سبع سنوات تمر على ليبيا في عهدها الجديد الذي ولد مضمّخا بالدّماء وصارخًا بأصوات القنابل والرّصاص، بعد مخاض حرب أهليّة عسيرة وطويلة، خسرت فيها البلاد ملايين الدولارات وآلاف الضحايا، ولم تجن منها إلى اليوم إلاّ مزيدًا من الدماء والرصاص والخراب.

فلا يبدو المشهد في ليبيا اليوم جميلاً أبدًا، فالأحلام الكبيرة بالدّيمقراطيّة والحريّة والرفاه الاقتصادي وهي العناوين التي بشّرت بها "ثورة 17 فبراير"، لم يتحقّق منها شيء طيلة سبع سنوات، فالوضع الاقتصادي يسير دوما نحو الأسوأ في بلدٍ غني جدًا بالنّفط، توازيه حالة أخرى من السوء على الصعيد الأمني، حيث تنتشر الميليشيات والعصابات وعمليات القتل والاختطاف وانهيار المؤسسات الأمنية وضعف فاعليتها، وحالة سياسيّة لست أقل سوء تحت يافطة التفكّك والانقسام وغياب أي سلطة مركزيّة فاعلة.

حصاد سبع سنوات في ليبيا، يمكن تكثيفه في ألبوم صغير من الصور المتنوّعة: طوابير طويلة أمام المصارف وغياب السيولة وانهيار أسعار العملة المحليّة، قوارب مزدحمة بالمهاجرين الأفارقة وجثث على شواطئ البلاد الطويلة، ميليشيات تسيطر على المدن والمؤسسات، ومتطرّفون يعدمون المدنيين والعسكريين بالرّصاص في وضح النّهار.

هذا المشهد الذي يبدو قاتمًا، ومؤسفًا، لبلد في موقع استراتيجي بثروات كبيرة، تحوّلت به ليبيا الى مصدر قلق لكل جيرانها وبؤرة خطرة للتطرّف والهجرة في فضاءها الإقليمي، مشهد يزيده تعقيدًا التدخلات الأجنبيّة والأجندات الدّوليّة وتغذّيه أطماع سياسيّة واقتصادية حوّلت ليبيا إلى ما يشبه حلبة للقتال.

مع ذلك يرى المراقبون أن هذه المشاكل الاقتصادية والأمنية خاصة مرتبطة بالوضع السياسي أساسا، فهذا الوضع الذي تعيشه ليبيا يعتبر نتيجة لغياب الاستقرار السياسي بالأساس، وأنّها قابلة للحل بمجرّد تركيز أسس دولة عصريّة بمؤسسات موحّدة وقويّة ومركزيّة، غير أنّ الأخطر في نظر المراقبين هو الأضرار الاجتماعية التي ستخلّفها هذه السنوات من التقاتل والفوضى، فقد انفجرت على هامش "ثورة 17 فبراير" أزمات اجتماعية ومجتمعيّة كبيرة وأخطرها التمزّق القبلي والطائفي والجهوي.

هذا التمزّق المجتمعي هو الأخطر في نظر المراقبين، فالثارات القبليّة وعقليّة الانقسام والتقسيم، والأزمات المرتبطة بالاقتتال المناطقي والقبلي، وتقيّح الجروح الطائفيّة والقبلية يلزمها الكثير من العمل وإرادة التغيير على عدّة مستويات التشريعيّة والسياسيّة وخاصة الثقافيّة وهي أشياء تستلزم سنوات طويلة لتعطي نتائج مثمرة، هذا فضلاً عن غياب هذه الإرادة أصلاً، على الأقل في الفترة الحاليّة.

***

ينام المئات من نازحي مدينة تاورغاء، هذه الأيّام، في العراء تحت خيام رثّة بعد أن تمّ منعهم من العودة من العودة الى مدينتهم من قبل مجموعات مسلحة من مدينة مصراتة، فرغم الاتفاق المبرم بين المدينتين برعاية المجلس الرئاسي ومباركة الأمم المتّحدة، لم يتمكن نازحو تاورغاء من العودة الى مدينتهم الخاوية على عروشها منذ سبع سنوات.

وتبدو مأساة تاورغاء كأحد أبشع المشاهد في لوحة "17 فبراير" فقد تمّ تهجير سكان مدينة بأكملها وارتكبت في حقهم أبشع الجرائم، وتم تشريدهم في مخيمات اللجوء في مختلف مدن البلاد في ظروف إنسانيّة قاسية وصعبة جدًا، فضلا عن الاعتقالات والانتهاك الجسيمة التي تعرّض أهالي المدينة من قبل مجموعات مسلّحة من مدينة مصراتة.

تعود المأساة الى أواخر العام 2011 مع سقوط نظام العقيد معمّر القذّافي، حيث بدأت عمليات التهجير والاعتداءات تحت عناوين "الثأر" و"الانتقام" وبتبريرات انحياز المدينة إلى صف النظّام والجيش الليبي طيلة الحرب، ومشاركتها في الهجوم على مدينة مصراتة أحد أهم معاقل "ثورة 17 فبراير" في ليبيا.

وطيلة سبع سنوات ظلت الأزمة تتعمّق والمشهد يزداد مأساويّة، ورغم كل محاولات التقريب بين الطرفين التي رعتها أطراف عدّة ودعت إليها معظم المنظمات الحقوقية الدّولية والمحليّة، ورغم تواصل بيانات الإدانة والشجب لما يتعرّض له أهالي تاورغاء، ورغم ما توصّل له مسؤول من الجانبين من اتفاق يقضي بالعودة والتعويضات لكلا الطرفين وبرعاية من حكومة الوفاق الوطني المدعومة أمميًا، إلاّ أن المأساة ظلّت على حالها، ولم يجن التاورغيون إلاّ مزيدا من العذابات والتهجير.

هذا التناحر المناطقي لا يتوقّف عند حدود مشكلة تاورغاء ومصراتة، بل تفجّرت أيضًا على هامش "ثورة 17 فبراير" عشرات الأزمات الأخرى بين عدد من المناطق في البلاد، وصار التقاتل على الهويّة والحروب تحت عناوين مناطقيّة شيئا مألوفا طيلة سبع سنوات، ورغم جهود المصالحة التي بدأت تعطي أكلها بشكل تدريجي وبطيء، فإنّ هذا المشاكل يلزمها الكثير من العمل والإرادة لتصفية تأثيراتها ونتائجها الحالية وعلى المستوى البعيد.

هذا الانفجار الكبير في "الهُويّات الصغيرة" بعناوينها القبليّة والمناطقيّة والذي يضع ليبيا في أزمة حقيقيّة في علاقة بالتعريفات الأكثر الاختزالية لمعنى المواطنة، يظهر في كل مناطق البلاد، فالجنوب الليبي (مثلا) تحوّل الى ما يشبه القدر الكبير الذي يغلي بالحروب والأزمات العرقيّة والقبليّة في ظلّ غياب شبه تام للدّولة، ما فتح بابا واسعًا للتدّخلات الأجنبيّة لحل هذه الأزمات وهي في معظمها تدخّلات تحت شعار مخاتلة لا هدف لها في النهاية إلاّ مصالح اقتصادية وسياسيّة وتحركها أطماع واضحة للبحث عن نفوذ الجنوب الغني بالثروات الباطنيّة وموقعه كبوابة كبيرة ومفتوحة للهجرة من إفريقيا.

مشكلة أخرى ظهرت في ليبيا، وتبدو الأكثر خطورة لعلاقتها بالمقدّس والتعايش السلمي في البلاد، وهي مشكلة الطائفيّة الدّينيّة وانتشار التطرّف وظهور تنظيمات إرهابيّة منتشرة في مختلف المدن، واستشراء خطاب تكفيري وتبديعي يضرب أسس التعايش المشترك بين أبناء الشّعب وينسف قيمة المواطنة من جذورها ويزرع بذرات من الكراهية لا تخلّف إلا مزيدا من الانقسام وتركّز لمنطق "الهويّات الصغيرة" بديلا عن الهويّة الوطنيّة الجامعة والموحّدة.

فبخلاف الاعتداءات على المساجد والأضرحة والزوايا انفجرت في ليبيا العام الماضي مشكلة سببتها فتوى صادرة عن اللجنة العليا للإفتاء التابعة للحكومة المؤقتة شرق البلاد جاء فيها أنّ "الإباضية فرقة منحرفة ضالة، وهم من الباطنة الخوارج ولديهم عقائد كفرية، كعقيدتهم بأن القرآن مخلوق وعقيدتهم في إنكار الرؤية،  فلا يُصلّى خلفهم ولا كرامة"، وهو ما اعتبره المجلس الأعلى للأمازيغ في ليبيا "تحريضا صريحا على الإبادة الجماعية للأمازيغ في ليبيا، وانتهاكا صارخا للمعاهدات والمواثيق الدولية، وبثّا للفتن بين الليبيين،  وتهديدا للسلم الاجتماعي في البلاد".

لذلك، وبعد سبع سنوات كاملة، يبدو السؤال الأكثر حرقة والمطروح بشدّة أمام هذا المشهد القاتم الملطّخ بالأزمات المجتمعيّة العميقة (والخطيرة) التي فجّرتها "ثورة 17 فبراير" أو انفجرت على هامشها: كم يلزم ليبيا من سنوات أخرى لتعيد ترميم نسيجها الاجتماعي وكم من سنوات تلزم لتعيد للمواطنة معناها الأصيل في ليبيا "وطنيّة موحّدة وجامعة"؟.