بعد سقوط نظام معمّر القذّافي، خرجت الكثير من الشّخصيات الليبية المؤثرة في أحداث الحرب الأهلية، لتروي شهاداتها عن أحداث "الثّورة". كانت سياقات التمجيد والثناء غالبة في كل خطابات هذه الزعامات "الثورية" وهي تتلو ذكرياتها على إيقاع النّشوة الغامرة المتلفزة عبر الشاشات بـ"سقوط الطاغية"، حينها خرج علي الصلابي أحد أهم رموز الإسلام السياسي في ليبيا ليحكي عن الدّور التركي، وعن أردوغان وحماية مصراتة بخلفيّة أنّ سكّانها من "الأتراك"! هكذا بكل بساطة ألقى الصلابي كلماته في غمار نشوة "النّصر" شهادته عن الدّور التركي في "الثورة الليبية".

وبعدها لم تخلف المعطيات كثيرًا، فلا قطط في عالم السياسة "تصطاد لوجه الله"، والقط التركي أصبح يريد أن يأخذ جزءا من "الصّيد الليبي" بمخالبه العثمانيّة، وحين ارتسمت الخيوط وتوضحت الصورة وبانت الخنادق والاصطفافات، ظهر الدّور التركي جليا بأطماعه الاقتصادية والسياسيّة في ليبيا.

وفي الحقيقة، لا تخفي تركيا أبدًا دعمها وتأييدها للجماعات الإسلاميّة في العالم العربي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. فحزب العدالة والتنمية الحاكم في البلاد يقدّم نفسه على أنه "حزب إسلامي" وزعيمه ورئيس البلاد رجب طيب أردوغان يحرص على تقديم نفسه كزعيم عثماني يريد إعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية الآفلة.

وتعتبر ليبيا أحد أهم المجالات التي تستهدفها هذه "الأهواء العثمانية" من حيث الدّعم الدائم والمتواصل لجماعات الاسلام السياسي، وتمويل خطابها السياسي المنحاز للميليشيات الجهوية والإيديولوجيّة ودفعها الدّيبلوماسي لكل القوى التي تتقاطع معها في التوجهات. دعم يوفر لها الأسواق ومشاريع إعادة الإعمار وفتح الموانئ أمام السلع المتدفقة وعائدات مالية واقتصادية رهيبة، ومجالا للنفوذ في بلد يعتبر من اكثر البلدان اهمية واستراتيجية في البحر المتوسّط.

سياسة تركيا الخارجيّة أيضًا لا تخفي انحيازها الى هذه الجماعات في كل معاركها وحروبها ضد دولها أو الكيانات السياسية المخالفة لها، فمن انحيازها إلى جانب الجماعات الإسلاميّة في ليبيا ودعمها لهم في حرب العام 2011 ضد الدّولة ليبية، وصولا إلى إعلانها دعم الرئيس المصري الأسبق محمّد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، والى دعمها للجماعات الجهادية في سوريا بل ومشاركتها العسكرية المباشرة في الحرب الدّائرة هناك منذ أكثر من سبع سنوات، ترتسم السياسة التركيّة في المنطقة بشكل واضح وجلّي، يعبّر عن تحالف قائم بينها وبين جماعات الإسلام السياسي والجهادي في العالم العربي.

وبغض النّظر عن أنّ تركيبة النظام التركي ذاته وكذلك حزب العدالة والتنمية يقومان في عمود فقري قوامه رجال الأعمال، فإنّ ما يميّز تركيا في سياساتها الخارجيّة (والاقتصادية) هو سعيها الدّائم للتوسّع في الأسواق الخارجيّة من خلال التجارة، وهي تسعى منذ سنوات طويلة إلى فتح أسواق جديدة في دول العالم الثالث خاصة، مدفوعة بعقليّة رأس المال المجبولة دوما على مزيد التوسّع والربح.

وتبدو افريقيا كأحد أهم الأسواق التي تستهدفها الأطماع التركيّة، ولا يمكن قراءة الدّور التركي في ليبيا منذ العام 2011 خارج اعتبارين اثنين وهما الرّغبة في الاستثمار في ليبيا (وخاصة مشاريع إعادة الإعمار) وثانيًا (وخاصة) إزاحة أحد أهم العقبات في القارة وهو العقيد معمّر القذّافي صاحب النفوذ الكبير في إفريقيا.

هذه المشاريع التوسّعيّة كانت دومًا (وعبر التاريخ) تحتاج لمحامل إيديولوجيّة ليسهل تمريرها، فكان الرّهان التركي على "الإسلام" وتراثها العثماني القديم، عازفة على أوتار الإسلام السني ودعم الجماعات الإسلاميّة لتسهيل تمرير مشاريعها التوسعيّة (الاقتصاديّة في جوهرها).

هذه النّزعة التوسعيّة توازيها نزعة استقطاب كبير للرسمايل والاستثمارات إلى الأسواق التركيّة لتقوية الاقتصاد المحلّي، غير أنّ هذا أيضًا لم يخرج عن دوائر الإيديولوجيا حيث تحوّلت تركيا، ضمن نفس السياسة، إلى عاصمة لرجال الأعمال الإخوان والإسلاميين، يخزنون فيها أموالهم ضخمة من العملات الصعبة، ويستثمرون فيها المليارات من الدّولارات في مختلف المجالات.

بهذا المعنى لا يمكن قراءة الدّور التركي في ليبيا، خارج استثمارها المالي في الخراب الليبي، إمّا في اتجاه بحثها عن الأسواق وإعادة الإعمار ودخول أفريقيا، أو باستقطابها للرساميل الإخوانية والجهاديّة وتدوير المال الليبي المهرّب في اقتصادها المحلّي، حيث تمثّل تركيا أحد أهم الوجهات التي يحبّذها الإسلاميون في ليبيا لاستثمار أموالهم الكبيرة التي غنموها من الحرب الطويلة المستعرة منذ 7 سنوات، شركات كبرى ومؤسسات إعلاميّة كبيرة وملايين الدولارات التي تُخزّن في البنوك التركية.

في يوليو من العام 2016 نشر موقع ويكيليكس وثيقة تكشف عن دور تركي في نقل أموال الليبي عبد الحكيم بلحاج المسؤول السابق للجماعة الليبية المقاتلة حيث كشف الموقع عن رسالة صادرة عبر البريد الإلكتروني من عبد الحكيم بلحاج سنة 2013 جاء فيها "أنا عبدالحكيم بالحاج، قائد المجلس العسكري، حصلت على عنوان التواصل معك عبر صديق سري من غرفة التجارة والصناعة، لا يشك في قدرتك على التعامل مع التحويلات المالية".

ويتابع عبد الحكيم بلحاج في رسالته المؤرخة بتاريخ نهاية آب/أغسطس 2013 بالقول: "بعد اقتحام الثوار لباب العزيزية وجدنا خزنة معدنية تحوي مبلغ 75 مليون دولار، قمنا بتوزيعها فيما بيننا، ونجحت في إخراج حصتي البالغة 15 مليون دولار إلى شركة مالية بمساعدة شركة خاصة في ليبيا، الصفقة كانت ناجحة تماماً".

هذه العينة من الوثائق تكشف بشكل جلي عن تقاطع المصالح بين تركيا وإسلاميي ليبيا، حيث يتم تبادل المنافع الاقتصادية داخل لعبة الإيديولوجيا المتمثلة في توفير الغطاء السياسي للجماعة الإسلاميّة بشكل الذي يجعلها مصدرًا للربّح المالي التركي وما يسهل لها هي نفسها تهريب أموالها واستثمارها في مناخ آمن بعيدا عن الفوضى الليبية التي ساهمت فيها تركيا نفسها، وبعيدا عن معاناة الاقتصاد الليبي المحلّي المنهار، وعن معاناة المواطن الليبي الواقف لساعات طويلة في طوابير المصارف والبنزين والخبز.

وتتنوّع الاستثمارات الليبية في تركيا بين شركات الخدمات والسياحة وأيضًا (وخاصة) المؤسسات الإعلاميّة، حيث تستفيد المؤسسات الإعلاميّة ذات الخط الإخواني والإسلامي عموما من الدّعم السياسي الكبير الذي تحظى به هذه الجماعات من قبل الدّولة التركيّة لتركيز مؤسساتها الإعلاميّة بعيدا عن الصراعات والمعارك في ليبيا، وحيث يمكنها تقديم خطابها الموجّه بعيدا عن كل ضوابط القوانين المحليّة، وبطريقة تحريضيّة (غالبا)، حيث تتقاطع مرّة أخرى المصالح بين الطّرفين، فهذه الجماعات التي ضاق عليها الخناق كثيرا في البلاد، تبحث عن مكان يوفّر لها الأمان لمواصلة بثّ خطابها الموجّه، بينما تبحث تركيا عن شركاء محليين يدعمون مشروعها في ليبيا، كما أنّهم يستثمرون تلك الملايين الكبيرة من الدّولارات في بنوك تركيّة تعود في النهاية بالفائدة على اقتصادها المحلّي وتوفّر لها عائدات ضخمة من العملة الصّعبة، في وقت لا يجد فيه المواطن الليبي البسيط دولارات قليلة في مصارف البلاد.

وبالتوازي كشفت عديد التقارير الاعلامية عن دعم عسكري للجماعات الاسلامية في ليبيا، خاصة الجماعات الجهادية منها، حيث تم إيقاف جرافات تركية تحمل أسلحة ثقيلة ومعدات عسكريّة متجهة الى ليبيا في وقت تخوض فيه البلاد حربا مفتوحة ضد هذه الجماعات التي بدأت تخسر نفوذها الواسع الذي حققتها بعد العام 2011 بدعم من تركيا نفسها.

وتواجه تركيا أيضًا اتهامات محليّة بدعم وتمويل الارهاب في البلاد، خاصة من قبل الجيش الليبي، الذي يتهمها وقطر بدعم هذه الجماعات، حيث لا يخفى أبدا الخطاب التركي المنحاز ضد الجيش الليبي والمصطف الى جنب الجماعات الاسلامية في ليبيا، وهو خطاب يفضح حقيقة الدّور التركي في البلاد المأزومة بانقسام حاد، وهو خطاب بحجم الرهان على هذه الجماعات التي تضمن عدم استقرار وتؤبد حالة الفوضى والدّمار والخراب الذي تستثمر فيه تركيا لربح مشاريع اعادة الاعمار وبيع السلاح وجلب الاستثمارات الى أسواقها المحلية.