قبل اكتشاف النفط فيها كانت ليبيا تصنف من ضمن أكثر بلدان العالم فقرا، إن لم تكن الأكثر فقرا على الإطلاق، فقد كان ناتجها القومي لا يرتقي للأرقام الصحيحة ذات الخانتين، بالنسبة لما يجب أن يكون عليه الحد الأدنى لتجاوز سكان البلاد خط الفقر، وبقيت ليبيا بلد يعتاش على المعونات الدولية، حتى تم اكتشاف النفط فيها في نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي، ليتحول الاقتصاد الليبي من سلة المعونات، إلى لاقتصاد الريعي الذي يعتمد بشكل شبه كامل على مورد واحد هو النفط.

وشهد الاقتصاد الليبي حالات تحول عديدة أبرزها كان في بداية السبعينيات، عندما أقدم مجلس قيادة الثورة حينها على تأميم قطاع النفط الذي كانت تسيطر عليه عدد من الشركات العالمية، ورافق ذلك تنفيذ خطط التحول الخمسية والعشرية التي عرفتها ليبيا لأول مرة منذ بداية السبعينيات وحتى النصف الأول من الثمانينيات، والتي شهدت فيها البلاد نهضة حقيقية في مختلف المجالات، ورافق ذلك ارتفاع أسعار النفط ما زود الخزانة الليبية بوفرة من النقد الأجنبي، وساهم في رفع قيمة العملة المحلية "الدينار الليبي"، إلا أن هذا الوضع هو الآخر تعرض لم يدم طويلا إذ سرعان ما وضعت ليبيا تحت طائلة العقوبات الدولية التي قادتها أمريكا في الثلث الأول من الثمانينيات، وتضاعفت بعد ذلك في التسعينيات، فيما عرف بقضية لوكيربي، وما ترتب عليها من حصار اقتصادي خانق، وحظر طيران، وعقوبات أخرى، حدت من حركة التنمية الاقتصادية، وأوقفت الخطط التنموية، والتي عادت من جديد بعد حل القضايا العالقة مع الدول الغربية، إلا أن الأمر أيضا لم يستقم إذ تزامنت المباشرة في تنفيذ مشروعات التحول الجديدة في ليبيا وموجة "الربيع العربي" لتدخل البلد في دائرة صراع جديدة ترتب عليها ليس توقف المشروعات فحسب، بل تدمير القائم منها، تكبد الدولة والشركات الأجنبية العاملة فيها خسائر فادحة على حد سواء.

اقتصاد ريعي قوامه النفط

بالعودة إلى ركائز الاقتصاد الليبي، ومكوناته ومقدرات البلد الاقتصادية، وموارده الرئيسية، فأن وفقا للدراسات والتقديرات المحلية والدولية "المتوافقة" تؤكد، أن النفط شكل في ليبيا عام 2010 نحو94% من عائدات النقد الأجنبي و60% من العائدات الحكومية، و 30% من الناتج المحلي الإجمالي، حيث كانت ليبيا تنتج 1.65 مليون برميل يوميا من معدل احتياطي  قدره 41.5 مليار برميل، وكانت تعتزم في خطة 2011 زيادة إنتاجية بحوالي 3 ملايين برميل يومياً، وكان معدل دخل الفرد في تلك الفترة هو 4400دينار، وكان إجمالي الاناتج اليومي يقدر بحوالي 160 مليون دولار، ولم يتجاوز معدل التضخم: 1.77 %، وتقدر الصادرات بما يزيد عن 23.8 مليار دولار، فيما لا تتجاوز الواردات 6.3 مليارات دولار، بمعني أن الفارق في الميزان التجاري  حقق فائضا يقدر بحوالي 17.5مليار دولار لصالح خزانة الدولة الليبية.

وبناء على تلك المعطيات تمكنت ليبيا قبل سنة 2011، من جمع مبالغ مالية ضخمة مقارنة بموارد البلاد وعدد سكانها، حيث احتوت خزانة مصرف ليبيا المركزي على عشرات المليارات من العملة الصعبة، وكميات هائلة من الذهب، الذي يمثل غطاء حقيقي للعملة المحلية، إضافة لأموال الاستثمارات الليبية بالخارج التي تديرها مؤسسات الدولة المالية، أو الودائع والسندات والاستثمارات في البنوك والمؤسسات الدولية، والتي تقدر بمئات المليارت من الدولارات، فكان الاقتصاد الليبي يعيش حالة استقرار قل نظيرها حتى في الدول العظمى، وذلك بشهادة المؤسسات المالية العالمية.

أما بعد أحداث فبراير فقد شهد الاقتصاد حالة "نكوص" لم تكن في الحسبان، حيث كانت الآمال التي بنيت على الدعاية التي صاحبت الأحداث، والتي صورت أن الليبيين سيعيشون حياة باذخة، في ظل وضع اقتصادي جديد ترتفع فيه الدخول، وتتنوع في ظله النشاطات الاقتصادية، إلا أن الوقائع أتت بغير ذلك حيث تبخرت تلك الأماني بعد فترة وجيزة، إذ سرعان ما تم استنفاد المتاح من الأموال التي صرفت من قبل الحكومات التي أعقبت "إسقاط النظام السابق"، وبدأت بوادر الاختلاف والشقاق منذ نهاية العام 2012 حيث أدت النزاعات إلى إغلاق المنشآت والحقول والموانئ النفطية، وخروج الشركات الأجنبية، وبدأ الإنتاج النفطي في التناقص بل والتوقف التام في بعض الأحيان، وفي ظل الاستهلاك غير الرشيد لمدخرات الخزانة العامة، واحتياطيات المصرف المركزي، بدأت ملامح انهيار الاقتصاد الوطني تبرز، وتتزايد يوم بعد يوم، وفاقم الوضع وجعله أكثر سوءا تفشي الصراع السياسي مع أوائل سنة 2014، وظهور حالة الانقسام السياسي الذي صاحبه انقسام في مؤسسات الدولة السيادية بما في ذلك المصرف المركزي المسؤول عن إدارة العملية الاقتصادية الرئيس في البلاد، والذي انقسم هو الآخر إلى مصرفين.

صراع سياسي.. وانهيار اقتصادي

في شهر أكتوبر سنة 2014 شهد مرحلة تحول جديدة في الاقتصاد الوطني في ليبيا عندما رفض المصرف المركزي صرف التمويلات المطلوبة باستثناء الرواتب والدعم مباشرة للحكومة الليبية المؤقتة، ما جعلها تتجه إلى الاقتراض من المصارف التجارية في شرق البلاد، واتخاذها قرارات منفردة بتغيير إدارة المؤسسة الليبية للاستثمار ليتفاقم الصراع بين الحكومات في البلاد، وأولى ضحايا الصراع كانت المؤسسات المالية والاقتصادية.

وبسبب تفشي الصراع، وغياب الإدارة الرشيدة أخذ الاقتصاد الليبي في التردي بوتيرة متسارعة حتى وصل إلى حالة لا يمكن وصفها إلا بالانهيار وفقا لتصنيفات معظم الخبراء الذين تناولوا حالته بالبحث، ولعل تقارير المنظمات المالية والاقتصادية الدولية، يؤكد حقيقة ما آل إليه الوضع الاقتصادي والمالي، والمعيشي "بالتبعية"، حيث أكد البنك الدولي في تقرير له نشره بعد انقضاء النصف الأول من السنة الحالية (2017) أن الاقتصاد الليبي تضرَّر من الصراع الدائر واستمرت معاناته من الكساد، وفقد نصف إجمالي الناتج المحلي الذي كان عليه قبل 2011.

ويضيف تقرير البنك أن إيرادات الموازنة وعائدات الصادرات سجلت أدنى مستويات لها بسبب انخفاض إنتاج النفط وأسعاره، ولذلك ظل العجز المزدوج (عجز المالية العامة والحساب الجاري) مرتفعاً. وتآكلت المداخيل الحقيقية للسكان تحت الضغط من تضخم ٍمرتفع غير مسبوق.

وقد شهد انتاج النفط باعتباره المورد الرئيس للبلاد، تناقصاً مطرداً على مدى السنوات الخمس الماضية ليصل إلى نحو 0.38 مليون برميل يومياً في 2016 أيْ أقل من ربْع مستواه قبل 2011، ونتيجةً لذلك، انكمش الاقتصاد الليبي بما يقدر بنسبة 2.5% في 2016، وتشير التقديرات إلى أن إجمالي الناتج المحلي الحقيقي انخفض إلى أقل من نصف مستواه الحقيقي.

الدينار الليبي يسجل هبوطا قياسيا

إلى جانب انهيار الاقتصاد وضياع الأرصدة النقدية في المصرف المركزي، واضمحلال الاحتياطي من العملات الأجنبية، وقرب الدولة لإعلانها الإفلاس "وفقا لما ساقه محافظ مصرف ليبيا المركزي"، تأثرت العملة المحلية (الدينار) لتسجل رقما قياسيا في الهبوط أمام الدولار، وغيره من العملات العالمية، حيث وصل لأول في تاريخه إلى حدود 1/10 من الدولار، ويحذر الخبراء من استمرار هبوط الدينار إلى أبعد من ذلك، حيث حذر الخبير الاقتصادي الليبي سليمان الشحومي، من تدهور قيمة الدينار إلى ضعف ما وصل إليه الآن، الذي أكد في محاضرة له أن احتياطات مصرف ليبيا المركزي بدأت تنفد، لتصل إلى أقل من 50 مليار دولار، وهو أقل من نصف ما كانت عليه عام 2010، محذّرا من أنه بعد عام 2017 ستخسر ليبيا كل ما تبقّى من أموال، وهو ما يؤدي لانهيار قيمة العملة، ويصبح الدولار يساوي 20 دينار أو أكثر.

في ظل هذا الحال الذي آل إليه الوضع الاقتصادي والمعيشي في ليبيا، أصبح الحل والعودة بالأمور إلى ما كانت عليه، أشبه ما يكون بالمهمة المستحيلة، ليس فقط بسبب غياب المعطيات الموضوعية، وعدم توافر الاشتراطات اللازمة لذلك فحسب، بل لغياب الإرادة الضرورية للسعي في اتجاه الحل، في ظل حالة التشظي الانقسام السياسي، وتغليب المصالح الخاصة على المصلحة العامة، ويبقى الضحية جراء ذلك هو المواطن.