الاسماء ليست مجرد بطاقات هوية وأرقام و(صور مكشّرة  لأصحابها رغم الياقات ) بقدر ماهي هوية وانتماء خصوصية وتاريخ  ، بل الأمر يتعدى ذلك إلى حد إنها لها المقدرة على التحليق بنا بين حروفها لجمع سلال تفيض منها  القصص والحكايات .

نحن الليبيين يشملنا كل هذا فأسماؤنا تحمل ابعاد صورتنا  ، ودلالتها التاريخية والجغرافية  ، الأمر لا يحتاج بنا للرحيل بعيدا ، فالثمانينات كانت بداية انحسار فرادتنا بأسمائنا .. فابتعدنا عنها رويدا  ( فيما يعد خسارة كما سقوط السراي ) وكانت بداية  التسعينات وتحديدا مع  ولوج زمن الفضائيات هي بداية فقداننا لها  بشكل شيه نهائي (فما ظل منها الا ما رحم ربي ) .

لذا ومن هناك انطلق بداية توقنا لها  كجيل.. بالتالي  بدأنا اقتفائنا لإثرها قبل أن تمحوه الريح وعواصف العصر ( ولربما كان ما يقودنا  اليها هو الحنين ولا شي سواه  ) .

فـ ( النايرة ..نيسة ..إمباركة ..حلومة ..فطومة ..خدوجة ..أمدللة ..الساكتة ..وذهيبة وفجرة ..وأم السعد وأم الخير وغيرها ) .. كلها اسماء ليبية لا يشاركنا فيها أحد ، الأمر ليس تعديا ولا أنانية لكنه يعود بي لحكاية الوجوه فلكل منا وجه ( يقابل به ) مهما اقتربت الأوصاف أو تباعدت ...فهناك خاصية تشير لأحدهم بالوصف دون الاخرين ..(كذلك هي اسماؤنا ) .. و ما أدونه هنا هو بعض الإضاءة الإضافية على الدالة التي تشير إلينا ويعرفنا من خلالها الجميع ، في حين نادرا ما جلسنا لنتمتع ونتمعن في جمال معانيها ، لأن وجوهنا حازت كل ذلك الاهتمام ..

سؤال دائما نتذكره .ولكننا دائما ما نتهرب من الإجابة عليه  

لما سميّنا بهذه الاسماء بالذات لما خصنا اهلنا بها ؟؟...هذا السؤال لازمة ..نتقن ترديدها لكننا لا نلقي بالا بالإجابة عليه

ولكي نكون اوضح في الصورة ولا نخرج من ضمن الإطار العام ، وكي لا تتشعب الاسئلة  فنتوه ويفلت السرد الذي نتحكم به لنوتات هذه المادة ، لنبدأ أولا بأسماء الإناث وهنا الامر غير مقصود بقدر ماجات به الصدفة ، فالذكور اكثر أنفة بل ربما يستفزهم (استحضار أسماؤهم لموائد النقاش والإجابة عنها ) في حين نعلم كلنا أن رومانسية البنات تدفع بهن للسؤال عن تفسير الاحلام ، فما بالك عن  معاني .. أسمائهن ..ثم أن العادة جرت على أن النساء (اولا ) دائما .

ايضا أنوه لكون هذه القراءة ليست (غاطسة ) بقدر ماهي (سابحة ) فهي مجرد إقتراب صحفي لأجل استدرار ما أمكن حول اسم العلم الليبي والأنثوي مبدئيا كما أشرنا ، خاصة وانه يكاد يفنيه العصر ببدائل لا تمت لنا  بصلة  ( لا نرفضها لكن لا نسمح لها باجتثاثنا  من جدورنا )  كذلك لكونها  أسمائنا (نحن) مصدر هويتنا وانتمائنا ولم تغادرنا فنحن( بالذات ) من جيل لازال يتذوق طعم حلاوتها في فمه ، .

ولنبدأ خوضنا هذا  بالأسماء التي لها بعدها الديني مثل (خديجة ) ..على اسم السيدة خديجة رضي الله عنها ...وايضا عائشة على أسم (عائشة أم المؤمنين  ) فنجد إنها وأن كان الأصل عام  ( ويتداول عربيا واسلاميا ) لكن  الفروع والمشتقات عنها (ضمن جغرافيتنا )  كلها ليبية و بخصوصية محلية وثم توظيفها محليا فنجد ( خدّوج ،خديّج ،خدّوجة ،وعوّاشة ، وعوّيشة ..كذلك الأمر وبنفس السياق مع فطّوم وفطيّم وفطّومة ) والثلاث الأخيرات مشتقات من أسم السيدة فاطمة رضي الله عنها .

(خديجة ) كما جاء في كتب اللغة هو مؤنث (خديج )وهو طفل الناقة والواو في خدّوج  هو دالة محلية..بل يكسب ثقته المحلية اكثر مع  (عوّاشة ومريومة وحلّومة وفطّومة  وغيرها من المتشابهات ) والتي لازمها (الشّد ) في اواسطها ،وهو هنا رسمها المحلي ووسمها بل ونغمها الخاص .

مبروكة ..اسم له إيحاءات صوفية ، وإن كان يسميه غيرنا بالشمال الافريقي الا أن اشتقاقاته لنا وحدنا كـ (إمبّاركة وبريكة ) وكثيرا منا يعرف أن  ( مذكر هذا الأسم ..مبروك ..) هو من اشتقاقات البرًكة والتي نتداولها شفويا  ونحن نتبادل التهاني بالمناسبات .

و الاسم (مبروكة ) جاء من بروك البعير ،كما في أصل اللغة ، والذي يعني تباثه واستقراره ومنه سميت ( بركة الماء  ) مما جعل أسمنا يتخطى معناه الأول ليصل الى معان اخرى منها النماء والزيادة.. نقول   ( بارك الله فيك ) بمعنى زادك من خيره ..ومبروك اسم مفعول للبروك واضيفت تاء التأنيث  للمؤنث .

وإن كان اسم (مبروكة ) نتشارك فيه مع أخوتنا بشمال افريقيا الا أن كونه مشاعا عندنا يجعل له عبقه الخاص بنا ، وفي هذا الباب ايضا نَحسب أسماء مثل (عزيزة ..ونفيسة ..وفضة ).

وعلى ذكر الفضة ..كليبيين نستعمل كثيرا من اسماء المعادن الثمينة   لأسماء البنات فنسمي من اصل الذهب ( ذهبة وذهيبة ) وايضا (تبرة ) من التبر ..وعلى الفضة كما اسلفنا نسمّي (فجرة ) .أما  (نفيسة ) فمن نفاسة المعادن وشدة لمعانها ،وبالمصادفة هو عربي قح .

والتصغير في ( ذهيبة وقميرة وعجيلة وعسيلة ) هو مخرج موسيقي آخركـــ( الشدّ ) في المجموعة الأولى ، وهو ايضا له نغم  أقواس مدننا وابوابها وشبابيكها ( ذات نصف الفتحة )  نغم تطرب له الأذن وتستشعر شعبيته

و( قميرة وقمّرة  وقمر وشمس وشميسة ونجمة ونجيمة ونجمية  ) أسماء سماوية كونية ربما لها امتداداتها  للديانات العصور القديمة ( المنتهية )  وعلاقتها بعلوم الفلك حينها ، إلا أن فيها من السمو والرفعة ما يعطي للمرأة الليبية مكانتها وعلو شأنها ومع أن ..شمس وقمر ..مؤنث مجازي إلا أن باقي المشتقات تم تأكيد ثانيتها بالتاء المضافة .

ومن النور والاضاءة وفتيل النور بليالي العائلة الساهرات في ذاك الزمن الجميل  الرتيب الذي سبق وصول الكهرباء  سموا بناتهن ( النايرة و الضاوية ونورية ) وما تبعها .

وعلى وزن (النايرة ) سمو (الزايرة ) وهو أسم من أيام القوافل، أيام كانت تطول راحتهن  بالواحات فتحدث حالة الولادة اثناء فترة الزيارة والامر استمر حتى لما بعد زمن القوافل فإن حدثت الولادة خارج البيت أو اثناء فترة استضافة يلجئون لذاك الاسم عرفانا منهم لبيت مضيفهم أو تأريخا لحدث الولادة وإشارة له ،وهذا ما سنجده لاحقا في أسماء المناسبات  ..وربما  سموهن  كذلك من باب قولهم القديم (البنت ضيقة في بيت اهلها )  وتفاؤلا بزواجها المبكر ودعاء لها للتعجيل بزواجها .

(في القديم لم يكن حتى الرجل يحظى بفرص للعمل ،فما بالك بحظ له بالتعليم ،فكن البنات أبئس حالا وباستعمال هذه المسطرة لهكذا قياس  .. فنجد انه  كان زواج البنت عندهم فأل خير لأهلها بل حتى باب رزق ، يظل لكل زمن حكمته ، وكل حكمة تقود لطريق ، اختلفنا أم اتفقنا معها فالتاريخ يرصد الحدث في حينه وفي سياقه وليس خارجه أو بعيدا عن ظروفه ).

وعلى ذكر  اسماء المناسبات سموا (ميلودة وعيادة ) وذلك اذا قدمت الوليدة اثناء احد هاتين المناسبتين ، أما إن جات الوليدة والأسرة في فترة انشغالها  بموسم النسيج على ( المسداة ) وصنع حاجيات البيت من الأنسجة  فحينها يسمونها ( سدّينة ) ..كم كانوا مميزين في استثمار فعلهم اليومي لصالح سجلات البلدية !! .

ايضا سموا ( النايبة ) وهذا دفع بالوليدة وتشريف لها ، وبمثابة أعلانا لكونها  ستحمل من صفات امها النبيلة  الكثير ، وإنها ستكون في مقامها ورفعتها ذات يوم .. وعادة ما يكون الأب صاحب هذا الاسم فهو ( يعلن محبته واعتزازه بزوجه ) وبتحايل ( يؤجر عليه ) باختياره لهذا الاسم ( لطفلته ) ويهدي لوالدتها من خلاله باقة ورد ورسالة محبة ( في زمن لا ورد فيه ولا كتابة فيه ومن غير مهرها لاتعرف المرأة  في ذاك الزمن عن الهدية شي وما يأتيها من زو جها تقول عنه عطاني ولا جابلي الحاج   ) . أما لفظ المحبة فلا مكان له إلا في نوادي الشعراء الشعبيين وهو نادي رجالي قح  ...وهذا استنتاج  يؤخذ منه ويرد عليه ، اكثر منه حقيقة  كاملة ، لكنه بالمجمل لا يخلو من حقيقة لها من الماضي أثره  ومن الحاضر عبقه ونغم  ( لعازف متوحد )  يجلس بين سالفتي بئر  .

كذلك من اسماء الوجاهة والتي يختارها الأب مفخرة واعتزاز بقدوم أبنته،وهذا امر جار من القديم ، ويخص عادة  وجهاء ورؤوس وشيوخ القبائل تسميات مثل (البيّة ..والشريفية.. واللّاهم  ) وهي من اسماء الوجاهة ( للبنت ولأهلها ) وعادة ما يخص هؤلاء الوجهاء  أبنتهم هذه حتى بالمشورة وتقديمها للرأي حتى في مجاميع الرجال ، لكنه امر خاص وبحدود لا يتم تجاوزها .. كذلك الامر يخص الرجل الذي يكتمل عقد اولاده ، بقدوم فتاة فيكرمها ويعطيها مكانتها باختيار مثل هذه الأسماء  ليضعها كـ (جوهرة بين عقد الألي ) بل يتعدى الأمر اختيار الاسم  فينالها من أبيها  ومن باقي العائلة  نصيبها  الإضافي من العواطف والاهتمام  .

وللأمر هنا وجه مغاير ومعاكس تماما ..ففي حين يكثر عدد البنات عند احدهم ولا( ولد ) له  يسمي الأخيرة ب (حدّهم ) وواضح أن الاسم مأخوذ من (حدّ) الأرض التي يتشاركونها في المرعى  فاطراف ارض البدوي  .. آخرّها .. ويسمونه ( حدّها ) ومنه اشتقوا الاسم ، وهو يتضمن رجاء بل دعاء لله له بمعنى (كفانا  بناتا يا ربي).. فنحن نتمنى عليك الولد .

ومن باب التضرع ايضا ،نجد أن العديد من الأسماء جاءت في بابه وعلى منواله فمثلا  في استشراف قدوم الخير وحين تكون (مواسم الحصاد ) على عتبة  الميلاد ( التاريخ والمناخ يثبت إن أغلب مواسم الحصاد كانت  قديما في اغلبها عجافا  )  فتسمى الوليدة تيمننا ودعاء   بــ ( أم السعد وأم الخير وام العز ) فتكرار النداء على البنات الحاملات لهذه الاسماء  يحٌمل الاسماء صيغة أخرى وهي صيغة التضرع والدعاء بنجاة المواسم من البرد والجراد والآفات ( وأن يكون العام صابة )*.وربما من كل هذا جاء في المستحدث اسم ( رجاء ودعاء واماني ) وغيرها.

ومن اصل" نجاة " سموا بناتهم ( نجِيّة ..وناجّية ..ونجيوة ) ومن "مُنى " ..(مّنى ..ومنيوة ) والاولى تنطق بــ (ألفة ) الألف وتكتب بدونه ومن اصل "حُواء " سموهن (حوّاء وحويوا ) وتكرار الواو في الثانية  لديمومة صداه في سمع المنادي لتستمر حميميته  ورجع محبته ..

وهكذا دواليك كما في العديد من الأسماء الأخرى ( قس على ذلك فيما تبقى )  نجد أن الأمر بمجمله لا يشكل قطعاً مع اللغة الفصحى بقدر ما يشكل معها  (تقاطعا يعطي للأمر شكل الزخرفة  ) فمثلا ما تفعله إضافة الــ (الياء والألف والواو) مع ما ذكرنا من أمر ( الشدّة ) (وكأنه امر لعصى ساحر خصتها السماء  بيد نحوي ) وكيف يتم تبادل الأدوار بينهما ( بين الاصول في الفصحى والتصاريف وتخفيف الأحمال عنها في العامية ) وفي جدل واضح وعلني  ..تدور كل فصوله ما بين اصل اللغة وما تفرع منها لصالح اللهجة المحلية ( الأمر له صيغ واشكال اخرى في اللهجات الأخرى فالكل يبحث عن وجهه ليجتاز به عتبة الباب)...

بعد قليل  ماسردنا هاهنا نصل لنتيجة حتمية  تفيد أن للهجة الليبية مذاق خاص ،ووقع نغم  لعازف ناي منفرد ووحيد يعطيها من البعيد نغمها وسيماتها وتفردها  ،فإضافة لما فات  نجد ايضا  الإبداع  في التصرف بصيغ التصغير المبالغ فيه احيانا ، بل يصل الأمر الى حد تصغير التصغير، وهذا ما يؤكد ان الليبيين لم يسعوا لهدم الصلة مع اللغة الأم ،بل اوغلوا فيها غوصا لغرض استخراج ما امكن من خواصها المنفردة من مكامنها ، والأمر لم يأتي نتيجة جهد مثقف او علي الأقل مقصودا  ، إنما جاء عفوا وفطرة  بداوة وهذا ما اضفى على (اللفظ ) المحلى قدرته على إيصال المعني مع خاصية التطور والمرونة ..

( الأمر هنا  ليس بالمستحدث اذ أنه حتى في القديم كان أغلب علماء اللغة يرحلون للبادية لتعلمها من منابعها واخذها من منابتها واصولها ) *