ليبيا في حلقة من المتناقضات .. الاتفاق السياسي لا يمكن الوصول إليه دون تحسن اقتصادي والاستقرار السياسي ضروري لإنعاش الاقتصاد. وتشغيل الاقتصاد مشروط بإنتاج النفط وعودة الروح إلى الصادرات مرة أخرى، على الأقل في مرحلتها الأولية. ومن أجل الإنتاج والتصدير بالطاقة القصوى، تحتاج البلاد للسلم والأمن الذي يسمح باستئناف تشغيل آبار النفط ومحطاته.

تم التوصل إلى اتفاق سياسي - الاتفاق السياسي الليبي - بين الأطراف الرئيسية في الصخيرات في ديسمبر 2015، لكنه لم يكن فعالا.  الجزء الشرقي من البلاد، الذي يضم "الهلال النفطي"، يخضع لسيطرة مجلس النواب ومقره في طبرق. ويدعمه المشير خليفة حفتر والجيشه الوطني الليبي. ولم يعترف فصيل طبرق بحكومة الوفاق الوطني التي مقرها طرابلس، التي أنشئت بموجب الاتفاق، وتحظى بدعم دولي. وقد خلق ذلك نظاما سياسيا ثنائي القطب في ليبيا. وقد فشلت كل المحاولات للتوفيق بين الطرفين. ويبقى أن نرى ما إذا كان الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة المعين حديثا في ليبيا غسان سلامة سينجح حيث فشل أسلافه. وهذا الافتقار إلى اتفاق سياسي هو في معظمه مسؤول عن الأزمة الاقتصادية الجارية.

لقد كان الاقتصاد الليبي في حالة سقوط حر فعلي منذ الإطاحة بمعمر القذافي. فقد شهدت السنوات الست من 2011 - 2016 معدلات نمو سلبية للناتج المحلي الإجمالي وارتفاعا في البطالة وارتفاع التضخم وانخفاضا كبيرا في الصادرات وانخفاضا حادا في احتياطيات النقد لدى مصرف ليبيا المركزي وتراجعا سريعا في قيمة الدينار الليبي مقابل الدولار الأمريكي في السوق الموازية. وهناك مؤشران خاصان يسلطان الضوء على الاقتصاد المنهار. أحدهما، انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الاسمي في عام 2016 بأكثر من النصف مقارنة مع عام 2010، من 73.6 مليار دولار إلى 33.2 مليار دولار. ثانيهما، كان دخل الفرد في ليبيا أكثر من 11،000 دولار في عام 2010، ولكن بحلول عام 2016 انخفض إلى ما يزيد قليلا عن 5000 دولار.

هذا العام يَعِد بأن مختلفا. الهيئات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي متفائلان بأن الاقتصاد سوف يستقر في عام 2017 وأن يتعافى النمو الاقتصادي ويصبح إيجابيا مرة أخرى. ويستند هذا التفاؤل إلى افتراضين أساسيين - التوصل إلى تسوية سياسية، واقتراب إنتاج النفط من مستويات ما قبل عام 2011.

لكن لسوء الحظ، من الواضح أنه حتى منتصف عام 2017، لا يبدو أن أيا من هذين الافتراضين يبدو واقعيا بشكل خاص. وإذا ظل الوضع السياسي غير مستقر كما في العام الماضي، وظل إنتاج النفط وصادراته لا يرتفعان بشكل كبير، فإن الأداء الاقتصادي في عام 2017 سيكون مجرد تكرار للسنوات السابقة. وسيظل النمو الاقتصادي سلبيا، وسيتراجع دخل الفرد أكثر من ذلك، وسترتفع البطالة، وسيكون التضخم أعلى من معدل السبعة وعشرين في المئة الذي تم الإبلاغ عنه في عام 2016، وستنخفض الاحتياطيات الأجنبية إلى ما دون 50 مليار دولار مقابل 110 مليار دولار التي تحتفظ بها في نهاية عام 2010. وستظل الصورة العامة قاتمة هذا العام.

وإذا كان الأصل هو أن الاضطرابات السياسية والنزاعات العسكرية تؤثر سلبا على الاقتصاد، ففي ليبيا هذه العلاقة تكتسي طابعا أكثر مباشرة. وذلك لأن النفط هو شريان الحياة للاقتصاد الليبي وأي شيء يؤثر على إنتاج النفط والصادرات له تأثير كبير جدا على الاقتصاد الكلي. ويمثل النفط أكثر من ثلثي الناتج المحلي الإجمالي، وتسعين في المائة من الصادرات، وما يقرب من ثمانية وتسعين في المائة من الإيرادات الحكومية. هذه الدرجة العالية جدا من التبعية تضمن بطبيعة الحال أن يصبح إنتاج النفط وتقلبات أسعار النفط هي الدوافع الأساسية للاقتصاد الليبي.

وخلال الفترة 2000-2010، أنتجت ليبيا ما متوسطه 1،6 مليون برميل يوميا من النفط، وبلغت صادراتها 1،5 مليون برميل يوميا. ومنذ ذلك الحين، وكما يبين مخطط لبلومبرغ ، كان إنتاج النفط متقلبا جدا؛ ويمكن أن يعزى هذا التقلب في المقام الأول إلى الأحداث السياسية في البلد. وقد أدت السيطرة على حقول النفط والموانئ من قبل مختلف الجماعات المتحاربة داخل ليبيا إلى إنتاج نفطي لايتعدى في المتوسط  حوالي 400 ألف برميل يوميا بين عامي 2013 و 2016. في عام 2017، بدأ إنتاج النفط في الارتفاع، وعلى افتراض عدم وجود صدمة سياسية كبيرة، من المتوقع أن يصل إلى  مليون برميل يوميا بحلول نهاية العام. وحتى لو حدث ذلك، فإن إنتاج النفط لعام 2017 ككل لن يزيد عن 700 ألف -800 ألف برميل يوميا.

والجزء غير النفطي في الاقتصاد الليبي ضئيل جدا. تتلقى المؤسسة الوطنية للنفط عائدات النفط وتحولها إلى الحكومة عن طريق مصرف ليبيا المركزي. وفقط حينما تبدأ الحكومة في إنفاق هذه الإيرادات، يظهر تأثير النفط على الاقتصاد. وبعبارة أخرى، فإن الحكومة هي العامل الاقتصادي الرئيسي في البلاد. ولم يتمكن القطاع الخاص من تطويره أو سمح له بتطويره، كما أن نظاما بيروقراطيا وتنظيميا مرهقين قد أبقيا الشركات الخاصة صغيرة ومنخرطة بشكل أساسي في توفير الخدمات، ولا سيما تجارة التجزئة وتجارة الجملة. ومن الجدير بالذكر أنه في تقرير البنك الدولي حول تقرير ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2017، احتلت ليبيا المرتبة 188 من أصل 190 بلدا بشأن سهولة ممارسة الأعمال التجارية، إلا أن إريتريا والصومال هما من البلدان الأقل تصنيفا.

وقد أدت أنظمة العمل والعمال الشاقة التي طال أمدها والتي تواجه الشركات الخاصة في ليبيا إلى تطور كبير في الاقتصاد غير الرسمي الذي قُدِّر أنه يمثل ثلث حجم الاقتصاد الرسمي في عام 2010. وفي حين أنه من الصعب على الأدلة القوية على التوسع في الاقتصاد غير الرسمي ، تشير أدلة أخرى إلى أن النشاط الاقتصادي غير الرسمي قد شهد نموا كبيرا في السنوات الأخيرة مع استمرار انخفاض فرص العمل في الاقتصاد الرسمي. في المدن الكبرى، مثل طرابلس وبنغازي وطبرق، كان هناك بعض النمو في المطاعم، والشركات الناشئة التقنية، وغيرهم من شركات الخدمات.

ومن الواضح أنه لإحياء الاقتصاد، يجب أن تكون الأولوية الأكثر إلحاحا هي زيادة إنتاج النفط وصادراته. ثم يمكن للبلد أن ينتقل إلى استقرار الاقتصاد الكلي. كما يجب وضع إصلاحات هيكلية مهمة أخرى لتنويع الاقتصاد مثل بناء نظام مالي حديث وتحسين مناخ الأعمال وإعادة بناء وتطوير البنية التحتية المتضررة والمتهالكة في البلاد، في حين أنها ذات أهمية حاسمة بالنسبة للتنمية الاقتصادية في ليبيا على المدى الطويل. وهذا لن يحدث بدوره إلا عندما يرتفع إنتاج النفط وصادراته وتكون الحكومة قادرة على إنفاق الإيرادات التي تحصل عليها من النفط.

ولكن هذا يعتمد كليا على تسوية سياسية. وللوصول إلى هذه التسوية، من الأهمية بمكان أن تدرك جميع الأطراف الليبية أن بقاءها ورفاهها يقومان على إحياء الاقتصاد. وهذا يعتمد على قدرة صناعة النفط على تحقيق أقصى قدر ممكن من الإنتاج. وفي نهاية المطاف، يجب على الفصائل الليبية أن تتفق على أنه بدون تدفق النفط فإن مستقبل ليبيا قاتم.

*محسن خان هو زميل غير مقيم في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط يركز على الأبعاد الاقتصادية للانتقال في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
*كريم مزران هو زميل رفيع المستوى في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط