ويبدأ نهار من نهارات (سيدي رمضان ), لكن هو نهار مختلف خاص جدا , يوم تُستَنفر فيه كل طاقاتنا ,إنّه يوم (قصعة الصدقة ) , لقد أعدّت أمي كل ما يليق بهذا اليوم ,مايليق بهذه (القصعة ) , أعدّت الشعير والذي كانت توصي أبي عن صفات معينة لجودته , ثم تنشغل بتنقيته وغسله ونشره ,ثم إعداده لكي يطحن , أخبرتنا ذات مرة , كيف كانت تسهر ليلة كاملة وهي تطحنه بالرحى, ولكن وكما تقول :( ماشاء الله توة كل شي ساهل ) , لكن بالنسبة لنّا نحن أسرتها لن يكون يوما سهلا ,لأنّها تريد المثالية والكمال لهذه (القصعة ),(قصعة صدقة) لأرواح موتانا,كي يفاخروا بها حتى أمام الله سبحانه وتعالى .

بين بيتنا القديم (الحوش العربي ) وبيتنا الجديد (دوبلكس عصري ) ثمة اختلاف ,لكن الذي يجمعهما هو شغف أمي وحرصها على التجهيز الكامل لأدوات هذه (القصعة ) , حيث (الفول المدشش)وحرصها على نظافته التامة ,(وزير القرقوش) أو ( القديد ) الذي تجهزه خصيصا لهذه (القصعة ) .

حين كنت طفلة كان الأمر يبهجني , ويمتعني ذهابي بتلك (الصواني ) لكل الجيران , فهذه (القصعة ) ستعمّ بركتها وتفيض, سنبتهج نحن الصغيرات باجتماعنا ومشاركتنا في ذاك اليوم المميزوتلك الدعوات بنجاحنا,,ولأن أبي كان وحيد أمه وجدتي في معيّته , بيتنا (حوشنا العربي ) مكانا لاحتضان العمات وعائلتهن بذاك اليوم المشهود .

ولكنّ سأكبر وسيكون المكان هو بيت عصري , ولكنّ امي لن تنسى (قصعة الجامع) هذه التي كانت في زمن ما خاصة يؤتى بها من الجامع ذاته الذي ستكون له , ولكن تغير الزمان ,وأمي مثل نحلة دؤوب هنا وهناك , ونحن نتبّع أوامرها نساعد وننفذ الأوامر , لتجيء تلك (القصعة )كما تحبّ , وأشهد أن مذاقها له طعم خاص , وأنّ كل التعب يتلاشى حين نرى ابتسامة أمي الواسعة و(القصعة ) تتهادى فوق رأس أخي الكبير ,(قصعة بازين ) تفوح بطبيخة الفول ورائحة زيت الزيتون الذي حمرّت به البصل وأضافت ذاك الفلفل الذي هو أيضا من صنعة يديها الكريمتين .

وجاء زمان مختلف , كل عام نحاول إقناع هذه الأم أن نستبدل (قصعتها ) بنقود أكثر فائدة , ولكنّها تحتج كيف تقابل وجه أحبابنا الذين ينتظرون هذا اليوم ويشمّون رائحة هذه (القصعة) ومازلت أتذكره ذاك النهار من رمضان ,وكيف هي أمي كعادتها 

تتوق للكمال والمثالية وتستنفرنا جميعا , ويا الله على ذاك النّهار وذاك (البازين أو عزلة البازين )كيف كانت كبيرة و(القصعة ) وحجمها الكبيروطبيخة الفول وفرح أمي وهي تشاهدها على رأس أخي متربعة ,... وجاءت تلك (القصعة ) وكانت (عزلة البازين ) كماهي أو ليس كما تشتهي أمي  أن تؤكل كاملة , كانت متربعة في( قصعتها  ) تحيط بها بحيرة تفوح,مجرد لقيمات من هنا وهنّاك ,وكانت فرصتنا لنقنع هذه الأم أن 

نستبدل (قصعة الصدقة ) بصدقة من الدنانير مؤكد أنّها ستصل إلى أحبابها أجرا .

هل غاب فرح من قلب أمي.. أظن ذلك..فليست (قصعة الجامع /الصدقة ) مجرد طعام , إنّها تلك التحية التي كانت تبتهج كل رمضان بإلقائها على الأحباب وتوقن أنّهم سيفرحون بتلك الرائحة التي تصل إلى باب السماء .