يبدو أن العام الجديد جلب الخبر السيء تلو الآخر لليبيا، منذرا بمرحلة جديدة في الانحدار إلى الفوضى والذي لا نهاية له في البلاد. إذ تلاشى الأمل في تحقيق الاستقرار الذي لاح مع هزيمة داعش العام الماضي ، التنظيم الذي أعلن "إمارة" في سرت ، حيث تصاعد القتال مؤخرا في أربعة أجزاء مختلفة من البلاد.

"الهلال النفطي" في شرق سرت،  وحيث يعبر 60 في المئة من عبور الإنتاج النفطي، شهد في شهر مارس تغير السيطرة عليه مرتين بين الجيش الوطني الليبي المناهض للإسلاميين بقيادة خليفة حفتر - وهو ضابط سابق في عهد القذافي - ومجلس الرئاسة المدعوم من الأمم المتحدة، في العاصمة طرابلس، حيث الميليشيات الموالية اسميا للمجلس تكافح الجماعات المتنافسة - وتتقاتل بشكل متزايد فيما بينها.

وفي الجنوب، اشتبك الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر مرارا مع جماعات مسلحة من مدينة مصراتة الساحلية. وفي الشرق، ومنذ عام 2014، لم يتوقف القتال بين الجيش الوطني الليبي ومجلس الشورى الإسلامي المحلي في بنغازي ودرنة.

منذ عام 2014، انقسمت البلاد بين الحكومات المتنافسة: واحدة في الشرق واثنتان في طرابلس. في مايو من ذلك العام، بدأ حفتر عملية الكرامة، وهي حركة ضد المتمردين الإسلاميين ركزت في البداية على مدينة بنغازي الشرقية. وبعد شهر، شكلت ميليشيات من مدن في غرب ليبيا تحالف فجر ليبيا وغزت طرابلس. وقد تحول الصراع بين القوى التي هزمت معمر القذافي منذ ذلك الحين إلى صراع مرير من أجل السلطة والموارد والسيطرة على القطاع الأمني ​​المترامي الأطراف.

وفي ديسمبر 2015، أدت الوساطة التي قامت بها بعثة الأمم المتحدة في ليبيا إلى توقيع الاتفاق السياسي الليبي الذي كان يهدف إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية من قبل أعضاء منافسين في البرلمان من شرق وغرب ليبيا. ولكن فيما كُلفت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا "يونسميل" بالتفاوض على تنفيذ الاتفاق، فإنها أصبحت الآن بلا رأس.

انتهت ولاية الممثل الخاص الحالي للأمم المتحدة فى ليبيا مارتن كوبلر هذا الشهر وفقد ثقة اللاعبين الرئيسيين فى ليبيا منذ فترة طويلة. ويسعى الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريس لتعيين رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض ممثلا خاصا له ، ضدا على نقض صادر من إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.

كما أن مسارات التفاوض المتنافسة من جانب القوى الإقليمية، وخاصة مصر والجزائر، فشلت في تحقق أي تقدم. ونتيجة لذلك، انهارت معظم قنوات الاتصال بين شرق وغرب ليبيا.

ازدادت مشاركة روسيا فى محاولة لملء الفراغ الذي خلفه انهيار مسار الأمم المتحدة وعدم اهتمام إدارة ترامب والأوروبيين. ومن غير الواضح ما تريده موسكو فعلا في ليبيا، ولكن يبدو أنها تتبع استراتيجية تعترف بالتقسيم الفعلي للبلاد، متعهدة بتقديم دعم سياسي وعسكري لمعركة حفتر في الشرق، في حين توقع عقودا للنفط وتناقش الفرص التجارية ، ومشاريع البناء المستقبلية مع مؤسسات في طرابلس.

وبينما تروج تقارير تفيد بأن القوات الخاصة الروسية قد تساعد حفتر، إلا أنه لا يوجد أي دليل على دعم عسكري روسي حاسم للجيش الوطني الليبي، ومن الإنصاف القول إن الكرملين ينوع استثماراته السياسية في البلاد من خلال التحدث إلى جميع الأطراف.

دعم روسيا السياسي المتزايد والرياح المناهضة للإسلاميين التي تهب في واشنطن عززت موقف حفتر القائم على أنه لا جدوى من التفاوض على حل سياسي مع القوات في غرب ليبيا. وعلى الرغم من الضغط الشديد من رعاته المصريين، رفض أن يلتقي حتى رئيس مجلس الرئاسة، رئيس الوزراء فايز السراج، في القاهرة في 14 فبراير لمناقشة خريطة طريق للمفاوضات. وقد كرس نفسه بدلا من ذلك لهدفه الرئيسي المتمثل في "مكافحة التطرف" من خلال زيادة الضغط على القوات المصرية في الجنوب ومنطقة الجفرة وتلويحه بـ “تحرير" وشيك لطرابلس، وإن كان ذلك غير مرجح.

وفي الوقت نفسه، يتهدد غرب ليبيا خطر تفتيت أكبر من أي وقت مضى. وقد تقلص مجلس الرئاسة فعليا إلى عضوين من أصل تسعة أعضاء - السراج ونائبه أحمد معيتيق - ويفتقر إلى أي سيطرة حقيقية على الديناميات على الأرض. وتهيمن على العاصمة مجموعة من الميليشيات التي تقاتل الآن ضد جماعات مسلحة موالية لحكومة منافسة. خارج طرابلس، يتحكم "أرخبيل" مماثل من الجماعات المسلحة المحلية في الأحداث على الأرض.

ونظرا لعدم الرغبة في التوصل إلى حل وسط في الشرق وعدم وجود محاورين موثوقين في الغرب، فإن التسوية السياسية التي تعيد توحيد البلد لا تبدو قريبة المنال. وإذا كانت ليبيا والمجتمع الدولي يأملان في تجنب فصل جديد دموي في الحرب الأهلية، فينبغي أن يركزا على ثلاثة مسارات ينبغي متابعتها في الأجل القصير، بالتوازي مع المفاوضات الأكبر حجما.

أولا، تحتاج ليبيا إلى آلية لنزع التصعيد. إذا لم يتمكن مبعوث الأمم المتحدة من القيام بذلك، يتعين على شخص آخر في الغرب أن يقوم به. هل هناك فرصة أفضل لبريطانيا لإظهار أهميتها بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي من هذه ؟ أو لماذا لا يحاول وزير الخارجية الفرنسي، الساعي لأن يعزز إرثه قبل أسابيع فقط من ترك منصبه؟ وينبغي ألا يكون هذا إلا بديلا مؤقتا لبعثة تابعة للأمم المتحدة تعمل بكامل طاقتها وقدرتها على العمل على المصالحة وحالات وقف إطلاق النار على الصعيد المحلي ورصد انتهاكات حقوق الإنسان.

ويمكن لكل من المفاوضين المؤقتين والأمم المتحدة العمل على عدد من إجراءات بناء الثقة مثل إقامة قنوات اتصال دائمة وتحرير السجناء وإعادة فتح الطرق وتقاسم المساعدات الإنسانية.

ثانيا، تحتاج البلاد إلى ما تسميه خبيرة اقتصادية "الاتفاق الاقتصادي الليبي" حول كيفية تقاسم ثرواتها النفطية سلميا. تجلس ليبيا على أكبر احتياطيات النفط الهيدروكربونية في أفريقيا: في الفترة التي سبقت حرب عام 2011، أنتجت 1.6 مليون برميل يوميا وراكمت أكثر من 100 مليار دولار من الاحتياطيات - وهو مبلغ كبير لسكان يبلغ عددهم 6 ملايين نسمة.

وقد دار الكثير من القتال في السنوات القليلة الماضية حول المنشآت النفطية أو مراكز التهريب. قد يستغرق التفاوض على عقد اجتماعي جديد بعض الوقت، ولكن في هذه الأثناء، يمكن أن يمثل تدبيران بداية جيدة: يجب على الحكومة في طرابلس تعزيز الدعم المالي لجميع بلديات ليبيا، بما في ذلك المناطق التي يسيطر عليها حفتر، وينبغي وضع المنشآت النفطية تحت السيطرة على مؤسسة النفط الوطنية المستقلة في طرابلس، مع محاولات لإقامة مؤسسات اقتصادية موازية يعاقب عليها بالعقوبات الدولية.

وأخيرا، يجب أن تكون طرابلس قلب الجهود الدولية. والحاجة الأكثر إلحاحا هي خطة لتحرير المدينة من جميع الأسلحة الثقيلة، ودفع الميليشيات إلى تخزينها خارج المناطق المأهولة بالسكان المدنيين. وهذا شرط هام يسمح للحكومة الليبية بالعمل وتسهيل المساعدة الدولية.

وهذه المهام صعبة للغاية. بيد أن البديل هو تصعيد جديد من شأنه أن يدمر ما تبقى من المؤسسات الليبية ويهيئ الظروف لعودة ظهور الجماعات الجهادية.

وسيتطلب الأمر "وزنا ثقيلا" مثل الولايات المتحدة الأميركية لدفع ليبيا نحو السلام. يمكن لواشنطن، بقوتها الهائلة الناعمة والصلبة، أن تضغط على جميع الأطراف في اتفاق وفي نفس الوقت تثني الجهات الخارجية عن التدخل في البلاد. السؤال الكبير هو ما إذا كانت الإرادة موجودة لدى إدارة ترامب للانخراط في ليبيا.

ويتعين على مجلس الأمن القومي، خلال استعراضه لسياسة الولايات المتحدة في مختلف المجالات، أن ينظر في الروافع التي لدى الولايات المتحدة في ليبيا وأهمية البلد في مكافحة الإرهاب وعدم الاستقرار.

وأثناء آخر إدارة جمهورية، في ظل الرئيس جورج دبليو بوش، اتبعت الولايات المتحدة سياسة عملية في ليبيا نجحت في القضاء سلميا على مخزونات أسلحة الدمار الشامل في البلاد. ومن الصعب أن نعتقد أن إدارة ترامب سوف تكون قادرة على تكرار هذا النموذج. ومع ذلك، وبدون إجراء دولي سريع، تبدو ليبيا مستعدة لجولة أخرى من العنف. وقد ننظر في المستقبل إلى الوراء ، إلى هذه اللحظة الحالية في ليبيا ، ونقول إن الدواء كان هناك ولكن لم يكن أي طبيب لديه الشجاعة لاستخدامه.

 

*بوابة افريقيا الإخبارية غير مسؤولة عن مضامين الأخبار والتقارير والمقالات المترجمة