أتاحت الفوضى المنتشرة في ليبيا منذ العام 2011، وغياب سلطة مركزية فى ظل صراع متجدد على الشرعية بين الأطراف المتنازعة في البلاد، الفرصة للعديد من التنظيمات الإرهابية للانتشار في العديد من المناطق مستغلة في ذلك الفوضى العارمة لتؤسس لنفسها موطئ قدم في البلاد التي تحولت في ظل تلك الظروف إلى جحيم يعيشه أهلها وخطراً يخشاه المجتمع الدولي. 

وفي ظل المشهد القاتم، تحركت العديد من القوى الدولية لفرض وجودها في الساحة الليبية تحت ذريعة الجهود الساعية إلى حل الأزمة العصية والوصول بالبلد الممزق إلى حالة من التوافق ترسخ السلام والأمن فيه. ومثلت روسيا إحدى أبرز القوى الدولية حضورا في الساحة الليبية، وترافق هذا الحضور مع تساؤلات حول دورها العسكري في ليبيا أسوة بما حصل في سوريا. 

فعقب اندلاع العمليات العسكرية الروسية ضد معاقل تنظيم "داعش" وعدة فصائل مسلحة في الأراضي السورية منذ نهاية سبتمبر 2015، اختلفت آراء المحللين والخبراء بشأن ما إذا كانت العمليات الروسية في سورية هي محطة ضمن محطات متعددة لدور عسكري روسي جديد في الشرق الأوسط، واتسعت دائرة التحليلات لتطرح سيناريوهات محتملة لتدخل عسكري روسي في ليبيا، خاصة مع سيطرة "داعش" على مدينة سرت بشكل كامل. 

تحليلات عززها إلقاء روسيا بكامل ثقلها في الملف الليبي الذي فضلت التواري عنه لفترة، ولعل وضع الملف الليبي منذ نهاية 2015 تحت مسؤولية ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية المكلف بالشرق الأوسط يشهد على الأهمية التي يوليها الكرملين لهذا الملف. كما أخذ موقف الكرملين منذ مايو /أيار2016 منحى أكثر نشاطا حيث قامت روسيا بطبع 4 ملايير دينار ليبي (حوالي 3 مليارات دولار) لصالح حكومة طبرق مما أثار احتجاجات البنك الليبي المركزي المتواجد بطرابلس. 

وفي يناير 2017، كانت هناك زيارة قام بها القائد العام للجيش الليبي المشير خليفة حفتر إلى حاملة الطائرات الروسية "الأدميرال كوزنيتسوف"، وذلك خلال عبورها المياه الإقليمية الليبية في طريق عودتها من سوريا إلى روسيا. وقالت وزارة الدفاع الروسية حينها في بيان لها أن المشير حفتر، تواصل مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو عبر دائرة تلفزيونية مغلقة، وبحث معه محاربة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط. كما ذكر البيان أنه تم تسليم حفتر، في ختام الزيارة شحنة من الأدوية الأساسية الضرورية للجيش الليبي والمدنيين. 

ومثلت الزيارة حينها دفعة رمزية للمشير خليفة حفتر وفي الوقت نفسه أظهرت اهتمام موسكو بالقيام بدور أكبر في المنطقة في أعقاب تدخلها في سوريا. وقال كبير الباحثين في معهد حوار الحضارات الذي تربطه علاقات وثيقة بالقيادة الروسية "أليكسي ملاشينكو" إن روسيا ترى بعد تدخلها في سوريا أن ليبيا تمثل وسيلة لتأكيد عودتها إلى الشرق الأوسط وفرض هيمنتها عليه. 

وأوضح " ملاشينكو "في تقرير نشرته وكالة "رويترز"، في يناير 2017، أن سوريا وحدها لا تكفي ولهذا نحتاج إلى دولة أخرى للوجود الروسي لا في سوريا وحدها بل عموما في الشرق الأوسط، مضيفا أن "ليبيا أرض ملائمة لذلك فهي في حالة فوضى شاملة وبوسعك أن تقول دائما إن روسيا تساعد في محاربة الإرهاب" . حسب قوله. 

ونجح المشير خليفة حفتر في بناء علاقات قوية مع روسيا، وهو ما كشفت عنه الزيارات الرسمية التي قام بها حفتر لروسيا واجتماعه مع السياسيين الكبار في موسكو. وفي مطلع فبراير 2017، أعلنت القيادة العامة للجيش الوطني الليبي، إرسال 72 من جنودها المصابين إلى روسيا الاتحادية لتلقي العلاج لأول مرة. ونقلت وكالة الأنباء الليبية عن مصدر عسكري بغرفة عمليات الكرامة التابعة للقيادة العامة للجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، أن الجنود الجرحى نقلوا إلى مصر بطائرة أقلعت من مطار بنينا في بنغازي ومن هناك توجهت إلى روسيا، مضيفا أن هذه الرحلة لن تكون الوحيدة من نوعها لجرحى القوات المسلحة. 

ودفع هذا التقارب بين الطرفين إلى تصاعد الاتهامات بشأن دور موسكو المتزايد في ليبيا. وهو ما عبر عنه قائد القوات الأميركية في أفريقيا، الجنرال توماس وولدهاوزر، في مارس 2017، حين أكد وجود نشاطات روسية "مقلقة" في ليبيا. وأوضح اولدهاوزر في موجز صحفي بواشنطن، "أود أن أقول أنهم (الروس) موجودون على الأرض، ويحاولون التأثير على العمليات (الأمنية الليبية)، ونحن نشاهد ما يفعلون بقلق بالغ". 

وجاء تصريح وولدهاوزر، في أعقاب تقرير نشرته وكالة "رويترز"، ذكرت فيه أن الولايات المتحدة لاحظت وجود قوات خاصة روسية فيما يبدو وطائرات بدون طيار في سيدي براني بمصر على بعد حوالي 100 كيلومتر من الحدود مع ليبيا. وقال التقرير إن تلك الخطوة من شأنها تعزيز دور موسكو المتنامى في ليبيا. 

وفي المقابل، نفت موسكو هذه الاتهامات، وقال ميخائيل بوغدانوف، ممثل الكرملين الخاص في الشرق الأوسط، في تصريح أدلى به لوكالة "ريا نوفوستي" الروسية، في 21 مارس /اذار 2017، أنّ "ادعاءات قيام موسكو بنشر جنود من القوات الخاصة المزودة بطائرات من دون طيّار، على الحدود المصرية الليبية، عارية عن الصحة"، وأضاف أنّ "بلاده على تواصل مع كافة القوى السياسية الناشطة في شمال وجنوب وغرب ليبيا". 

وبدوره نفى العقيد تامر الرفاعي، المتحدث باسم القوات المسلحة المصرية، وجود أي جندي أجنبي على الأراضي المصرية، قائلا إنها مسألة سيادة. فيما فند السفير علاء يوسف، المتحدث باسم رئاسة الجمهورية المصرية صحة ما نشرته وكالة رويترز للأنباء حول تمركز قوات روسية خاصة في قاعدة جوية غربي مصر بالقرب من الحدود الليبية. كما نفى محمد منفور، قائد قاعدة بنينا الجوية الواقعة قرب مدينة بنغازي "أن يكون الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر قد تلقى مساعدة عسكرية من الدولة الروسية أو متعاقدين عسكريين روس ونفى أيضا وجود أي قوات أو قواعد روسية في شرق ليبيا. 

وفي فبراير 2018، كشف رئيس لجنة الاتصال الروسية المعنية بتسوية الأزمة الليبية، ليف دينغوف، أن المشير خليفة حفتر قدم طلبا لروسيا لإقامة قاعدة عسكرية روسية شرق البلاد، مؤكدا أنه لا يزال من غير الممكن معرفة إذا ما كان سيتم الموافقة على ذلك الطلب. وقال دينغوف لصحيفة "اليوم السابع" المصرية، عند سؤاله عن سعي موسكو لوجود عسكري في شرق ليبيا، "بحسب المعلومات المتوافرة لدي، فقد ورد مثل هذا الطلب من … حفتر، لإنشاء مثل هذه القاعدة العسكرية"، وتابع "ولكني لا أعرف هل تم دعم هذا الخيار ممكن أم لا"

تصريحات سرعان ما رد عليها الناطق باسم القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية العميد احمد المسماري، بالنفي. وقالت وكالة الأنباء الليبية في البيضاء، إن المسماري "فند الأخبار المتداولة بشأن طلب القائد العام للقوات المسلحة المشير خليفة حفتر بشأن إقامة قاعدة عسكرية روسية في شرق ليبيا". و"نفى التصريحات المنسوبة لرئيس مجموعة الاتصال الروسية المعنية بليبيا ليف دينغوف، بخصوص أن القائد العام للقوات المسلحة طلب تدشين قاعدة عسكرية روسية في شرق ليبيا". وأوضح المسماري للوكالة "أن هناك مغالطة في الخبر الذي تم نقله من الصحيفة"، دون أن يذكر أي تفاصيل. 

على صعيد آخر، وبالرغم من نفيها المتكرر لأي وجود عسكري لها في ليبيا، فإن موسكو لم تنفي إمكانية التدخل لكنها ربطته بشروط. ففي أبريل 2018، قال رئيس مجموعة الاتصال الروسية الخاصة بليبيا ليف دينغوف، إن مسألة قيام موسكو بعملية عسكرية في ليبيا على غرار سوريا ترتبط بتوفر شروط، ولم ينف المسؤول تكرار السيناريو في ليبيا. وأكد دينغوف، لـ"روسيا اليوم"، على هامش مؤتمر موسكو السابع للأمن الدولي، أن الفرق بين ليبيا وسوريا هو أن الأخيرة لديها حكومة موحدة، وجيش موحد، بينما لا يتوفر في ليبيا ذلك، مبينا أن التدخل العسكري الروسي في سوريا جاء بطلب الحكومة، لكن ليبيا تشهد انقساما سياسيا بين الأطراف كما أنها لم تطلب تدخلا روسيا. 

وسبق لموسكو أن أكدت أكثر من مرة أنها لا تعتزم شن ضربات جوية على ليبيا حيث تنشط جماعات موالية لتنظيم "الدولة الإسلامية"، دون موافقة ليبية. وقال وزير الخارجية الروسي سي سيرغي لافروف في روما، في 11 من ديسمبر/ كانون الأول 2015، إن "هذه ليست خططنا. لم نتلق طلبات من هذا النوع من حكومة ليبيا". 

وفي يوليو 2018، قالت صحيفة واشنطن تايمز الأمريكية إن وكالة الاستخبارات الأمريكية تراقب عن كثب الأنشطة العسكرية الروسية في ليبيا بحثا عن مؤشرات حول نية موسكو أنشاء قاعدة عسكرية قريبا في الدولة المنقسمة في شمال افريقيا. وأضافت الصحيفة أن التقارير الاستخباراتية تشير إلى أن روسيا تخطط للتوسع في قواعدها العسكرية في منطقة الشرق الأوسط عبر أنشاء قاعدة عسكرية في ليبيا وألا تكتفي بقاعدتيها في طرطوس وحماه بسوريا. 

وادعت الصحيفة الأمريكية أن قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر هو من يقود الدفع من أجل الوجود العسكري الروسي في ليبيا. وتعمل القوات الخاصة الروسية في شرق ليبيا منذ مارس 2017، بما في ذلك شركة أر أس بي للاستشارات العسكرية التي قامت بنشر عشرات من المرتزقة المسلحين. وأوردت الصحيفة تقارير إخبارية من ليبيا أن عناصر شركة أر أس بي يشاركون في أعمال مسبقة ويستكشفون مواقع لقاعدة عسكرية روسية في طبرق أو بنغازي. بالإضافة إلى شركة أر أس بي هناك شركة فاجنر –أشهر شركة خدمات عسكرية روسية – وتنشط أيضا في شرق ليبيا. 

من جانبه علق رئيس لجنة الدفاع في مجلس الاتحاد الروسي، فيكتور بونداريف، على تلك الأنباء في مقابلة مع وكالة "ريا نوفوستي" قائلاً إن "موسكو ليس لديها نية لبناء قواعد في هذه الدول"، مضيفاً أن موقف روسيا من قضية القواعد العسكرية في الخارج "عقلاني ومتوازن"، دون توضيح مقصده من هذه العبارة، وذلك رغم الدعم العسكري الذي تقدمه روسيا فعلياً للجيش الوطني الليبي الذي يسعى إلى إنهاء حالة تقسيم البلاد وسيطرة التنظيمات المدعومة من الخارج على بعض مناطقها. . 

وفي أغسطس الماضي، أعادت تصريحات لناطق باسم الجيش الليبي، العميد احمد المسماري، الزخم للدور العسكري الروسي في ليبيا، حيث اعتبر المسماري في تصريحات التي أدلى بها للإعلام الروسي، أن "ما حدث في سوريا يحدث في ليبيا، وأن الوضع في ليبيا يتطلب تدخلا روسيا، وتدخل الرئيس بوتين شخصيا، وإبعاد اللاعبين الأجانب مثل تركيا وقطر وإيطاليا بشكل مباشر

وإلتقطت مجلة "نيوزويك" الأمريكية تصريحات المسماري، لتطرح تساؤلًا أوسع مؤداه:"هل روسيا جاهزة لحرب آخرى؟ قادة ليبيا واليمن يطلبون مساعدة فلاديمير بوتين". ورأت "نيوزويك" أن ما جرى من أحداث في الوطن العربي عقب عام 2011، يمثل لحظة فاصلة بالنسبة لروسيا، دفعتها إلى السعي لاتباع نهج أكثر طموحًا تجاه الشرق الأوسط في تحدٍ للولايات المتحدة والسيطرة الغربية هناك. 

وذهب البعض إلى إعتبار تصريحات المسماري بمثابة دعوة للتدخل العسكري الروسي في ليبيا، ودفع ذلك بالناطق الرسمي باسم القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية، لنشر بيان توضيحي، قال فيه أن "طلب القيادة العامة بتدخل روسي في الأزمة الليبية جاء عبر ثلاثة مواقف أولها "عبر الأمم المتحدة لرفع الحظر عن تسليح الجيش الوطني الليبي الذي تمثله القيادة العامة، وأضاف أن الموقف الثاني لماهية التدخل الروسي يأتي عبر دعم مبادرة فرنسا وإجراء انتخابات في ليبيا، وثالثا مناقشة إيطاليا في تدخلها المشبوه في الشأن الليبي". 

ومثل التحاق روسيا بالصراع الليبي، دافعا لمخاوف غربية خاصة أميركية من طبيعة الدور والحضور الروسي في ليبيا ومحاولات تأثيره على سير العملية السياسية والعسكرية في البلاد. وكان المبعوث الأممي، غسان سلامة، أشار إلى أن هدف روسيا الأساسي في ليبيا هو العودة إلى السوق الليبية لأنَّها كانت مصدرًا أساسيًّا للسلاح، وتملك هناك عقودًا ببلايين الدولارات، تعطلت منذ عهد معمر القذافي. وأكد سلامة أن العلاقات "غير السوية" بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكيّة تؤثر على الوضع الليبي.