مع توقّف المواجهات في ليبيا في منطقة غربي سرت، حيث تحشد القوّات التابعة لحكومة الوفاق في محاولة الدّخول الى منطقة سرت-الجفرة بدعم تركي، ومع تتالي المبادرات السياسية الخارجيّة لمحاولة حلحلة الأزمة الليبية الراكدة، تتزايد حدّة التجاذبات الدّولية والإقليمية حول الملف الليبي.

ترتسم الخريطة الدّولية حول الملف الليبي في شكل شبكي متداخل، يصعب معه تحديد المواقع والمواقف. فلئن كان الموقف المصري مثلا واضحًا بإطلاقه لمبادرة سياسية مغلفّة بما سمي "الخطر الأحمر" العسكري، ولئن كان الموقف التركي واضحًا كذلك في لهجته التصعيديّة المنحازة لحكومة الوفاق وميليشياتها، فإن العديد من المواقف الدّوليّة الأخرى مازالت غير واضحة وتتسّم بالكثير من الضبابيّة.

خارج المناطق الضبابيّة، يبدو الموقف الفرنسي هو الآخر واضحًا في تنديده بالدّور التركي في ليبيا. فقد ندد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يوم الاثنين الماضي، بما قال أنّه "لعبة خطيرة" تمارسها تركيا في ليبيا، معتبرا أنها تشكل تهديدا مباشرا للمنطقة وأوروبا.

وقال ماكرون إثر لقائه نظيره التونسي قيس سعيد في الإليزيه "أرى اليوم أن تركيا تمارس لعبة خطيرة في ليبيا تناقض كل الالتزامات التي أعلنتها في مؤتمر برلين"، مؤكداً أنه قال "الكلام نفسه" في مكالمة هاتفية اليوم مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب". في حين أكد البيت الأبيض، أن الرئيس الأميركي ونظيره الفرنسي اتفقا على ضرورة التوصل لوقف للنار في ليبيا.

وعلى ذكر الموقف الأمريكي يبدو هو نفسه غائمًا كثيرًا، فالرئيس ترامب الذي أعلن العام الماضي مع بداية العملية العسكريّة للجيش الليبي على تخوم العاصمة، ومهاتفته لقائد الجيش الليبي خايفة حفتر، وهو ما اعتبره الكثيرون دعما لمشروع الجيش في مواجهة الميلشيات والجماعات الارهابيّة، يبدو الآن -هذا الموقف الأمريكي- قد تحوّل إلى ما يشبه الحياد من خلال اللقاءات الأخيرة لقيادة الافريكوم مع السراج وقوّاته.

مع ذلك، يبقى الموقف الأمريكي، متشابكًا مع الموقف الرّوسي، وسط الخشية المتبادلة بين الطرفين من هيمنة طرف دون الآخر على الملف الليبي ووسط تنسيق أيضًا رحّب به وزير الخارجيّة الروسي حين عبّر عن ترحيبه بأي دور أمريكي ايجابي للضغط على طرفي الصراع. 

لكن تبقى المواقف الأوروبيّة هي الأكثر راديكاليّة في اتجاه رفض الدّور التركي في ليبي، خاصة الموقف الفرنسي، الذي تحوّل إلى خطاب "حاد" جدًا في مواجهة تركيا ودورها في المتوسّط. الرئيس فرنسي ماكرون في ندوته الصحفية مع الرئيس التونسي قيس سعيد قال أن هذا الموقف (الفرنسي) "يصب في مصلحة ليبيا، وجاراتها والمنطقة بأسرها وأيضا أوروبا". ودعا ماكرون إلى "وقف التدخلات الأجنبية والأعمال الأحادية لأولئك الذين يزعمون أنهم يحققون مكاسب جديدة في الحرب في ليبيا"، في إشارة واضحة إلى تركيا.

وأضاف الرئيس الفرنسي إن "فرنسا وتونس تطالبان معا الأطراف المعنيين بوقف إطلاق النار والتزام تعهدّاتهم باستئناف المفاوضات التي أطلقت برعاية الأمم المتحدة من أجل استعادة الأمن، والمضي قدما في إعادة توحيد المؤسسات الليبية والبدء بإعادة الإعمار لما فيه مصلحة كل الليبيين".

هذه التصريحات الفرنسيّة ردّت عليها تركيا بخطاب حاد هو الآخر، فبعد يوم واحد من تصريحات ماكرون اتهمت تركيا فرنسا "بلعب لعبة خطرة" في ليبيا، مكررةً بذلك الصيغة نفسها التي استخدمها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل يوم واحد.

وأعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية حامي أكسوي "بالدعم الذي تقدمه منذ سنوات إلى أطراف غير شرعية، تتحمل فرنسا جزءاً مهماً من مسؤولية انزلاق ليبيا إلى الفوضى. ومن وجهة النظر هذه، فإن فرنسا هي في الواقع التي تلعب لعبة خطرة". 

** الخطر الأحمر المصري: 

ألقت مصر مبادراتها السياسية بشأن ليبيا ورسمت ما أسمته "الخطر الأحمر" غرب سرت والجفرة، وتركت الأمر للتفاعلات السياسية المحليّة والدّوليّة. فمع الدّعم الفرنسي الصريح للمبادرة المصريّة وتناغم التصريحات في مواجهة الدّور التركي في ليبيا، صدرت المواقف الليبية المحليّة متنافرة من هذه المبادرة. فحكومة الوفاق المدعومة تركيًا تتبنى نفس الخيار التركي الرافض والدّافع نحو التصعيد، بينما رحّب مجلس النواب والجيش الليبي بالموقف والمبادرة المصرييين.

رئيس مجلس النواب الليبي المستشار عقيلة صالح، أكّد أن الشعب الليبي سيطلب رسميًا من مصر التدخل بقوات عسكرية إذا اقتضت ضرورات الحفاظ على الأمن القومي الليبي والأمن القومي المصري، وذلك دفاعا شرعيًا عن النفس حال قيام الميليشيات الإرهابية والمسلحة بتجاوز الخط الأحمر الذي تحدث عنه الرئيس السيسي ومحاولة تجاوز مدينتي سرت أو الجفرة.

وقال في مقابلة مع وكالة "أنباء الشرق الأوسط" الرسمية المصرية، إنه في حال اختراق سرت سنطلب تدخل القوات المسلحة المصرية لمساندة الجيش الليبي، وحينها سيكون التدخل المصري لحماية حقوقها، موضحًا أنه في حال قيام الميليشيات بتجاوز الخط الأحمر سيكون التدخل المصري في ليبيا شرعيًا وبناء على تفويض من الشعب الليبي، وذلك لأن مصر تحمي الأمن القومي الليبي وفي ذات الوقت تحمي أمنها القومي من خلال تأمين حدودها الغربية ومنع تقدم الميليشيات لتسيطر على مناطق تمثل تهديدًا لأمن مصر.

هذه المواقف المتنافرة محليا، والتي تعكس حدّة الصراع الدّولي حول ليبيا، اضع البلاد على فوهة بركان قد ينفجر في أي لحظة. الرسائل المصريّة لم تكن سياسيّة فقط. العنوان الشكلي على الأقل كان عسكريًا، ويتناغم معه بشكل متطابق الموقف الفرنسي بنبرة حادة وعاليّة. في مقابل خطاب تركي تصعيدي، يرفض صراحة وعبر وكلائه المحليين رسم مصر لخطوط حمراء داخل ليبيا.

ولئن لم يتم إلى اليوم، تجاوز هذا "الخط الأحمر" المصري ولم تتجاوز ردود الأفعال حوله مجرّد البيانات الحادة واللهجات التصعيديّة والتحشيدات العسكريّة الاستعراضية والمناوشات الخفيفة ميدانيًا، غير أن انفلات الوضع وعودة المواجهات قد يحوّل اللغة السياسيّة الحادة إلى مواجهات ربّما مباشرة بين قوى دوليّة وازنة فوق الأراضي الليبية، وتتحوّل ليبيا إلى جغرافيا للحرب الإقليميّة التي قد تزيد من تعقيد الملف وتأزيم وضع المواطن الليبي.