في واقع ميزه الانفلات الأمني وغياب سلطة الدولة المركزية، عاشت ليبيا منذ العام 2011، وضعا صعبا على جميع الأصعدة سياسيا وعسكريا واقتصاديا. ولكن الأسوأ من ذلك كان سقوط البلاد ضحية للإرهاب الذي استغل تلك الفوضى ليؤسس لنفسه موطئ قدم في البلاد لتتحول ليبيا في ظل تلك الظروف إلى جحيم يعيشه أهلها وخطراً يخشاه جيرانها.

وفي ظل هذا المشهد القاتم، سيطر على مقاليد الأمور في البلاد عدد كبير من الميليشيات المسلحة، وهو الأمر الذي قاد قوى خارجية إقليمية ودولية إلى الحراك والتدخل في ليبيا. وفي حين يعزو التدخل الأجنبي تورطه في الساحة الليبية لمحاربة الإرهاب، يرى المراقبون أن المصالح الغربية في ليبيا كونها دولة استراتيجية لا تبعد عن إيطاليا أكثر من 200 ميل بحري، تعد من الأسباب الرئيسية لهذا التدخل وعلى رأس هذه المصالح تتربع الثروة النفطية.

وتتصارع أجندات القوى الكبرى فيها، فكل دولة لها رؤية مختلفة، لكن الهدف واحد وهو البحث عن تدعيم مصالحها في البلاد خاصة تلك المتعلقة بمنابع النفط وموانئ تصديره، وهو ما أشار إليه المبعوث الأممي غسان سلامة، في تصريحات نقلتها صحيفة الخليج، من أن ليبيا بلد "يسيل لها اللعاب" بسبب ثرواتها الطبيعية، وموقعها الجغرافي، وعمقها الإفريقي، بما يجعل التنافس الأوروبي قائماً ومستمراً".

البداية كانت مع تدخل قوات الناتو مدعومة من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا لإسقاط نظام العقيد الراحل معمر القذافي واغتيال الاستقرار والأمن في هذا البلد العربي. حيث اندلعت الصراعات السياسية وأفضت هذه الصراعات إلى حروب مسلحة بين فصائل مختلفة متعددة الأذرع العسكرية، مما فسح المجال لأطراف إقليمية ودولية بالتدخل في الشؤون الليبية وإذكاء الصراعات الدائرة، وإعادة رسم خريطة التوازنات طبقاً لتقاطع المصالح بين الدول والأطراف التابعين لهم.

فالأطماع الدولية والتدخلات الخارجية في ليبيا لم تتوقف يوما، وذلك لموقع ليبيا القريب من أوروبا ومن جهة أخرى لحجم الثروات النفطية والغازية الكبيرة التي تزخر بها البلاد المحاطة بالنيجر ونيجيريا والسودان. لكن هذه التدخلات أخذت شكلا أكثر تعقيدا بعد أحداث فبراير 2011، بتباين السياسات بين أمريكا والدول الأوروبية والعربية، وذلك بهدف تأمين مصالح كل طرف، وطمعا في الثروات دون مبالاة بمعاناة الليبيين.

الأطماع الأوروبية عكستها بصورة واضحة ردود الفعل الإيطالية على المبادرة الفرنسية حول الأزمة الليبية في يوليو 2017، حيث تصاعدت حالة الامتعاض والسخط في الأوساط الإيطالية عقب الإعلان عن المبادر الفرنسية، وسارعت إيطاليا بالدفع باتجاه دخول قواتها البحرية الايطالية المياه الإقليمية الليبية، تحت ذريعة كبح جماح المهاجرين عبر البحر الأبيض المتوسط، ودعم خفر السواحل الليبي، وأقر البرلمان الإيطالي خطة التدخل العسكري في المياه الليبية بناء على طلب من رئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراج.

وفي 17 يناير 2018، وافق البرلمان الإيطالي، على زيادة عدد القوات العسكرية الايطالية في ليبيا في مؤشر على نزعتها الاستعمارية ورغبتها في حماية مصالحها في مستعمرتها القديمة. ويجمع المراقبون على أن الهدف الحقيقي وراء اهتمام إيطاليا بليبيا هو حماية شركة إيني النفطية والحفاظ على بقائها للسيطرة على تجارة النفط داخل ليبيا بعيدا عن فرنسا وبريطانيا.

أما فرنسا فقد سعت لمد نفوذها نحو الداخل الليبي منذ بداية الأزمة وكانت أثار الدور الفرنسي واضحة على الساحة السياسية والعسكرية. ورغم أن تصريحات المسؤولين الغربيين تنفي أي تواجد عسكري في ليبيا، لكن صحيفة "لوموند"، نشرت في 24 فبراير/شباط 2016، تقريرا يفيد بوجود قوات خاصة فرنسية في الشرق الليبي، تقوم بعمليات سرية، مما استدعى قيام وزارة الدفاع الفرنسية بفتح تحقيق على خلفية شبهة إفشاء أسرار عسكرية.

ثم جاء إعلان الرئيس فرنسوا هولاند، في 20 يوليو/تموز 2016، مقتل ثلاثة جنود فرنسيين كانوا يقومون بعمليات استخباراتية في تحطم مروحيتهم في بنغازي شرقي ليبيا، كأول إقرار رسمي بوجود قوات فرنسية في ليبيا، وهو الأمر الذي أكده في اليوم ذاته، المتحدث الرسمي باسم الحكومة الفرنسية، بشأن وجود قوات خاصة لبلاده هناك.

وفي أعقاب انتخاب إيمانويل ماكرون رئيسا جديدا، تصاعد الاهتمام الفرنسي بليبيا حيث اتخذ ماكرون القضية الليبية في صدارة جدول أعماله في مجال السياسة الخارجية. وبدا واضحا من خلال الاتفاق الذي رعته في ربيع 2017 بعد اجتماع رئيس حكومة الوفاق فايز السراج، والمشير خليفة حفتر، أنها تبحث عن نفوذ فقدته في المنطقة. وبحسب المراقبين فإن فرنسا مأخوذة في ليبيا بمطامع تاريخية في الجنوب ويمثل تدخلها رغبة في الحصول على مزيد من المكاسب.

من جهتها، سارعت أمريكا لمد أذرعها في الساحة الليبية، حيث كانت على رأس قوات حلف الناتو التي قصفت ليبيا في 2011. وفي أعقاب أحداث فبراير، باتت من أبرز القوى الدولية حضورا في الساحة الليبية على الصعيد العسكري. ففي مطلع شهر أغسطس 2016، شنت القوات الأمريكية هجمات جوية على ما وصفته بمعاقل تنظيم "داعش" في سرت بليبيا بطلب رسمي من حكومة الوفاق الوطني الليبية لتكون تلك العمليات العسكرية الأمريكية هي الأولى التي يتم تنفيذها بالتنسيق "المعلن" مع حكومة الوفاق.

وبالرغم من التزام الإدارة الأميركية، منذ وصول دونالد ترامب للرئاسة في البلاد، بعدم التدخل في ليبيا، فإن الغارات الجوية التي شنها سلاح الجو الأمريكي، في 17 نوفمبر 2017، والتي استهدفت عددا من عناصر تنظيم الدولة في الصحراء الليبية، بحسب قناة فوكس نيوز الأميركية، علاوة على تأكيد الجنرال توماس والدهوسر، قائد القوات الأميركية في أفريقيا، خلال مؤتمر صحفي، في 24 مارس 2017، إن "هناك قوات خاصة أمريكية محدودة العدد في ليبيا، وتتولى عمليات استخباراتية بطائرات استطلاع دون طيار انطلاقا من قاعدة في تونس"، كشفت عن إصرار أمريكي على التواجد في الساحة الليبية.

على صعيد آخر، مثل التحاق روسيا بالصراع الليبي منذ نهاية عام 2016، دافعا لمخاوف غربية خاصة أميركية من طبيعة الدور والحضور الروسي في ليبيا ومحاولات تأثيره على سير العملية السياسية والعسكرية في البلاد. وكان المبعوث الأممي، غسان سلامة، أشار إلى أن هدف روسيا الأساسي في ليبيا هو العودة إلى السوق الليبية لأنَّها كانت مصدرًا أساسيًّا للسلاح، وتملك هناك عقودًا بملايين الدولارات، تعطلت منذ عهد معمر القذافي.

وأكد سلامة أن العلاقات "غير السوية" بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكيّة تؤثر على الوضع الليبي. وتصاعد الخلاف الروسي الأميركي حول ليبيا بعد أن رفضت روسيا، في مارس 2017، مقترحاً أميركياً بتعيين ريتشارد ولكوكس مبعوثاً أممياً جديداً خلفاً للمبعوث الأممي السابق مارتن كوبلر الذي لا يتمتع بتوافق وقبول من كل الأطراف السياسية في ليبيا.

وكما كانت ليبيا مسرحا لتدخلات مباشرة من عدة دول، خيرت دول أخرى التدخل من خلف الستار، على غرار تركيا وقطر والسودان، التي سارعت إلى دعم الجماعات الإسلامية بالمال والسلاح. وقالت تقارير إعلامية إن حجم التمويل الذي وصل من الدوحة إلى الجماعات منذ 2011 بلغ حوالي 750 مليون يورو. كما دعمت شخصيات عرف أغلبها بانتمائها للتيار الإسلامي كعلي الصلابي القيادي في جماعة الإخوان المسلمين وعبد الباسط غويلة وعبدالحكيم بالحاج كما وضعت يدها على دار الإفتاء التي يترأسها المفتي المعزول الصادق الغرياني الذي عرف بفتاواه التحريضية ضد الجيش الوطني.

من جهتها مثلت السودان ترانزيت لنقل عناصر الجماعات الإسلامية المتطرفة. وكانت قيادة الجيش الليبي قد اتهمت في أكثر من مرة السودان بدعم هذه الجماعات. وكان آخرها ما ساقه العقيد أحمد المسماري المتحدث باسم الجيش، خلال مؤتمر صحفي عقده بمدينة بنغازي، في أغسطس 2017، حيث أكد إن لديهم "محاضر اجتماعات سرية لقيادات الجيش السوداني وبحضور البشير فيها تآمر واضح مع قطر وإيران لدعم الإرهاب في ليبيا ومصر والسعودية. مضيفا أن هناك مصانع للسلاح والذخيرة في السودان تملكها قطر وإيران ومنها يتم توريد السلاح إلى الجماعات الإرهابية في ليبيا ودول أخرى.

أيضا أكدت وقائع وأدلة التورط التركي في دعم الإرهاب حيث ظهرت التقارير المتعلقة بالدور التركي المتنامي منذ يناير 2013، عندما كشفت عن شحنات أسلحة صادرة من تركيا باتجاه ليبيا في مناسبات متكررة. وتواصل مسلسل ضبط السفن التي تحمل الأسلحة في طريقها من تركيا إلى ليبيا وآخرها كان في يناير الماضي، عندما ضبط خفر السواحل اليوناني، سفينة شحن تحمل مواد متفجرة خلال إبحارها من تركيا إلى ليبيا.

ومؤخرا أدان رؤساء المجالس والبرلمانات العربية خلال المؤتمر الثالث للبرلمان العربي الذي عقد، بمقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية في القاهرة، التدخل التركي في بعض الأقطار العربية خاصة في ليبيا. وقوبلت هذه الإدانة بتحفظ سوداني وقطري على كل ما يدين تركيا ويأتي هذا في إطار التقارب الثلاثي الذي لم يعد خافيا.

وفي ظل سنوات الفوضى والدم التي مرت عليها منذ أحداث العام 2011، يرى مراقبون أن ليبيا كانت ضحية أكذوبة كبيرة لا تقل عن أكذوبة أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة، والشعب الليبي هو الذي دفع ومازال يدفع الثمن من أمنه واستقراره وثرواته النفطية الهائلة التي باتت في مرمى الأطماع الخارجية.

لا زال التدخل الأجنبي في ليبيا يعقد مشهد الصراع بين القوى في الساحة ويطيل من أمده، ولا شك أنه تدخل لم يحظ بتأييد ليبي شعبي بل يواجه معارضة واسعة وتنديدًا مستمرًا، وتبقى رهانات محاولات انتقال ليبيا من الفوضى إلى الاستقرار رهينة قدرة الليبيين على مواجهة التحديات والتصدي للتدخلات الخارجية الهدامة والتمسك بوحدة وسلامة التراب الليبي وتعزيز مؤسسات الدولة ومنها جيش وطني موحد قادر على استعادة السيادة الليبية.