يعد الأمن الغذائي إحدى الخطوات الضرورية التي تسعى الدول لتحقيقها خصوصا مع النمو السكاني المطرد، وتجهد دول العالم باستمرار لتأمين الغذاء الجيد والنظيف لشعبها، وتبذل في ذلك مختلف السبل، وفي الوقت الراهن أخذت أهمية الأمن الغذائي تزداد، لكونها مدخلًا للأمن الإنساني يوماً بعد يوم، حيث أصبح إنتاج الغذاء وتوفيره مرتبطًا بسياسات بعض الدول والتي حولت بعض السلع الغذائية مثل القمح والأرز إلى سلع استراتيجية تستخدمها كسلاح ووسيلة لخدمة أهدافها ومصالحها الخاصة، فضلًا عن أنه مرتبط أيضا بالظروف والمتغيرات الداخلية لتلك الدول كحدوث فيضانات أو حرائق أو أعاصير أو أوبئة تهدد عملية الإنتاج، ما يؤدي بدوره إلى إجبار حكومات تلك الدول على عدم التصدير إلى الخارج وذلك لأجل سد حاجات مواطنيها من الغذاء. 


وإذا كانت الدول الغنية لا تجد صعوبات كبرى في تأمين الغذاء، فإن الدول العربية والفقيرة تعاني الكثير لتحقيق ذلك، وعلينا أن نعترف، أنّ الوطن العربي يعاني من مشكلة حقيقية تواجهها الحكومات العربية متمثّلة في كيفية توفير الغذاء اللازم، دون الوقوع تحت الضغوط السياسية والاقتصادية من جانب الدول الرئيسية المنتجة للغذاء، وليست المشكلة في قيمة الفجوة في الوقت الراهن، لكن المشكلة الأكبر تتمثّل في زيادة معدلات نمو الفجوة الغذائية في العديد من الدول العربية، وذلك لأن الإنتاج المحلي عاجز عن تلبية الاحتياجات المتزايدة للطلب المحلي، وبخاصة مع زيادة معدلات النمو السكاني التي تُولّد ضغوطاً على الإنتاج المتاح. وعلى الرغم من الموارد الطبيعية المتاحة والمتوافرة في الدول العربية متمثّلة في الأرض والمياه والموارد البشرية، إلا أن الزراعة العربية لم تحقّق الزيادة المستهدفة في الإنتاج اللازم لمواجهة الطلب على الأغذية، الأمر الذي أدى إلى اتساع الفجوة الغذائية الرئيسية. 


الأرقام التي توردها منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة (الفاو) حول أعداد الجوعى والفقراء والمعرضين للجوع والفقر، هي أرقام صادمة حول مستويات الفقر المدقع في غالبية البلدان وبخاصة العربية، ومن يتابع تقارير المنظمات الدولية، سيجد أن معدلات الفقر آخذة في الزيادة، وإن تراجعت في حين إن هذا التراجع يكون هامشه بسيطًا جدًّا، فلا يزال هناك الملايين ممن يرزحون تحت خط الفقر المدقع، فضلًا عن تحذير منظمة (الفاو) بأن مشكلات الأمن الغذائي في البلدان التي تعاني مرشحة للزيادة مستقبلًا، وهذا دون شك يعكس تواضع الجهود المبذولة على صعيد كل دولة، وفي إطار العمل المشترك، مازالت ضعيفة ولم يتحقق منها سوى مكاسب متواضعة، بينما تتسع الهوة بين الأغنياء والفقراء وتتراجع أوضاع الطبقة الوسطى في العديد من مجتمعات تلك الدول، إلى حد وقوفها على حافة الفقر. هذا إذا أخذنا في الحسبان أن (الفاو) تعتمد على جهات حكومية رسمية معنية بتقديم الإحصائيات، في حين أن تقديرات منظمات وهيئات مختصة دولية ومحلية تؤكد أن نسبة الفقر المدقع أكبر بكثير، ويضاف إلى جملة الأسباب المؤدية إلى الجوع والفقر في العديد من دول العالم الحروب السياسية والعسكرية والاقتصادية.


فالأرقام التي ترد في تقارير المنظمات العربية والدولية تعطي صورة غير مريحة لواقع القطاع الزراعي العربي وما يترتب عليه. فرغم سعة الموارد الأرضية الزراعية التي تبلغ نحو 67 مليون هكتار، فإن الزراعة المروية لا تتجاوز ما نسبته 15 بالمائة، والزراعات المستديمة 9.4 بالمائة في حين تستأثر الزراعة المطرية بنحو 53 بالمائة من إجمالي الأراضي المذكورة، أو بعبارة أخرى إن الزراعات التي يمكن التحكم بها لا تتجاوز 24.5 بالمائة من المساحة الزراعية، وإن نحو ثلاثة أرباع الأراضي الزراعية العربية لا يمكن التحكم بإنتاجها بسبب خضوعها للتقلبات وعدم الاستقرار في الهطول المطري. وبالنظر إلى عدم استخدام تكنولوجيات متقدمة في معظم الزراعات العربية، فان الجزء الأعظم من المزارع تستأثر بها السعات المزرعية الصغيرة في البلدان العربية منخفضة الدخل مما يبعدها عن مبادئ اقتصاديات الحجم الكبير، وأن عدم استخدامها لا يحقق تعظيماً لحالة الأمن الغذائي، وتستأثر السودان بالمرتبة الأولى من حيث حجم المساحة الزراعية، إذ تتجاوز 25 بالمائة من الزراعات العربية، وتحتل كل من المغرب والجزائر المرتبة الثانية والثالثة بما سعته 14 بالمائة و12 بالمائة من إجمالي المساحة الزراعية العربية على الترتيب، بينما لا تضم دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء السعودية، سوى 3.0 بالمائة من إجمالي المساحة المذكورة في نهاية العقد الماضي.


وقد ترتب على هذا التباين في توزيع العمل بين البلدان العربية أمران غير مرغوبين من وجهة النظر الاقتصادية ـ الاجتماعية، الأول إن وجود كثافة عالية للعمل مقارنة بالأرض الزراعية أدى إلى انخفاض إنتاجية العمل في مجال إنتاج الغذاء مقارنة بنظيره من البلدان العربية ذات الأهمية النسبية المنخفضة للعمل الزراعي، وتشكل محصلة هذا التباين عدم تعظيم الناتج الزراعي على الصعيد العربي، مما يترتب عليه خفض العرض المحلي من الغذاء، والأمر الثاني أن البلدان العربية سواء منخفضة أو متوسطة الدخل تعاني بطالة تجاوزت 22 بالمائة و16 بالمائة على الترتيب في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهي أعلى بكثير من المعدلات الطبيعية لمشكلة البحث عن عمل، الأمر الذي يوجد انخفاضاً في المقدرة الشرائية للغذاء لهؤلاء الباحثين عن العمل، ويقربهم من الفقر والبؤس في المجتمع العربي. في الوقت نفسه تعاني اقتصاديات عربية أخرى إشكالات اجتماعية من الهجرة وانتقال العمل غير العربي، وقد ترتب على معدلات الباحثين عن عمل تشوّهات في بنية الاقتصاديات العربية، في حين يمكن توجيه هذه الاختلالات نحو حالات توازنية أفضل في ظل المتضمنات الاقتصادية التكاملية على صعيد الأقاليم العربية بصفة خاصة، والوطن العربي بصفة عامة.


إن أهمية الموارد وتطويرها تأتي بصفتها واحدة من المصادر الرئيسية في إنتاج الغذاء، من أن البلدان العربية تقع ضمن حزام المناطق الجافة وشبه الجافة، ويتسم العديد منها بندرة الموارد المائية المتاحة، وبذلك ترتفع الأهمية النسبية للأراضي الزراعية التي تعتمد على الهطول المطري إلى نحو 53 بالمائة من إجمالي الأراضي الزراعية العربية، ويقدر مجموع مياه الأمطار التي تهطل على الوطن العربي بما يزيد على 2228 مليارا مكعبا في السنة، وتتفاوت معدلاتها بين البلدان العربية، حيث ينفرد السودان بنحو نصف هذه الكمية، ويعد الهطول المطري أحد المصادر الرئيسية للموارد المالية السطحية والجوفية، إلا أن هذا النمط من الإرواء يتسم بالمخاطرة واللايقين بسبب تواضع وسائل "حصاد المياه"، وقد قدر "معامل عدم الاستقرار" في مجال الهطول المطري بين ما نسبته 30 ـ 50 بالمائة في الزراعة، مما يعرض إنتاجية المحاصيل الأساسية مثل الحبوب إلى تقلبات واسعة بين عام وآخر.


ورغم عمل كل وكالات الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة والمنظمات الأهلية والإقليمية والمحلية، فان نسب زيادة الحاجة إلى المساعدات الغذائية تتصاعد سنويا، ولا أعتقد أن الذين يتابعون الوضع الغذائي في البلاد العربية لا يشعرون بأن الخطر الدائم لشحة الغذاء عربيا على الأبواب، وبكل أمانة أقول هنا: إن مشكلتنا الغذائية عربيا قادمة وبأرجل هذه المرة، لأن الحرب على العرب غذائيا لم تبدأ بعد باستخدام كل الأسلحة، والأمر مؤجل إلى أن تكتمل الحرب عليهم في الصورة الحالية أو تتداخل معها وستهرع جامعة الدول العربية إلى عقد مؤتمرات أو ندوات أو حلقات عمل لمعالجة هذا النوع من الخطر الجديد، ولكن دون أن تتخلى عن إقامة ولائم لإشباع المشاركين في تلك النشاطات مع الحرص على تقديم المقبلات، ويكفينا متاهة في البلاد العربية أننا لم نعقد حتى الآن حلقة قومية لنخب اقتصادية تقدم حلولًا من أجل إعادة تدوير الخطط التنموية بما يلبي الاكتفاء الذاتي الغذائي تماماً، كما لا يمكن لنا أيضا أن نتخلى عن البشرى السارة في تسويق إعلانات عن وصول الثوم المنتجات الصينية إلى أسواقنا وكأن استيراد الغذاء قدرنا.


فالواقع يستدعي وجوب العمل على بناء مجتمعات زراعية أكثر قوة وقدرة بغية الصمود في وجه التحديات العاصفة، ومن الأهمية أن تضع الدول العربية في سلم أولويات مشاريعها برامج لحماية شعوبها من مخاطر التجويع، وخلق مناخ علمي يسهم في تجاوز الصعوبات المحتملة، وذلك عبر تطبيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء والسلع الأساسية الاستهلاكية، ومعالجة التدهور الذي قد يترافق مع الأزمات ويتضاعف مع ارتفاع وتيرة التغيرات المناخية، والزحف العمراني، والنمو السكاني السريع غير المتوافق مع زيادة الإنتاج السلعي الزراعي والحيواني اللازم لتحقيق الاكتفاء الغذائي. وغنيّ عن البيان، يمكن القول إن الدول العربية لديها من الموارد الطبيعية والمالية والبشرية والتقنية ومن التجارب العلمية ما يكفي لتحقيق أمنها الغذائي ويزيد عنها إذا ما تمّ تنفيذ الاستراتيجية العربية للتنمية الزراعية، والتي تقوم على وضع وتنفيذ خطط وبرامج مشتركة لحصر ومسح وتصنيف ورصد الموارد الطبيعية واستصلاح الأراضي، وإقامة شبكات متطورة لرصد المياه السطحية والجوفية والتوسّع في الري الحديث وتبادل الخبرات، فالوطن العربي على أعتاب تحدٍّ جديد يتمثّل في الكيفية التي تضمن توفير الغذاء الكافي للمواطن العربي.


مصطفى قطبي/ كاتب صحفي من المغرب.