تعرف القرى البعيدة جنوبا في ولاية تطاوين وضعا تنمويا قاسيا نظرا لتواجدها داخل الصّحراء على الحدود بين تونس وليبيا و لعدم وجود برامج جدّيّة وتمويلات كافية لإيصال مقوّمات التّنمية إليها، حسب ما يبدو للملاحظين. وتتجلى هذه الصّعوبات للعيان مع بداية دخول كل موسم حرارة، حيث لا تلبّي الإمكانيّات المتوفّرة احتياجات سكّان المنطقة فيبقوا مفتقرين للحدّ الأدنى من متطلبات العيش مثل الماء والكهرباء وخدمات الصحّة الأساسيّة.

فبلدة مثل البير لحمر الموجودة على بعد 15 كيلومترا عن مدينة مدنين و 30 كيلومترا عن مدينة تطاوين تشتكي محدودية خدمات قطاع الصحة وكذلك من النقص الكبير والفادح في شبكات الرّبط بالماء الصّالح للشّراب وقنوات التّطهير والصّرف الصحّي فالبرامج المحدثة لم تراع التوسع العمراني لأحياء البلدة. ويقول المتقاعد السّبعيني صالح بن عبد السيد : "التّطهير اقتصر على الشبكات القديمة، في حين يجد سكان الأحياء الجديدة صعوبات كبيرة في الإيصال بشبكة المياه والتّطهير. لذا، تكثر الرّوائح الكريهة والحشرات في هذه الأحياء في الصّيف مع اشتداد الحرارة".

ويضيف هذا المتقاعد الّذي فضّل الرّجوع إلى قريته على العيش في العاصمة : "سكّان بير الأحمر  ال9000 منسيّون يتذكّرونهم في الانتخابات فقط كأرقام فالمستوصف تنقصه التّجهيزات والأدوية والمعهد الثانوي لا يدرّس فيه إلّا أبناء المنطقة ونتائجه ضعيفة. فلولا قربنا لليبيا واشتغال شبابنا في تجارة الموادّ المهرّبة وخاصّة البنزين لضربت المجاعة المنطقة ".

رمضان شاب ثلاثيني اعترضته أصوات الكثبان أمام كمّ هائل من صفائح البنزين في مدخل بئر الأحمر من جهة تطاوين. يقول متحسّرا :"لم أجد عملا آخر أكتسب منه وأعيل به أسرتي بعد أن أتممت دراستي الجامعيّة في التّصرّف في صفاقس منذ أكثر من عشر سنوات". يحكي رمضان كيف اشتغل إثر تخرّجه بأجر لا يتعدّى 400 دينارا (170 يورو). "هو مبلغ لا يكاد يفي بإيجار شقة مشتركة والعيش البسيط ولكنّني قلت في نفسي بأنّها البداية وسوف يرفعون في أجري"، هكذا تصوّر ولكنّ الواقع لم يكن كذلك فلم يضف له المؤجّر شيئا بل لم يمكّنه حتّى من التّغطية الصحّيّة والضّمان الاجتماعي. عمل رمضان كان بالتّالي غير مصرّح به وغير مربح فلماذا الاغتراب؟

أبو هذا الشّاب، الحاج محمّد، أقنع ابنه بالرّجوع إلى مسقط رأسه وممارسة التّجارة وهو اليوم سعيد بهذا القرار. ويوضّح رمضان :"صحيح أنّني لست في مكتب مكيّف ولكنّني أربح أسبوعيّا على الأقلّ أجرتي الشّهريّة السّابقة ويحدث أن أتحصّل عليها في عمليّة تجاريّة واحدة".

وضع رمضان ليس عامّا في البلدة الّتي تسيطر عليها البطالة في أوساط الشّباب و ترى في أعينهم نظرات البؤس والحرمان بسبب المشاكل التي يتخبطون فيها منذ سنوات طوال دون التفات الجهات المعنية لهم. فلا يكفي أنّ منطقتهم تفتقر لأي مرفق ترفيهي يتوجهون إليه، لا  يجدون حتّى مرفق صحّي جيّد التّجهيز يتوجّهون إليه للرّعاية الصحّيّة رغم الحاجة الملحة له، لاسيما في فصل الصيف، وهو الفصل المعروف بالانتشار الكبير لحشرة العقرب التي تعرف بالمنطقة بلسعاتها المميتة في أغلب الأحيان وهو ما جعل السكان يعبرون في أكثر من مناسبة عن غضبهم وتذمرهم الكبيرين جراء هذه الأوضاع.

ويبدو أنّ السّنوات الأخيرة زادت الأوضاع تعقيدا. ويفسّر أحدهم الظّاهرة وهو خرّيج كلّيّة الحقوق بصفاقس منذ 15 سنة. عمر لم يفلح في الحصول على وظيفة حكوميّة والتجأ إلى فتح دكّان لبيع الموادّ الغذائيّة. يقول عمر : "لقد تضرّر سكّان الجنوب كثيرا من الحرب في ليبيا فالمدن اللّيبيّة كانت تمثّل متنفّسا كبيرا للتّشغيل بالنّسبة لنا. فأبناء بئر الأحمر الّذين يشتغلون بليبيا أكثر من الّذين يشتغلون بتونس فشبابنا هم الّذين يمسكون ورشات الميكانيك والحدادة والنّجارة في زوارة وصبراطة والزّاوية وغيرها من مدن الغرب اللّيبي حتّى طرابلس".