غادرت طائرات الناتو سماء ليبيا تاركة أرضها "لعيال الله" و العبارة للمفكّر التونسي الراحل محمد الطالبي ..عيال فتحوا فوّاهات بنادقهم على كلّ من يتنفّس حريّة و لو كان في غرفة نومه ..فالحكم اليوم للجماعة ،هي الحكمة و  الحكومة و الحكم. الخميس 26 حزيران/ يونيو 2014، يوم إستثنائي في تاريخ الشعب الليبي ، وسيخلّد في سجلات نضال المرأة الليبية من أجل بناء ليبيا حرة ديمقراطية تعترف بحقوقها وتمنحها مكانتها التي تليق بها.   هذا اليوم شهد أول عملية اغتيال تستهدف امرأة وهي المحامية والناشطة الحقوقية سلوى بوقعيقيص التي ناضلت بحماس وشجاعة من أجل بناء الديمقراطية في بلدها ومن أجل ضمان حقوق المرأة، خبر الاغتيال نزل كالصاعقة على المواطنين الليبيين وخاصة النساء الليبيات.

إنتشر خبر اغتيال الحقوقية سلوى بوقعيقيص بشكل سريع ولافت ليس فقط في ليبيا بل على مستوى دولي، فسرعان ما تداولت وسائل الإعلام الخبر وتهاطلت بعده ردود الفعل الدولية المنددة بهذا الفعل الإجرامي الذي أتى على يد المتشددين الإسلاميين الذين حوّلوا الساحة الليبية إلى مسرح عنف وقتال وقتل واختطاف واغتيال، خاصة مدينة بنغازي حيث تقطن الضحية، لكن هذا الانتشار الواسع للخبر لم يكن فقط لكون ما حدث كان فعلا إجراميا بشعا بل لأن الشخصية التي اغتيلت بارزة على الساحة السياسية والحقوقية الليبية، وكذلك على الساحة الدولية.

إذ أفادت تقارير إخبارية ليبية بأن المحامية والناشطة القانونية سلوى بوقعيقيص لقيت حتفها الليلة الفاصلة بين الأربعاء 25 والخميس 26 يونيو، بعد اقتحام مجهولين منزلها بمنطقة الهواري بمدينة بنغازي شرقي ليبيا وإطلاق النار عليها.

وأفاد حارس المنزل في شهادته لمحضر الشرطة بأن خمسة أشخاص، أربعة ملثمين وواحد غير ملثم، دخلوا عليه وسألوا عن وائل نجل الناشطة، فأخبرهم بأنه غير موجود، فقاموا بإطلاق الرصاص على رجله فأصيب وسقط أرضًا، وأضاف الحارس: "بعدها أكملوا طريقهم إلى داخل البيت وسمعت دوي طلق ناري".

وتزامنا مع قتل سلوى كشفت مصادر أمنية عن اختفاء عصام عبد القادر الغرياني زوج بوقعيقيص، خلال عملية الاغتيال وإخماد صوتها للأبد، وقال مسؤول أمني إن زوج القتيلة كان متواجدا داخل المنزل أثناء الحادث، وقد فقد بعدها ولا نعلم عن مكانه حتى الآن، وأضاف لقد فقدنا الاتصال به، وهو ما يفضي إلى أنها استهدفت في شخصها وفي عائلتها خاصة وقد تعرض ابنها مسبقا للخطف، ورغم ذلك لم تغادر منزلها وواصلت طريق النضال منه ونشرت صورها على الفايسبوك وواصلت دعوة مواطنيها للنهوض بالوطن عبر المشاركة في الانتخابات التشريعية.

وكانت مشاركة بوقعيقيص في الانتخابات البرلمانية في نفس الشهر سنة 2014، آخر فعل قامت به، وهو ما يؤشر إلى أن السيدة كانت ترى بوعي أن مستقبل ليبيا يبدأ من مشاركة مجتمعية فاعلة، تتجاوز الاختلافات السياسية والأيديولوجية وتطرح البدائل والبرامج ولكن القوى التي أطلقت عليها الرصاصة القاتلة، كانت تفكر بآلية أخرى تقوم فقط على إقصاء الآخر المختلف و إلغائه.

وكان آخر ظهور إعلامي للناشطة الحقوقية سلوي بوقعيقيص مساء الأربعاء على فضائية النبأ وتناولت خلاله عن الاشتباكات التي جرت بمدينة بنغازي بين قوات الغرفة الأمنية المشتركة، وبين أفراد من كتيبة رأف الله السحاتي. وتناولت المحامية الحدث باعتبارها شاهد عيان على الاشتباكات، كون منزلها يقع في منطقة الهواري بمحيط كتيبة رأف الله السحاتي، وهاجمت خلال مداخلتها الميليشيات المسلحة وقالت إنهم يقتلون أفراد الجيش.

ولعل هذا الظهور استفز أعداء حرية التعبير خاصة بالنسبة إلى المرأة وجعلهم يوجهون لها رصاصة الغدر ليسكتوها كما أسكتوا سابقيها من المثقفين الذين قالوا لا لممارساتهم القمعية و الوحشية.

و تثير قضية اغتيال سلوى بوقعيقيص إشكاليات عديدة متداخلة. بعضها يتصل بوضع المرأة المناضلة أو الناشطة المجتمعية والفاعلة السياسية، وبعضها الآخر يرتبط بوضع ليبيا بشكل عام. فاغتيال بوقعيقيص تم من قبل قوى لا تستسيغ العمل السياسي المدني بشكل عام، وتكره أن يكون ذلك نسويا بشكل أكثر تحديدا، اغتيال بوقعيقيص حدث يراد به إسكات كل محاولات تأسيس حراك مدني أو سياسي نسوي في ليبيا التي تروم إرساء الديمقراطية، ولكن الأمل الليبي الذي مثلت سلوى أحد تعبيراته ونماذجه يواجه عقبات عدّة من قوى لا تفعل سوى شدها إلى الخلف.

وخطورة اغتيال سلوى بوقعيقيص تكمن في أن المنفذين أرادوا توجيه رسالة إلى المجتمع الليبي برمته، مفادها أن هذا مصير كل من تسوّل له نفسه أن يعمل في المجال السياسي أو المدني الديمقراطي ويعارضنا ويطالب بحقه في الديمقراطية خاصة إن كان امرأة، وهدفه ترهيب كل امرأة تتجرأ على فضح قوى التشدد.

في سياق متّصل شهدت الساحة الثقافية و الإعلاميّة عمليات تهجير و تشريد مع سبق الإصرار و الترصّد إذ أنّه على عكس كل الحركات التحرريّة التي تفتح المجال العام للتعبير الحر و تطلق العنان لأصحاب الفكر المستنير إلا أنه للأسف في ليبيا النتجة كانت عكسية تماما.

تتحدث الروائية الشابة نهلة العربي عن تجربتها المريرة بليبيا قبل انتقالها إلى مصر مضطرة، بالقول: "لكل عهد مقص رقيب خاص به، لا أعتقد أن شيئاً تغير بعد 2011، وهو إحساس قد يشاركني به كثير من كتاب هذا الجيل، وقد يعتقد البعض أن الأمر تحول لشيء أكثر قسوة من مجرد الرقابة، في عهد القذافي كنا في صراع مع السلطة، مع عدو يبدو إلى حد كبير واضحاً، الآن المعركة مع كثير من الأشباح".

و تشير إلى أن عدد الذين يعملون في الخارج من الأدباء الكتاب والصحافيين في تزايد، بعدما أصبحت الأجواء في ليبيا قاتمة وغير مشجعة، وأضحى الخوض في مجال الثقافة مغامرة بامتياز، فالتهديد والخطف وخطاب الكراهية طال الكثيرين، ومنهم الكاتب الشاب أحمد البخاري أخيراً بعد نشر مقطع من روايته «كاشان» بكتاب «شمس على نوافذ مغلقة»، حتى إن الاتهامات تخطت البخاري لتتحول إلى تكفير كل من شارك بالكتاب، في حملة شرسة ممن أراهن على أنهم لم يطلعوا على الكتاب ولم يقرأوا الرواية أصلاً، ولكن يكفي نعت أي عمل إبداعي يواجه فساد المجتمع بوصفه «خادشاً للحياء العام» ليصبح الكاتب أمام شبح الإقصاء أو المقصلة. وما زلت أتذكر فرحة الكاتبة وفاء البوعيسى صاحبة رواية «للجوع وجوه أخرى» بسقوط النظام السابق بداية الثورة، لكن هذا الفرح تحول بالنسبة لها إلى سلسلة طويلة من الإحباطات انتهت بها خارج البلاد. إنها كاتبة «ملعونة» في العهدين. لا، لم تقدم ثورة فبراير في سنواتها السبع مساحة أكبر للتعبير، ربما في أيام وهجها الأولى كانت كذلك، ولكن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن.

وفي تقييمه لآفاق المسار الحالي، يقر الكاتب والقاص إبراهيم احميدان إلى أنه "في مقابل ظهور حراك مجتمعي واسع، وبروز صحافة خاصة، وحراك مجتمعي، فإن سيطرة جماعات آيديولوجية إسلاموية على المشهد، أعادنا إلى المربع الأول، لتحجب الكتب مجدداً كما حدث مع المطبوعات التي صودرت في معرض الكتاب بمدينة المرج العام الماضي 2017، ما يكشف أن العقود الطويلة من الاستبداد وحكم الفرد رسخت في الأذهان الفكر الإقصائي للأسف، حتى ونحن ندعي قبول الآخر، فما أسهل رفع الشعارات وما أصعب تنفيذها".

لم يسلم الصحفيون العاملون في ليبيا أنفسهم من مخلفات هذه الفوضى إذ وجدوا أنفسهم أمام خيار الهرب من ليبيا أو اعتزال العمل الصحفي.

 منظمة هيومن رايتس ووتش، وثقت من خلال مقابلات أجريت داخل ليبيا وخارجها أزيد من 91 حالة لصحفيين تعرضوا لتهديدات في الفترة بين منتصف 2012 حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2014، سجل منها ثلاثون حالة اختطاف أو اعتقال تعسفي وثماني حالات قتل.

وأضافت المنظمة الدولية في تقرير لها نشر في يناير 2015 أن جماعات مسلحة مختلفة في ليبيا هاجمت وخطفت وهددت وقتلت بطريقة عنيفة صحفيين ليبيين خلال العامين الماضيين دون عقاب مما دفع بالعديد منهم إلى الفرار من البلاد أو فرض الرقابة الذاتية على أنفسهم.  زيادة  إلى ما يعانيه الصحفيون من طرف الجماعات المسلحة اتهمت هيومن رايتس ووتش المحاكم الليبية بملاحقة الصحفيين وآخرين بتهمة التشهير بالمسؤولين الحكوميين وغير ذلك من التهم المنتهكة لحرية التعبير، وأضافت المنظمة أن إخفاق الحكومات المتعاقبة و السلطات المؤقتة في حماية الصحفيين أنهك الكثير من حرية وسائل الإعلام المحدودة التي كانت موجودة في أعقاب أحداث 2011.

صلاح زعتر أحد الصحفيين الليبيين الذين غادروا ليبيا بسبب ظروف العمل الصعبة هناك. الصحفي الشاب الذي كان يعمل لصالح إحدى القنوات التلفزيونية الليبية الخاصة انتقل إلى ألمانيا بمساعدة من مؤسسة هامبورغ للملاحقين سياسيا، بعد تهديدات له بالقتل واعتداءات عليه وعلى فريق عمله أكثر من مرة.

ويحكي صلاح قائلا "هربت بعد أن أصبح الوضع لا يحتمل، تحملت التهديدات والإعتداءات لأنني أعشق مهنتي لكن عندما بدأت ضغوطات من المحطة التي أشتغل لها أيضا، بهدف خدمة مواقف معينة، قررت ترك ليبيا". وكان صلاح ينجز تقارير استقصائية عن مواضيع مرتبطة بحقوق الإنسان من بينها عمالة الأطفال والاغتصاب والقتل والتعذيب والفساد المالي. ويضيف قائلا: "هناك الكثير من القصص في المجتمع الليبي التي تستحق أن يسلط الإعلام عليها الضوء، لقد خاطرت بحياتي كثيرا لأن هناك ميليشيات لا تريد أن أتناول مثل هذه المواضيع".

و يقرّ صلاح إن وضع الصحفيين في ليبيا سيء للغاية سواء بالنسبة لليبيين منهم أو للأجانب، فمعظمهم انتقل إلى تونس ومصر والأردن وتركيا بعدما أصبحت حياتهم وحياة ذويهم مهددة في أي لحظة. وعن دوافع استهداف الصحافيين يضيف الصحفي صلاح: "التيارات المتصارعة تتفق في شيء واحد وهو أن الصحافي يشكل عدوا لها عندما لا يخدم مصالحها. فهي لا تؤمن بشيء اسمه حرية التعبير أو بواجب الصحفي المهني. ولا يحظى بالحماية هناك سوى من يؤيد طرفا من الأطراف المتصارعة".

ويضيف صلاح أن "الصحفيين كانوا يتمتعون بهامش من الحرية بعد سقوط نظام القذافي لكن سرعان ما بدأت الانتهاكات والمضايقات، ملاحظا أن الأمر لا يقتصر على الصحفيين فحتى نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي يتعرضون للقمع كما تعرض بعضهم للخطف ويجهل مكان إقامتهم".  ينتاب صلاح اليوم مزيج من المشاعر المتناقضة "أشعر بأمان لأنني هربت من العنف والملاحقة والتهديدات، لكني في نفس الوقت حزين على مغادرتي لوطني ولعملي هناك. أشعر وكأني جسد بلا روح.

وإذا كان صلاح يُحَمل كل التيارات المتصارعة في ليبيا مسؤولية قمع الصحفيين فإن سالمة شعاب الصحفية الليبية ورئيسة نقابة الصحافيين والإعلاميين الليبين في طرابلس تعتبر أن الكتائب الإسلامية هي الأكثر تطرفا في ممارسة العنف ضد الصحفيين. مع بقية الأطراف قد نجد هامشا ضيقا للتفاوض لكن مع الكتائب الإسلامية لا مجال لذلك. فجماعة فجر ليبيا تحديدا تمارس العنف بشكل واضح ومبالغ فيه ودون مراعاة لأبسط حقوق الإنسان. و هي التي هربت متخفية رفقة أسرة إلى مدينة الزيدان غير الخاضعة للإسلاميين، ثم إلى الزنتان عبر منافذ غير رسمية خوف من القبض عليها، ثم انتقلت إلى طبرق التي قضت فيها عشرة أيام قبل الانتقال إلى العاصمة التونسية.

وحتى مع وجودها الآن في تونس فلا تشعر سالمة بالأمان لأن الصحفيين الليبين في تونس يتعرضون أيضا لضغوطات إن تحدثوا للإعلام، من خلال تهديدات بالتعرض لذويهم في ليبيا وأضافت: "الوضع سيء جدا حتى بالمقارنة مع عهد القذافي. ففي تلك الحقبة كان معروفا على الأقل ما هي الجهات التي تقوم بخطف الصحفيين، والكل يعرف مكان تواجدهم إذا تم اختطافهم، أما اليوم فالخطر يتهدد الصحفي في أية لحظة".  وبحسب الأخيرة فإن أكثر من 200 صحفي غادروا ليبيا خوفا على حياتهم، أما الدعم الذي توفره المنظمات الحكومية والدولية لهم فتعتبره سالمة غير كاف، كما يستخلص صلاح أن منظمات دولية قدمت كثيرا من الدعم والمساعدة للصحفيين في ليبيا لكنها لا تستطيع نهاية الأمر تغيير واقعهم المعقد هناك.

لم يستثني مسلسل التصفيات المساندين و المشاركين في أحداث فبراير 2011 و لعلّ عملية تصفية عبد السلام المسماري في بنغازي يوم 26 يوليو/تموز 2013 أبرز مثال على ذلك و هنا يمكننا القول أنّ فبراير يأكل أبناءه. قال محمد الحجازي، الناطق باسم غرفة العمليات الأمنية المشتركة للجيش والشرطة في بنغازي، لـ هيومن رايتس ووتش إن المسماري قتل بعد صلاة الجمعة، في نحو الساعة 1:30 إلى 1:45 مساءً، بينما كان عائدا إلى بيته سيراً من مسجد أبو غولة بمنطقة البركة. وقال إن المسماري أصيب بالرصاص من مدى قريب، بطلقة واحدة في القلب.  أكد الحجازي لـ هيومن رايتس ووتش عدم وجود مشتبه بهم معروفين، وعدم اعتقال السلطات لأي شخص على ذمة الواقعة. كان المسماري، المولود في 1968، محامياً وناشطاً، ومن أبرز منتقدي قانون العزل السياسي المثير للجدل، وهو المرسوم الهادف إلى منع مسؤولي عهد القذافي من تولي المناصب العامة، الذي مرره المؤتمر الوطني العام، وهو البرلمان الليبي في مايو/أيار

في 24 يوليو 2013  ظهر المسماري على قناة تلفزيونية محلية وتحدث عن جرائم القتل خارج نطاق القانون بما فيها مقتل اللواء عبد الفتاح يونس قائد الجيش الليبي المعارض الذي قتل في يوليو/تموز 2011 أثناء أحداث فبراير.  كما انتقد المسماري الإخوان المسلمين لنشر الفوضى في ليبيا، وكان قد سبق له توجيه النقد العلني إلى الإخوان وغيرهم من الفصائل الإسلامية على مواقع التواصل الاجتماعي وشبكات الإعلام المحلية.

*صحافي وباحث تونسي مقيم في باريس