ترتبط ليبيا ومصر بمصير مشترك فرضته عوامل الجغرافيا والتاريخ، وبذلك أصبحت العلاقة بينهما استثنائية، لا يمكن قياسها بالمعايير التقليدية لتقييم العلاقات الثنائية بين الدول، وإن شهدت تموجات متتالية حملت في طياتها التقارب إلى درجة الاندماج، والتباعد والتنافر إلى درجة العداوة، إلا أنها في المجمل بقيت المساحة الممتدة من غرب النيل وحتى جنوب خليج سرت منطقة عمق استراتيجي لأبناء الشعبين، ولعل ذلك ما يعلل يؤكد أهمية الدور المصري في حل الأزمة الليبية التي امتدت منذ سبع سنوات ولاتزال تتفاقم يوما بعد يوم.

في بداية الأحداث التي شهدتها ليبيا منذ منتصف شهر فبراير 2011، لم تكن مصر لاعبا مهما على الرغم من الدور الخارجي الذي كان المحرك الرئيس لما عاشته ليبيا من اضطرابات ومواجهات مسلحة، وقد يكون السبب في ذلك انشغال السلطات المصرية هي الأخرى بما يدور على أرضها بعد 25 يناير، وما تلاها من متغيرات سياسية وأمنية، إلا أن غياب سطوة السلطات الأمنية المصرية في المناطق الحدودية مع ليبيا ساهم في تسهيل تدفق المقاتلين الأجانب ودخول الأسلحة للمجموعات المسلحة التي دخلت في مواجهة مباشرة مع القوات المسلحة العربية الليبية، علاوة على استغلال عدد من الدول التي تدخلت في ليبيا بشكل مباشر من استغلال الشريط الحدودي الطويل بين ليبيا ومصر لإيصال الدعم لتلك المجموعات عبر المدن الليبية القريبة من الحدود المصرية.

وعقب انتهاء أحداث 2011 سيطر على ليبيا تيار الإسلام السياسي الذي تمكن من السيطرة على الدولة بعد فوز عناصره في انتخابات المؤتمر الوطني سنة 2012، واستغلال قانون العزل السياسي لتصفية العناصر الوطنية التي فازت في الانتخابات، واستبدالها بعناصر ما يعرف بالصف الثاني من عناصر الجماعات المتطرفة، وجماعة الإخوان، ونظرا لارتباط هذا التيار مع نظرائه في مصر الذين تمكنوا كذلك من الفوز بالانتخابات المصرية بطريقة كانت محل شكوك المراقبين، إلا أن ثورة 30 يونيو 2013 في مصر كانت علامة فارقة في ضرب مشروع "الاسلامويين" ليس في مصر فقط بل في كل المنطقة بما في ذلك ليبيا، وقد ظهر ذلك جليا سنة 2014 عقب انتهاء فترة المؤتمر الوطني الذي أصر على التمديد لنفسه، وما أعقب ذلك من انتخابات برلمانية نتج عنها مجلس النواب الليبي، ثم انضمام العديد من الكوادر العسكرية مع شباب الأحياء في مدينة بنغازي الذين انتفضوا على الجماعات الإرهابية بما عرف لاحقا بعملية الكرامة، التي قادتها القوات المسلحة العربية الليبية، وهي التي تمكنت من إنقاذ المنطقة الشرقية من سطوة الجماعات المتطرفة، وتأمين السواد الأعظم من مدنها وقراها، والتي تعد امتدادا طبيعيا لمصر، ونظرا لوحدة الهدف بين قوات الأمن في البلدين، والارتباط الاستراتيجي في موضوع الأمن الوطني في البلدين لاقت جهود الجيش الليبي دعما من عدة أطراف دولية وأقليمية، وجاءت مصر في مقدمة الداعمين، ليس للقوات المسلحة فقط بل لمجلس النواب والحكومة المؤقتة المنبثقة عنه، قبل ولادة حكومة الوفاق المنبثقة عن الاتفاق السياسي الذي وقع في الصخيرات المغربية في ديسمبر 2015، والتي أصبحت بفعل التأييد الدولي هي الحكومة المعتمدة على الرغم من عدم المصادقة عليها واعتمادها من قبل مجلس النواب.

ويتسم الدور المصري في ليبيا بفاعلية كبيرة لارتباط السلطات المصرية بعلاقات وثيقة ومتوازنة مع مختلف الأطراف السياسية في ليبيا على اختلاف مشاربها، لا سيما بعد أهتمام الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بشكل شخصي، عبر حرصه على الألتقاء مع قادة مختلف التيارات في ليبيا، وتكليف لجنة وزارية مصرية تعني بالملف الليبي، وتشكلت اللجنة المصرية المعنية بليبيا بقرار من الرئيس عبد الفتاح السيسي في أغسطس من عام 2016، وأسند رئاستها إلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية حينها، الفريق محمود حجازي، الذي كان مسؤولاً عن التعاون مع الجيش الليبي بقيادة حفتر لسنوات، وعقدت اللجنة جملة من الاجتماعات واللقاءات مع مختلف الأطراف الليبية، وكان نشاطها منصبا في اتجاه تقريب وجهات النظر بين الأطراف الليبية المختلفة، وتقريب وجهات النظر للتوصل إلى حل يساهم في الخروج من الأزمة الليبية.

ويرتكز التدخل المصري في ليبيا على عدة مرتكزات، وينطلق من جملة من الدوافع تتمثل في تأمين الحدود بين البلدين، والتصدي لتحركات الجماعات الإرهابية بين البلدين، وقيام مصر بدورها الأقليمي في المنطقة.

  • تأمين الحدود: تشترك ليبيا ومصر في شريط حدودي يتجاوز مسافة 1200 كيلومتر يتخلل مناطق صحراوية تبقى مهمة مراقبتها وضبطها أقرب للمستحيل، وهذا ما جعل الجماعات الإرهابية تستغل هذه النقطة للتنسيق بين التنظيمات الإرهابية في مصر وليبيا، والذي نتج بصورة رئيسية عن " الحدود الرخوة"، وتواجه مصر مهمة شديدة الصعوبة نظرا لتوليها منفردة مهمة تأمين الحدود، ولعل هذا ما يجعل مصر أكثر المطالبين بضرورة قيام جيش وطني ليبي فاعل وقادر على التصدي لمحاولات التسلل والمشاركة في تأمين الحدود للتخفيف عليها في القيام بهذه المهمة الصعبة والمكلفة.


  • مواجهة التنظيمات الإرهابية وضرب مشروعها التوسعي: عقب تعرض تنظيم داعش للخسائر الكبيرة في كل من سوريا والعراق تحول جل نشاطه إلى ليبيا، وتمكن بالفعل سنة 2015 من السيطرة على مدينة سرت ومناطق اخرى، وحاول التمدد والتوسع، وهو ما جعل السلطات المصرية تضع نصب أعينها مواجهة هذا المشروع وإجهاضه في مهده، لاسيما وأن كل التنظيمات الظلامية ترتبط فيما بينها بروابط أيديولوجية وسياسية وتنظيمية بين التنظيمات الإرهابية الفاعلة في ليبيا، وتلك التي تحاول تصعيد نشاطها في الداخل المصري.


  • استعادة الدور الإقليمي لمصر: لا شك في أن السعي المصري لحل الأزمة الليبية وتحركاتها في هذا الصدد تأتي استنادا إلى محاولة مصر تعزيز دورها الإقليمي، ولتكون أيضا طرفاً فاعلاً في أي تسويات سياسية داخل ليبيا، خاصة مع تصاعد نفوذ الجماعات الموالية للإخوان المسلمين في داخل ليبيا، ومحاولات فرض النفوذ التي تقوم بها القوى الدولية التي تسعى إلى إعادة تشكيل الواقع السياسي في الداخل الليبي بما يخدم مصالحها ويضر بالمصالح المصرية التي لا شك فى أنها سوف تتأثر بصورة مباشرة بالتغييرات السياسية الداخلية في ليبيا.

وتمكنت المساعي المصرية من تحقيق العديد من النجاحات، في المسارين السياسي والعسكري، حيث نجحت الدبلوماسية المصرية من جمع الفرقاء السياسيين الليبيين في أكثر من لقاء في العاصمة المصرية القاهرة، ولعل أبرزها نجاح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في جمع خليفة حفتر قائد عام الجيش الليبي، وفائز السراج رئيس المجلس الرئاسي، في شهر مايو من العام الماضي على الرغم من الخلاف الذي كان شب بينهما بعد رفض الأول لقاء الثاني بدعوى عدم شرعيته، كما استضافت العاصمة المصرية القاهرة سلسلة من الاجتماعات العسكرية التي جمعت خلالها عدد كبير من القيادات العسكرية من شرق وغرب ليبيا تحت إشراف اللجنة الوزارية المصرية المعنية بالملف الليبي، وكادت اللجنة أن تصل إلى صيغة توافقية لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية إلا أن تدخل أطراف خارجية، ومجموعات محلية حال دون التوصل للاتفاق، أو تنفيذ ما تم التوافق عليه من مسارات بين القيادات العسكرية الليبية.

وعلى الرغم من تفاقم الأزمة في ليبيا نتيجة تصارع الأطراف الداخلية والتجاذبات السياسية بين التيارات المتنافسة، وبسبب التدخلات الخارجية من الأطراف الأقيلمية والعديد من الدول الكبرى والصغرى على حد سواء، يبقى الدور المصري استثناء، من حيث الهداف والفاعلية، فهو على الرغم من أنه مبني بالأساس على المصالح المصرية، إلا أن هذه المصالح لا تنفصم مع المصالح الوطنية الداخلية في ليبيا ما يجعل هذا الدور متماهيا مع الأهداف الوطنية الليبية، وتبقى لدور مصر فاعليته لما لمصر من قيمة أقليمية ثابتة على الرغم من الظروف التي تعصف بها هي الأخرى، وما يزيد من هذه الفاعلية هو الارتباط المصيري بين الشعبين في كلا البلدين.