شهدت المدن الليبية تحرّكات متزامنة احتجاجاً على تردّي الأوضاع المعيشية، وإخفاق الأطراف السياسيين في التوصّل إلى حلّ يحدّ من تفاقم الأزمة.

وتمثّلت التحرّكات التي تتصدّرها حركة "التريس" في إحراق مقرّ البرلمان في طبرق، وتظاهرات ودعوات إلى الاعتصام في بنغازي، فيما بدا لافتاً إبداء بعض السياسيين مساندتهم الاحتجاجات.

وتأتي هذه التطورات في وقت فشل فيه رئيسا المجلس الرئاسي ومجلس النواب في التوصّل إلى اتفاق على أيّ تفاصيل في شأن الدستور والجولة المقبلة من مفاوضات جنيف المتوقَّع انعقادها الايام المقبلة.

 وتواصلت التظاهرات في عدد من المدن خلال الأيام القليلة الفائتة وأجمع الأطراف السياسيون، على رغم اختلافهم، على ضرورة عدم المساس بالمتظاهرين وعدم إطلاق النار عليهم، وسط دعوات إلى عدم تخريب المؤسسات العامة أو حرقها. من جهته، أجّل تيار "التريس" الذي قاد التظاهرات، احتجاجاً على سوء الأوضاع، وفي محاولة للضغط على السياسيين من أجل الوصول إلى اتفاق سياسي تجري بموجبه العملية الانتخابية، في حين يدرس قادته توزيع مواقع الاعتصام على مختلف المدن الليبية الرئيسة للتأكيد أن الحراك لا يستهدف فصيلاً سياسيّاً بعينه، كما حاول البعض الترويج، في الأيام الماضية.

ويشكل الحراك المدني في ليبيا الذي انطلق مطلع يوليو الجاري نموذجًا استثنائيًا، فقد جسّد الحراك المسلح في ليبيا منذ العام 2011 نسخة الحراك الخاصة بالطبعة الليبية، ما يؤكد على أن ثمة منعطفًا جديدًا تشهده هذه الساحة يمكن أن يغير من طبيعة المعادلات التقليدية التي ترسخت في الحالة الليبية على مدار أكثر من عقد، لكن لا يزال من المبكر الحكم على مستقبله، وما إذا كان سيتحول إلى قوة سياسية ضاغطة أم سيبقى كحركة احتجاج محدودة التأثير في مشهد فوضوي.

وعبّرت مطالب الحراك عن حجم الغضب والاستياء إزاء تردي الأوضاع الاجتماعية بسبب غياب الخدمات، وارتفاع أسعار السلع الضرورية للمواطن كالخبز، علاوة على عدم قدرة مؤسسات الدولة على التعاطي الجاد مع التأثيرات التي أنتجتها الحرب الروسية الأوكرانية، خاصة فيما يتعلق بتوفير الحبوب في ظل عدم توافر مخزون استراتيجي.

يضاف إلى ذلك الانقطاع المستمر والمتواصل في الكهرباء، والذي يصل إلى أكثر من خمسة عشر ساعة يوميًا في بعض المناطق، ناهيك عن وجود مخططات لرفع الدعم عن الوقود. وعليه، كانت أزمة الكهرباء ضمن المحركات الأساسية للحراك، خاصة في ظل المعاناة المستمرة في القطاع؛ بسبب تقادم المعدات، والمشاكل المرتبطة بالصيانة، وقطع إمدادات الوقود عن محطات الكهرباء الرئيسية.

ودعا المشاركون في الحراك إلى الإطاحة بكافة الرموز والأجسام السياسية المسيطرة على المشهد، وذلك في ظل غياب أية فرص لتجاوز المرحلة الانتقالية، واستشعار قوى الحراك أن النخب الحالية تسببت في إجهاض كافة المحاولات لاستكمال المسار السياسي؛ وفقًا للحسابات الضيقة لكل طرف، ورغبته في الإمساك بزمام الأمور، وعدم وجود نية لتقديم تنازلات يمكنها أن تؤسس لمرحلة من التوافق، وما رافق ذلك من تشكيك كل طرف في شرعية الطرف الأخر، فعلى سبيل المثال رغم أن خارطة الطريق كانت تقضي بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في ديسمبر 2021، وإنهاء المرحلة الانتقالية في يونيو الماضي، إلا أن حكومة الوحدة لم تتخل عن السلطة رغم انتهاء المدة الزمنية التي حددتها خارطة الطريق.

إلى ذلك، يرى مراقبون أن الدلالة الأبرز التي عكستها الاحتجاجات تتمحور حول حالة السخط بكل النخب والأطياف السياسية التي تسيطر على المشهد،فالرسالة التي أراد المحتجون إيصالها للجميع تتعلق بتحميل التناحر السياسي الحالي مسؤولية ما وصلت إليه الأمور من تدني على كل المسارات معبّرين عن حالة غضب تجاه التناحر الذي  كان السبب الرئيسي في إحداث الوقيعة والفتنة بين أبناء البلد الواحد، الذي انقسم إلى دولتين، واحدة في الشرق والاخرى في الغرب.