تعتبر مالطا بوابة رئيسية لتجارة النفط الليبي المهرب عبر البحر المتوسط، في حين تمثل المناطق الحدودية مع تونس ومع الجنوب الليبي البوابات الرئيسية البرية في علاقة بمسالك التهريب. وفي هذا الإطار تكلفت إحدى المحاكم البريطانية في أكتوبر 2017 بملف فساد يخص تهريب النفط الليبي عبر المتوسط متورطة فيه شخصيات من ليبيا ومالطا ومصر من خلال تهريب كمية من المحروقات بما قيمته 35 مليون دولار من مصفاة الزاوية تم توجيهها إلى دول أوروبية عدة الأمر الذي يفتح تساؤلا حول تورط رسمي غربي في مثل هذه العمليات.

الفساد ظاهرة تضرب كل دول العالم تقريبا مع اختلاف درجات تأثيره، لكن ليبيا كجزء من الدول التي مرت بتحولات سياسية وأمنية كبرى منذ العام 2011، كان من الدول الأكثر تضررا من التجاوزات المالية والاقتصادية وما تم ذكره هو جزء بسيط من عمليات كبرى تقع ربما بتواطؤ من رؤوس كبيرة له منافع من تواصل البلاد على وضع الفوضى لتواصل هي ممارسة هواياتها في الانتفاع المالي غير المشروع.