كنّا في مركز احتجاز للمهاجرين في طرابلس، ووصلنا إلى باب كبير مغلق. كان مقفلا بشكل مثير للإعجاب. شخص ما تمتم بأنه لم يكن لدي الوقت للنظر في الداخل. ولكنني شعرت على نحو ما بأنني مرغم على فعل ذلك.

في الخارج وتحت الشمس ، كنت لوحت بيدي لحوالي 100 مهاجر - معظمهم تقريبا من غرب أفريقيا: غينيا كوناكري ونيجيريا. كانوا جالسين في صفوف على خرسانة ، رؤوسهم في أيديهم. الرجال في مجموعة واحدة، وحوالي نصف دزينة من النساء في مجموعة بعيدة نسبيا. كان بعضهم هناك لعدة أشهر، وكانوا يريدون العودة إلى ديارهم.

قال أحدهم بالفرنسية :"أشعر بالجوع" فيما قال آخر..:"ليس الوضع جيدا هنا". وعندما قلت لهم إنني وزير الخارجية البريطاني راحوا يهتفون ويصفقون، لأن أموال المملكة المتحدة تساعدهم على إيجاد مخرج ، وذلك بفضل (على الأقل جزئيا) دافعي الضرائب في المملكة المتحدة ، حيث أصبحت هذه المجموعة على وشك أن توضع في حافلات لتنقل إلى المطار.

وحسب قولهم، فإنهم كانوا يعتزمون أولا الذهاب إلى أوروبا الغربية. وكانت خطتهم الوصول إلى "فرنسا، ألمانيا، وبريطانيا". ودفعوا للمهربين 500 1 يورو لكل واحد منهم - وهو مبلغ ضخم، أكثر من أجرهم السنوي، قبل أن يتم اعتراضهم، واحتجازهم، أو إنقاذهم، حسب وجهة نظركم - وإرسالهم إلى هناك.

بفضل الاستثمار البريطاني أصبح هذا المركز يبدو صحيا ولو بشكل سطحي على الأقل. عايننا المراحيض الجديدة، وعلى الرغم من أنه لم تنته الأشغال به بعد، شعرنا بأن هناك جهدا يجري بذله. ولكن الآن وصلنا إلى سلسلة من الأبواب المغلقة، وشعرت أن علي أن أفهم حجم المشكلة. "فقط ألق نظرة، لا تذهب " سمعت صوتا ينصحني. لكن دخلت.

كان الوضع مثل مشهد من جحيم حياة السجن في العصر الفيكتوري. في المجموعة الأولى من الغرف وضع رجال مجرمون - وجميعهم شباب أفارقة من دول جنوب الصحراء الكبرى تم اعتقالهم من قبل السلطات الليبية (مجموعة من الميليشيات)، بسبب بيعهم المخدرات أو بسبب جنح أخرى.

لا عجب أنهم ينظرون إلى الشمال، إلى الازدهار الهائل في قارتنا الأوروبية المسنة - حيث تراجع عدد السكان فعلا (من المتوقع أن ينخفض من 740 مليون إلى 707 مليون بحلول عام 2050).  

وبطبيعة الحال، يجب ألا نوقف هؤلاء الناس ، ولا طموحهم وشجاعتهم في السعي إلى حياة جديدة. في كثير من أوروبا غير المنتجة سيكون الكثير من المهاجرين موضع ترحيب. ولكن سرعة وحجم ما يجري هي بالتأكيد غير مستدامة.

وإذا ما استمر مثل هذا، سنرى سلالات اجتماعية متجددة في أوروبا، وعواقب سياسية وخيمة. وعلينا أن نساعدهم على البقاء في بلدانهم، وإيجاد فرص عمل، وعلينا أن نساعد الاقتصادات الأفريقية على النهوض. (إنه أمر مذهل، أنه بعد 40 عاما من وصولي لأول مرة إلى دول جنوب الصحراء الكبرى، لا توجد تقريبا أي صناعة صناعية حقيقية خارج دولة جنوب أفريقيا).

 علينا أن نعالج الجذور الاقتصادية لأزمة الهجرة. ولكن يجب علينا أيضا أن ندرك أن هناك مشكلة خاصة على السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وهي أزمة سياسية أعطت الفرصة للمهربين.

تلك الأزمة هي ليبيا. وانطلاقا منها تم الخروج الهائل للمهاجرين في رحلاتهم نحو أوروبا، وما لم نوقف الجرح، فإن نزيف البشرية سيستمر.

بالنظر إلى ليبيا، فإن المكان هو في الواقع عبارة عن فوضى - مبان نصف منتهية، وسيارات محترقة، والمناظر الطبيعية بأكملها تعاني من القمامة البلاستيكية والأكياس السوداء الممزقة التي ترفرف بفعل الرياح كما لو كانت عصافير على كل سياج.

الفوضى السياسية أسوأ بكثير. على مدى 42 عاما كان الليبيون تحت حكم القذافي. كان هذا الحكم، غير كفؤ ، ولكنه أبقى البلاد موحدة. واليوم ليس هناك قطب واحد للسلطة - ولم يكن في الواقع منذ أن تم إبعاد القذافي من منصبه في عام 2011، وقتله في ظروف مثيرة للاشمئزاز.

ويتنافس في البلاد خليط من الميليشيات - بعضها أكثر تطرفا من غيرها - والجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال حفتر. إلى حد ما ، هي معركة من أجل النفط، والمال. ولكنها أيضا فئوية، وإقليمية وقبلية. قبل 15 شهرا، اجتمع الطرفان في الصخيرات بالمغرب، واتفقا على إطار سياسي جديد.

ومنذ ذلك الحين كان هناك طريق مسدود، مع طائفة من السياسيين ترفض الاعتراف بالأخرى. هناك القليل الذي يشبه دولة ليبية - وبالتأكيد لا يوجد أي جسم يمكن أن يدعي احتكار الاستخدام المشروع للعنف - وفي هذا الفراغ يمكن لعصابات ومهربي البشر القيام بأنشطتهم.

تناولت الغداء في طرابلس، في مطعم جميل في قلب المدينة الرومانية القديمة، تأملت قوس ماركوس أوريليوس الذي يطل على كاردو، أو شارع التسوق الرئيسي. سألت أحد السياسيين الليبيين السؤال الذي يجب علينا أن نسأله - نحن الذين نأت من بلدان كانت متورطة في إزالة القذافي

لو افترضنا أن الوضع الأمني سمح لنا بسبر آراء الناس في الشارع، وسألنا الناس عن التغييرات منذ عام 2011، و "الربيع العربي". ماذا سيقولون؟ .. فرد علي : "أخشى أن الكثير من الناس سيقولون إنهم كانوا أفضل حالا تحت القذافي".

 الآن ، نظام القذافي تورط في التعذيب والقمع بجميع أنواعه. ولا يمكن لأحد أن يفكر في إعادته. ولكن هذا التفكير يعكس مدى التذمر من الفوضى الحالية.

 يجب أن يكون هناك خيار أفضل لليبيا. ولذلك فمن الجيد جدا أن نعلن بأننا ، أخيرا، نرى بصيصا من الأمل. وفي الأيام القليلة الماضية، عُقدت اجتماعات هامة بين رئيس الوزراء السراج والجنرال حفتر.

 يُظهر شرق البلاد وغربها علامات على الالتئام: توجه عقيلة صالح، الرئيس المخضرم لمجلس النواب في طبرق، إلى روما للقاء عبد الرحمن السويحلي، رئيس المجلس  الأعلى للدولة في طرابلس. وبفضل الدبلوماسية المصرية والإماراتية بشكل خاص، بدأ التوصل إلى توافق في الآراء ليس بين السياسيين الليبيين فحسب، بل أيضا - بشكل حاسم - بين القوى الخارجية التي لها مصلحة في ليبيا.

ويكمن جوهر هذا التوافق في تفهم لحقيقة أن اتفاق الصخيرات يمكن تحسينه بشكل يجعله يحصل على دعم أكبر في جميع أنحاء ليبيا، ويجب إيجاد وسيلة للحفاظ على السيطرة المدنية الشاملة على الجيش مع الاعتراف بدور الجنرال حفتر. هناك شعور بوجود زخم حاليا، وشعور واسع بأن الوقت قد حان لكي تساعد الأمم المتحدة الليبيين في السيطرة على هذه العملية السياسية.

هذه هي اللحظة بالنسبة للاعبين الرئيسيين في السياسة الليبية للالتقاء بروح ناضجة وسخية، وخلق تسوية جديدة لبلدهم. المؤشرات تقول إنهم قادرون على ذلك.

وتشارك المملكة المتحدة بنشاط في دعم هذا الجهد، ليس فقط بسبب دورنا في عام 2011، ولكن لأن ليبيا مهمة لمستقبلنا. هذه الدولة الشاسعة التي لا تخضع لقانون حاليا، أصبحت أشبه بمنجنيق ، قادر على تفريغ أعداد هائلة من الناس عبر البحر الأبيض المتوسط.

وإذا استمرت ليبيا في حالتها الراهنة، فإننا نخاطر بأن تكون دولة فاشلة - وملاذا للإرهابيين، ومهربي السلاح والمتاجرين بالبشر - على بعد بضعة أميال فقط من الشواطئ الجنوبية للاتحاد الأوروبي. ولكن إذا اغتنم قادة ليبيا هذه اللحظة، فإن الفرصة هائلة.

وإذا استطاعوا وضع خلافاتهم جانبا، وتحقيق الاستقرار في البلد، فإن هذا المكان الذي يقدر عدد سكانه بستة ملايين نسمة لن يكون قادرا على الاستفادة من موارده الهائلة من الهيدروكربونات. يمكنهم فتح بعض من أكبر المواقع السياحية في العالم، بما في ذلك "ليبتيس ماغنا" - وهي حاليا مكان خطر جدا للزيارة.

 في شوارع طرابلس يمكنك أن ترى أن الناس بدأوا في الاسترخاء وشرب القهوة والمشروبات الغازية في المقاهي. الآن، بعد ستة أسابيع من اقتحام إحدى الدبابات واحدا من الفنادق الكبيرة، عادت النفوس لتهدأ. وإذا أغمضت عينيك عن مشهد سفينة حربية مقلوبة في الميناء - أغرقها سلاح الجو الملكي البريطاني في عام 2011 - يمكنك أن تكتشف كيف يمكن لهذه البلدة أن تكون منتجعا بديعا.

الشواطئ برمالها البيضاء ، مذهلة. الفنادق في انتظار تشغيلها. البحر جميل ويغص بالأسماك الطازجة. كانت ليبيا في وقت ما مسقط رأس الأباطرة، مركزا مزدحما في عالم البحر الأبيض المتوسط. يمكن أن يكون لها مستقبل كبير. كل ما يتطلبه الأمر هو الإرادة السياسية ، والشجاعة للتوفيق.

 

* بوريس جونسون ، وزير الخارجية البريطاني الحالي ، محرر سابق في The Spectator.

** بوابة افريقيا الإخبارية غير مسؤولة عن مضامين الأخبار والتقارير والمقالات المترجمة