تتصدر الأزمة الليبية منذ سبع سنوات، محور المباحثات والتحركات الدبلوماسية، في المنطقة، لما لها من تداعيات مباشرة سواء على الدول الأفريقية جنوب الصحراء أو على دور الجوار تونس ومصر والجزائر. فمع اندلاع الحرب في ليبيا في 17 فبراير 2011، أثار انتشار السلاح بشكل كبير لا سيما المعدات الثقيلة والأسلحة المتطورة، قلق الدول الغربية وأيضا مخاوف إقليمية ترجمته دول الجوار المذكورة برفع تواجدها العسكري على الحدود مع ليبيا، خشية وصول تلك الأسلحة إلى بعض المنظمات الإرهابية.

ليبيا.. سوق سلاح مفتوح:

أدى انتشار السلاح الليبي بعد انهيار نظام العقيد القذافي إلى تغذية مناطق الصراع في الجوار الإقليمي، وتأزيم الأوضاع الداخلية للبلاد واستمرار النزاعات بين الجماعات الحكومية وغير الحكومية، الأمر الذي جعل البلاد أمام تحد أمني مع ظهور تشكيلات مسلحة بدعوى حفظ الأمن والنظام في المناطق المحررة، فقد بدأت بمجموعات بسيطة ثم تنامت أعدادها حتى تجاوزت في مدينة بنغازي (45) مجموعة، البعض منها غير معروف العدد والسلاح، وتجاوز عددها في العاصمة بعد تحريرها أكثر من (100) مجموعة وتحول البعض منها إلى مجموعات جهوية وأخرى تتبع أيديولوجيات معينة أو لغرض فرض السلطة والحصول على المال.

لقد أدى انهيار المؤسسة العسكرية والأمنية في ليبيا إلى وصول العامة للسلاح بأنواعه «الخفيف-المتوسط-الثقيل والمتطور» في كافة مخازن الجيش والشرطة للاستعانة به في مواجهة النظام ثم نقله بعد ذلك إلى دول الجوار كمصر وتونس والجزائر ودول الساحل الأفريقي، حيث ينشط تجار السلاح في مجموعات منظمة للتجارة فيه. وبسبب كل هذه الظروف، تحولت الأراضي الليبية إلى منطقة عبور وانطلاق لأخطر أنواع الجريمة المنظمة «تجارة السلاح» ما أثر سلبا على ليبيا وزيادة حدة اضطرابها الأمني من جهة، وتهديد أمن واستقرار دول الجوار الإقليمي من جهة ثانية.

ويمكن اعتبار مصر أكثر دول الجوار تأثراً بفوضى انتشار السلاح على حدودها الغربية، وأخطر مظاهره استهداف 21 من أبنائها ذبحاً بداية 2015، مع ما أثارته تلك الجريمة من ردود فعل شعبية قوية وضغوط على الحكومة من أجل الرد العسكري عليها. غير أن ما جعل القاهرة تُحجم عن السير منفردة في خيار الضربات الجوية هو التحفظ الدولي عن المشاركة في تحالف واسع لضرب الميليشيات المسلحة في ليبيا، وظهر ذلك البرود خاصة في رفض الجزائر التجاوب مع موقف مصر الداعي لاعتماد الخيار العسكري وكذلك تحول موقفي روما وباريس، اللتين كانتا الأكثر حماسة للانخراط في تحالف دولي لشن غارات على مواقع «داعش» في ليبيا قبل أن تنتقلا إلى الدعوة إلى حل سياسي.

ودفعت الأوضاع الأمنية المنفلتة داخل المدن الليبية وعلى الحدود دول الجوار إلى اتّخاذ إجراءات أمنية مكثفة تحسّبا لأي طارئ، فقد قامت الجزائر، بتعزيز وحدات الجيش المرابطة على الحدود مع ليبيا بـ 5 آلاف عسكري. فقد أصبحت الحدود الجنوبية بين ليبيا ومالي والنيجر سوقا مفتوحة تتخذ منها جماعات إرهابية أو إجرامية مركزا للتخطيط وتنسيق أنشطتها وتنسيق عملياتها وتخزين ونقل وتهريب العتاد غير المحدود خارج ليبيا.  والخطورة لا تتوقف على انتشار السلاح على الأوضاع في ليبيا فقط، وإنما تمتد أيضا إلى الدول المجاورة لليبيا، حيث نشطت عصابات تهريب السلاح عبر الحدود الصحراوية الممتدة لليبيا في الشرق مع مصر، والجنوب مع السودان، وتشاد، والنيجر، ومالي، والغرب مع الجزائر وتونس.

 كما توجد تخوفات من انتقال هذه الأسلحة إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والمتمردين الطوارق في مالي والنيجر، أو المتمردين في أفريقيا جنوب الصحراء. كما ذكرت مجموعة من التقارير الإعلامية أن جماعة «بوكو حرام» المتشددة في شمال نيجيريا وجماعة القاعدة ومتمردو الطوارق، على كميات لا بأس بها من الأسلحة المهربة من ليبيا، إضافة إلى النشاط التهريبي للسلاح بمختلف أنواعه مع الحدود المصرية والتي تذهب إلى مناطق الصعيد، حيث النزاعات القبلية بين القبائل وعائلات الصعيد، وعمليات الثّأر التي تستدعي ذلك.

ويعتبر الانتشار الواسع والكثيف للأسلحة في ليبيا، فاعلا رئيسيا في استمرار وتأزم الأوضاع الأمنية فيها، من خلال سيطرة كل الفصائل السياسية والقوى الفاعلة فيها عليه، وبالخصوص أن هذه القوى لها أعضاء في مختلف الميليشيات والكتائب التابعة للثوار، وتمتلك السلاح الكثير بمختلف الأنواع، الخفيف منه والمتوسط والثقيل، من مسدسات، وكلاشينكوف، إلى مضادات الطيران التي يطلق عليها الليبيون م.ط. وراجمات الصواريخ ومدافع الهاون والمورتر، وغيرها من الأسلحة الفتاكة والمدمرة التي باتت تهدد الأمن الإنساني في ليبيا وجوارها، والسيطرة الكاملة على كل مخازن الأسلحة والعتاد الموجودة في كل البلاد، والتي كان يعززها القذافي طوال فترة حُكمه.

ضعف دولة وحدود سائبة:

تنشط في ليبيا منذ سنوات، شبكات تهريب الوقود والمحروقات عبر البر والبحر، استفادت من تدهور الوضع الأمني في البلاد لتوسيع نشاطها إلى مالطا وصولاً إلى إيطاليا، وقد وقع تهريب حوالي 102 مليون لتر خلال الأشهر الأخيرة من سنة 2017، بما يعادل 20 مليون لتر شهرياً. وسبق أن أكدت عدة مؤشرات أن ليبيا صارت أرضا خصبة للمافيا التي تتعاون مع المهربين وتشتغل على كافة المستويات سواء في تهريب النفط والبشر والسلاح في ظل الإمكانيات الضعيفة لخفر السواحل الليبي، وتعمل شركات التهريب على تصدير النفط من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وبيعه إلى شركات الوقود العالمية بأسعار تنافسية ثم تغلق هذه الشركات. وتسببت حالة فشل الدولة التي تعيشها ليبيا، في عدم قدرتها على التحكم في حدودها وبسط سيطرتها على كافة أراضيها، ما أوجد حالة من انسيابية الحدود وجعلها رخوة، مما ساهم في الإضرار بأمن دول الجوار خاصة مصر وتونس والجزائر، بدءا من سهولة انتقال العناصر الإرهابية من وإلى ليبيا، إلى جانب عمليات انتقال الأسلحة والمواد المخدرة.

وإلى جانب ذلك تتسبب الإدارة المزدوجة لأمن المناطق الحدودية في جعل حدود الدولة رخوة وقابلة للاختراق، فوجود أكثر من قوة أو إدارة تتولى أمن الحدود يؤدي إلى عدم التنسيق، فمثلا توجد أكثر من قوة سياسية في ليبيا تخضع مناطق حدودية لسيطرتها، حيث تسيطر حكومة الإنقاذ غير المعترف بها دوليا على مناطق واسعة شمال البلاد، خاصة على البحر المتوسط ما يسهل عمليات التهريب، كذلك حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج تسيطر على بعض المناطق، ومثلها الحكومة المؤقتة برئاسة عبد الله الثني تسيطر على مناطق شرق البلاد.

ومن مظاهر الانفلات الأمني تزايد شبكات “اقتصادات الحدود”، عبر عمليات التهريب الواسعة ونشوء تجارة موازية غير شرعية، ويتضح ذلك بوجود عصابات كاملة لتهريب اللاجئين إلى أوروبا عبر السواحل الليبية، إلى جانب عمليات تهريب البضائع والسلاح من قبل المليشيات والعصابات التي تسيطر على مناطق ومنافذ كاملة. وتسبب الحدود المشتركة لليبيا مع عدة دول تهديدات أمنية واستراتيجية، فطول حدودها مع مصر وليبيا فقط يتعدى ألف كيلومتر، بخلاف حدودها مع تونس والجزائر والسودان وتشاد والنيجر، ما يسهل ليس فقط عمليات التهريب والتجارة غير الشرعية وإنما انتقال العناصر الإرهابية من وإلى داخل هذه الدول.

وقد نبه تقرير للأمم المتحدة، مؤخرا إلى أن الإرهابيين في ليبيا يحاولون الاستفادة من شبكات التهريب، لأجل الحصول على موارد جديدة تتيح لهم العودة لاستعادة موطئ قدم في البلاد.  وأورد التقرير الذي جرى تقديمه لمجلس الأمن الدولي، مطلع فبراير 2018، أن الإرهابيين التكفيريين أوفدوا مبعوثين مع مبالغ نقدية مهمة، لأجل تعزيز علاقاتهم في منطقة الجنوب، وحاول موفدو الجماعة الإرهابية أن يقيموا علاقات مع شبكات التهريب، حتى يقدم الإرهابيون حماية مدفوعة الأجر للمهربين.

وعلى الرغم من كل الجهود، تمكن آلاف الإرهابيين وأغلبهم من الأجانب، من الفرار والتجمع في مناطق صحراوية خارجة عن سيطرة الدولة، وبقوا يحاولون العثور على مصادر دخل، ونبه التقرير إلى تزايد نشاط الاتجار في البشر داخل ليبيا، على الرغم من الجهود المبذولة لتطويق الظاهرة، مما يشكل انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان.

وأنفق الاتحاد الأوروبي، في يوليو من العام الماضي، 46 مليون يورو على مشروعات لكبح وتيرة الهجرة عن طريق ليبيا، كما دفعت السلطات الإيطالية ملايين الدولارات للمهربين حتى يوقفوا نشاطهم. وأحرزت الخطط نجاحا ملموسا، ذلك أن وتيرة الهجرة تراجعت بـ67 في المئة، ما بين يونيو ونوفمبر مقارنة بالفترة نفسها من العام 2016.

ومنذ فترة حكم معمر القذافي قدِم الكثير من المهاجرين إلى ليبيا لأجل العبور إلى أوروبا، لكنهم بقوا فيها للعمل ولم يغادر منهم إلا القليل، إلّا أنه بعد سقوط النظام في 2011، لم تستطع أي من الحكومات المتعاقبة بسط سيطرتها على حدود البلاد لوقف تدفق لمهاجرين وأخفقت في تأمين الشواطئ لمنع مرورهم إلى أوروبا حتى تحوّلت البلاد إلى ما يشبه سوقا للتهريب والاتجار بالبشر.

ما يمكن الخلاصة إليه أن المرحلة المقبلة من تاريخ الدولة الليبية ما تزال غير واضحة المعالم، لعدم وجود قوة عسكرية ليبية منظمة واضحة الولاء، أو وجود ترتيبات سياسية قانونية جدية لمرحلة ما بعد القذافي، خاصة فيما يتعلق بشكل النظام السياسي المقبل، وهو ما يجعل الوضع في ليبيا مرشحا لعدم الاستقرار، وهو ما يستدعي بالضرورة تضافر الجهود المغاربية والإفريقية لاحتواء الأزمة الليبية.