لم يكن اختيار الكونت (جوزبي فولبي) الوالي الايطالي  لطرابلس ما بعد احتلال 1911) م) لمكان إقامته اختياراً عبثيا فيبدو إنه كان منساقاً وراء رغبات زوجته (الكونتيسة فولبي ) ذات الاهتمامات (الإستشراقية ) الفنانة والمثقفة ذات الاصل الارستقراطي الرفيع ..

شهد على هذا مكتبتها العظيمة  ، التي تم الاستفادة منها لاحقا بعد هزيمة المحور على يد الحلفاء  ، وذلك للتأريخ للعهد الاستعماري الايطالي لليبيا ، إضافة إلى هوسها  بجمع كل التحف والرموز ذات الدلات التاريخية و (انتيكات ) المشرق الكبير  .. لذا كان المكان الذي اختاره الكونت كمستقر له هو القصر نفسه الذي انشأه ( احد الامراء القرمائلين) في عهد (على باشا القرمائلي ) في عمق حزام الخضرة الذي يحيط بطرابلس والمسمى بـ(ساحل المنشية ) ..وقد فرضت ضرورة وضع قواعد هذا القصر ومن ثَم بناؤه ، العلاقة ذات الطراد المستعر بين أهالي المنشية والاسرة (القرمائلية ) كحلفاء حينا وكمتمردين حينا آخر .

القصر القديم والذي ثم إعماره على الطراز الاسلامي أو بتحديد أكثر على الطراز التركي الاسلامي وبتصرف (قرمائلي) ، كان يقع وسط مزرعة محاطة (بسواني) أهالي المنشية ( يتردد  الى الان ) انه ملك لعائلة طرابلسية عريقة القدم  لقبها ( ابودلغوسة ) ، يبدو أنه اغرى (الكونتيسة فولبي ) وزوجها المهووسين بالعمارة وسط جنائن الخضرة  ، فأكملا بناء القصر بدون لمس ركائزه وملامحه الأساسية  ، فقط ما فرضته عليهما ضرورة العصر والمضاف من الإنشاءات لأصل البناء دفعهما لدعم المكان بلمسة جمالية ايطالية طفيفة

 (وللتذكير لم يحرما من هذه اللمسة حتى من صدر  البناء وواجهته  لكن بدون ان تمس بأصالته )

 لمسة فرضتها الضرورة العصرية لمنتصف العشرينات من القرن الماضي ، ولاستكمال هوسهم  احاطوا البناء الكبير  بحديقة عظيمة ، التفت حول القصر كحزام منشية شقيق ، واستكملوا عملهم بإحاطة الحديقة بسور ناصع البياض .. قصير الارتفاع ..  يقف كحارس ذلك لما حمله المكان من بعد سياسي  (كونه مقر الوالي ) ، وفي نفس الوقت كي لا يكون الجدار عاليا حاجزا حائل لتناغم الجنتين جنة القصر واوركسترا امتدادها الطبيعي وتلاحم شجيراتها مع جنة  سواني اهالي المنطقة ، لذا لم يكن هذا الانشاء العظيم  نشازا وسط تلك البيئة  الزراعية ، والمحاطة بالنخيل واشجار الحمضيات وسواني الفلاحين الليبيين المشهورين بزراعة الخضار  البرسيم مع اضافة (أوراق التبغ ) كمحصول وكانوا قد شرعوا في  ذلك  من اواخر حكم (العصملي ) لليبيا  لكونهم استحسنوا  ثمنها ولاحتكار ودعم الدولة لمنتوجها والذي زاد (فرنكات ) في زمن الاحتلال الايطالي فاستبدلوها بالكثير من محاصيل  سالف المكان والتي كان اهمها ( البرسيم ) .

اهتمت  (الكونتيسة ) بالقصر وبالحديقة فجمعت بهما العديد من المقتنيات المحلية الليبية ،إضافة إلى العديد من المقتنى الاثري الروماني زد على ذلك مجموعه نفيسة من مشترياتها من كل أنحاء العالم (فقد كانت مهووسة بالسفر وجمع كل مقتني اثري من أي مكان تحل به ) كانت  تلك المقتنيات يشهد لها بالقيمة المادية والثقافية العظيمة أما الحديقة ( والتي ذهبت في عرفنا إلى الآن نحن جيران السيدة فولبي باسم الكونتيسة ) فقد جعلتها مشتلا لكل أنواع ورود وزهور وأشجار العالم ، والتي استخرجت بذورها من حقيبة سفرها ..مستعينة ببئر الماء ذا السالفتين (كسوالف صبايا طرابلس) والذي جعلته وسيلتها لصنع كل تلك الجنة ، مستعينة بخبرة جيرانها من الفلاحين  واشرافها  لتجعلها روضة من حمرة وصّفار واخضّرار وخوخ وتفاح وبرتقال تليق باستقرارها الأخير هي وسعادة الكونت  ومنتهى ترحالهما حول العالم (تبث لاحقا  أن الترحال هو قدرها الدائم على عكس ما قدرت لنفسها  ).

كانت تجلس بالحديقة ،كل ليلة تحت القمر، لتراقبها تنموا ،ولتكمل ما فات عليها من  زينتها  ، وذلك على احدى الكراسي الخشبية المنتشرة تحت حجارة قصرها  والذي كان انعكاس ضوء القمر على  بياضه الثلجي يجعله يشع على كل السواني المحيطة به ، أما ما تبقى من خبايا جماله  ، فيتسرب عبر ما يسمح انعكاس القمر بمروه خلسة من بين  خصلات شجيراتها المتشابكة والمتدلية على سور المكان الى جيرانها الطفيليين  يحدث ذلك نتيجة لشرود غصن مارق من اجمة من تلك الاجمات الحارسة ، والتي تحيط بكل المكان  ، في انضباط حرس امبراطوري قديم ، حرس  من اصل نبيل ، يقف كملاك حارس لهيبة المكان  وليكمل صورة سطوته .

  كان ـ ولازال ـ هذا التناغم والجدل الرفيع والذي يدور همسا كل ليلة ما يبين القصر وتوأمه الحديقة هما متعة حينا نحن احفاد مزارعي التبغ.. والذي سمي لاحقا  بـ (بشارع البي ) ومصدر فخّارنا ..فقد .كان ربيعنا يمتد طوال العام ،وفي كل يوم كان لنا عطر يختلف ، فزهور  تلك الشجيرات العطرات ،  لكل زهرة عطر ولون وموسم ، وكان لبعضها موسمان ، أما بعضهن فكأن بذورهن سقطن من الجنة ، فقد كن مزهرات طوال العام ،  أما (مسك الليل ) ففي وسط كل هذا العبق كان كزجاجة عطر على منضدة العطار .. كل هذا زاد من ميزان  حينا ، ورفع من عياره كذا مثقال .

لم يطل مقام الجنرال بالمكان كثيرا،  فقد كان مثقل بالخسائر من ضربات المجاهدين الموجعة ، لذا لم يتجاوز عمر مهمته كحاكم لطرابلس العشر سنوات (من 1922 الى 1933 ) وبما إنه كان محسوبا على زمن  ايطالي اخر (ما قبل الفاشية ) ولم يقد م للفاشية ما تحلم به من امجاد ، فقد آن له الرحيل ، مثقلا بالخيبات  ، بالمقابل كان  حلم ( الكونتيسة )  بالاستقرار بجنة احلامها يسقط  صريعا في بلد هفت لها نبضات قلبها  الارستقراطي المفعم

      بالرومانسية والمتعب من كثر الترحال  والراغب في الاستقرار خاصة وأن القصر لتوه وصل لمرحلة الكمال ووصلت الشجيرات ومشاتل الورد لقمة عطائها لكنه التاريخ وضروراته ..  

كان قدرها أن تكون (كسكارليت ) سعفة في مهب الريح والاقدار المفجعة ، التي توالت بعد ذلك فالتاريخ كان ينسج امر اخر للمكان ولأهله ولليبيا كلها ، بل ولكل العالم ، فغادرت السيدة (فولبي ) منتهى احلامها ، وتركت جنتها ،  لكنها اخدت معها محبة أهل الحي  الذين كانت لتوها قد نجحت في ربط  صلاتها بهم ، اولئك زراع التبغ والبرسيم والخضار و المتجذرة نخلاتهم بالأرض من الف عام والي الف عام القادمة .

( لازالت بعض تلك النخلات تقف شامخة بالحي الى وقتنا هذا  غصبا عن كل متغيرات التاريخ  ومحركاته التي مر بها العالم كله والمكان من قبل تلك الفترة الى ما بعد هذه الوريقات   فجدورها بالأرض اكثر ثباتا من الحبر في كتبه ) .

كان العالم مقبل على حقبة جديدة وملتهبة فقد اتخذ (  موسليني ) خطوة اخرى بالفاشية واحلامها ، خاصة بعد  صعود نجم ( هتلر) بألمانيا ، حينها بداء العالم يكتب سطورا لموت لم يشهد له مثيلا من قبل ، تمثل  ذلك في حرب عالمية تانية ،لم ينجو موطأ قدم بهذا العالم (وان تفاوت الأمر نسبيا ) منها ، وبما أن ليبيا بقلب جغرافيا و تاريخ العالم واحداثه ، فقد كتب عليها أن تكون طرفا  بهذه المجزرة ، أما ( الكونتيسة ) وقصرها فقد دخلتا لسبات استمر حتى عام   1944 ، فانسدلت اغصان شجراتها كدموع على جسد ذاك القصر المهيب ، فقد ظلت  بدون اهتمام  او رعاية  كان هذا ما يحزن الناظرين ، أما بالنسبة لها فالأمر لم يدل على حزنها ، بقدر دلالته على  مقاومتها وتشبتها  بوقفتها المكابرة ز

( لقد اخذت تلك القلعة الكثير من سلوكيات من شيدتها كالرتابة والتناسق والاتزان فهذه المعاييرمع إنها كانت زينة حدبقة الكونتيسة وقصرها لكن صمودها زمن الحرب فرض وقوة تجدرها بالأرض فرض على الجميع احتراما اخر لها    )

وكان موسم البرتقال وموسم النخيل هما الاشارة الاكثر دلالة لأهل الحي لكونها باقية معهم ، ولم تخذلهم في سنوات جوعهم  وجفاف حقولهم (فالحرب قد صادرت كل شيء ، أما أثمان اقواتهم فلقد فاقت قدراتهم وقدرات عطاء سوانيهم الصغيرة المساحات وسواقيها العطشى دائما للمطر ) لذا كانت سلال البرتقال وعراجين النخلات والتي كانوا يقفزون السور لجمعها واقتسامها  هي سبب تشبتهم بالمكان وعدم الرحيل ، كما فعل القليل منهم حين اجبره الجوع على بيع اراضيه لبعض المرابين .

(جاء في سجل بلدية طرابلس لمئة عام  الصادر سنة 1970  عن الاحوال الاقتصادية زمن الحرب أن النقود فقدت قيمتها الى الخمس وكانت اسعار السوق السوداء تفوق الوصف وزادت الضرائب ولم تزد الأجور وخلت المتاجر من السلع) ..

وقد حدث  ونجح من بقى منهم فعلا وبمساعدة جنائن ومزروعات (الكونتيسة ) في تجاوز مرحلة الحرب والعودة لمعترك الحياة من جديد.

بعد هزيمة المحور ودخول الحلفاء مع طلائع الجيش السنوسي كما سمي حينها ،كتب (المشيرقي ) في كتابه (ذكريات نصف قرن من الأحداث الاجتماعية والسياسية في ليبيا )  أن كثيرا من اجتماعات الاباء المؤسسيين للاستقلال بطرابلس  دارت تحت ظلال شجيرات ( الكونتيسة ) والتي بدأت بالانتعاش من جديد وكأنها تنتصر لنفسها بعودة  السلم للعالم بل الاحرى بعودتها كمحور رئيس للمتغيرات التاريخية بليبيا والتي كان بدايتها بنشر  ظلالها على اجتماعات رجالات الاستقلال من الحزب الوطني بقيادة ( بشير السعداوي )

انتصرت ليبيا وعادت لممشى التاريخ كأول مملكة دستورية  ديمقراطية بالمنطقة وعادت (الكونتيسة) لترتفع اغصانها من جديد ..كذلك رفعت  خصلات شجيراتها لتظهر للعيان بتلات ورودها ، لتشارك الجميع شداها وعطرها  ، لكن  هذه المرة  قد حدث ما ادمع تلك البتلات ، فقد بدأت تخسر من مكملات جمالها ما يحيط بها من ويشد من ازرها من امتداد خضرتها مع السواني المحيطة بها  ( بتقسيم شارع البي كما سمي حينها كمخطط سكني )   فلا مشتل لسلطة ، ولا حوض للنعناع ، ولا عطر تحت السواقي ،  لا بسيم ..ولا تبغ يتدلى علي الخيوط المعقودة بسيقان النخيل والذي بدوره لم ترحمه هذه النهاية فقد اقتلع الكثير منه من جدوره ، كانت فاجعة تلك النهاية ، التي  انتهى اليها  ذاك الافق ، الذي كان يحيط بمعصمها ، فيجعل من   بياض قصرها وسوره ، مجرد تفصيل من صورة مكتملة لكون من  الجمال قوامه خضار وعطر وريحان  وتبغ ونخيل  يتوجها جميعا اكليل من بياض القصر وما اختارت( الكونتيسة فولبي ) من زهور العالم ومختاراتها اضافة لسحر لون البرتقال ...

تغير المحيط فها هو العالم يتغير مرة اخرى   ... فرائحة النفط  التي فاحت بعد الحرب ، ابعدت عنها جيرانها اصحاب الحقول والمزارع  وسواقي الماء ، و جدبت للمكان سكانه الجدد ، من مغامرين سكنوا بيوت من صفيح ويعودون اليها  كل يوم بثياب مضمخة بزيت اسود  ،لا يخلو من رائحة الموت ، واخرين من موظفين وعاملين بكل المجالات ، جاءوا من كل جغرافيا  ليبيا ، ليعكروا عليها ما اعتادت عليه من  دعة وهدوء .. تركها جيرانها الفلاحيين  الذين بادلتهم لعقود العسر والميسرة ، فمنهم  من تخلى عن  شدا عطرها واتبع رائحة النفط العفنة ، فباع (سوانيه ومزارعه )  ورحل ، ومن بقى منهم لحق بركب غيره و التحق بالوظيفة او التجارة  ، مكتفيا ببيع بعضا من اراضيه .. حينها كانت المدينة تفرض شروطها وبقسوة على الارض وعلى الافئدة .

غادرت الجنانات والسواقي جيرانها الذين تعودت عليهم   ، لكنها بالمقابل اكتسبت جيران جدد .. عندها فقط اكتسب الحي اسمه الجديد (وتخلى غن كونه امتداد لساحل المنشية ) صار باسمه الحالي ( سيدي خليفة ) بمحوريه شارع البي وشارع الزاوية ، اللذان استمرا باسميهما بدوت تعديلات ..  حينها كانت طرابلس تعلن عن نفسها ، بحلتها الجديدة كعاصمة عصرية ،  في عالم ما بعد  الحرب ، فانتشرت ابجديات  العصر على الارض ، بالمقابل خسرت  في اندحار  شبه كلي ، ساحل المنشية الاخضر ، فرسمت نفسها في ثوبها العصري كمربعات من خرسانة واسمنت ، تخللتها  خطوط سوداء اكتسبت لنفسها  اسم الشوارع والازقة  ..

وحده شارعنا  ، تفرد بذاك القصر المهيب ، وتلك الواحة الخضراء ، والتي لن تبخل على جيرانها الجدد بعطرها وشداها وبرتقالها ورطب نخيلها ، ارتضت بواقعها الجديد  ، ولم تبادلهم قسوتهم على محيطها ، فهي لم تسقط من الفضاء ، بل هي كانت هناك لضرورات اقرها  عليها التاريخ ، فاستكانت بدعه لواقعها ولجيرانها الجدد ، والذين كونوا  علاقة بالمرأة الايطالية  الجديدة والتي ورثث و اقامت بالمكان ، والتي رأى السكان الاقدم بالمكان فيها صورة السيدة  فولبي فتداولوا  بينهم أنها ابنتها  وهي.. لم ترفض ذلك ..وهم لاخلاق انذثرت الأن لم يقسوا عليها يالسؤال وتكراره   ، خاصة وأنهم لم يشعروا بأي تغيير في المعاملة بينهم وبين السيدة  الجديدة ، والتي يبدوا إنها كانت لها نفس روح وسلوك السيدة ( فولبي ) الاصل ، فاستعانت ببعص رجال الحي للعمل معها وعلى الاهتمام بالشجيرات ، وكل تفاصيل  المكان ، فكان من نصيب عمي (القيلوشي) الاهتمام بمشاتل الورد والشجيرات وبستان البرتقال ، واخذ عمي (محمد المجريسي ) على عاتقه رعاية النخلات كان رحمه الله يصل الى اعلاها بجسده الخشن  ( بالوصلة ) فينظف جريدها ، ويرمي من عنقها ما ترسب من سواد  و (كرناف )، وبقايا  الموسم الماضي ، بعد ذلك يقوم بتلقيحها مرتين متتاليتين كل عام وحين تكتنز العراجين  يلفها حول ذاك العنق بالحبال ، فتتدلى كأقراط ضخمة من ذهب حول جدوع تلك النخلات ، وخين يحل القطاف  يقوم بصعوده الأخير لينزل حصاد عام من الكد والصبر والمثابرة ..كذلك اشتغل معها اربع من منطقة زليطن كانت لهم عادة غريبة انهم يحومون على كبر مساحة الحديقة وعند كل زاوية من سورها كانو يعلقون بخصرهم حزام جلدي به حبل  يسحيونه بالكمل عند تلك الزاوية ويعودون  لاستكمال طوافهم  ليعيدوا نفس الحركة بالزاوية التالية بحديقة القصر ...كان ذلك حينها اختراعا حديثا  فذلك الحزام كان حامل ساعة وكان ذاك الحبل محرك (زنبريك ) يفرض عليهم بعد عودته لمكانه موعد السحبة التالية .

 عادت الكونتيسة لمجدها القديم بالتالي لعطائها اللامحدود بفضل السيدة (فولبي ) الأبنة،  والتي كانت تقسم الموسم على ثلاث  حصص لعمي محمد واحدة وخصة لها وحصة لكل جيرانها .. وبالمقابل بادلها الجيران الود فكانوا يدعونها في مناسباتهم فتشاركهم فرحهم بعض الاحيان وفي مناسباتهم يرسلون لها الاطفال بحصتها من مأدبة كل مناسبة او موسم عيد فلم يطل الامر لتجد نفسها مع بعض المحافظة على الخجل الاوربي  من ضمن نسيجهم الاجتماعي ..اما الاطفال  فقد جعلتهم جزء من زهور الحديقة لذا كان الباب الحديدي الكبير  مفتوحا لاستقبالهم طيلة اطراف النهار  ...

الكونتيسة ..ليست مجرد (شجر وحجر ورخام ) بل هي ظرف مكان وزمان  ايضا ، بالتالي هي  شاهد  وطرف في كل الاحداث التي مرت بها البلاد ، فهي وإن كانت تعيش في تلك الدعة وذاك الوئام   في تلك الحقبة بين أواخر الخمسينات و اوائل الستينات ، إلا إنها كانت  تعلم جيدا ومن أول تاريخها  حين بناها امير قرمائلي فارا من غضب أبيه  ليتحصن بأحلافه من أهالي المنشية  ، إنه مقدر عليها ان تكون طرفا بكل الاحداث التي مرت و ستمر بها البلاد .. فقد كانت هناك بمرحلة الاحتلال الايطالي وعلى موائدها العظيمة وضعت الخرائط امام الكونت فولبي وخطط للكثير من المعارك ضد المجاهدين  ..بعد ذلك  مرت على  حربين عالميتين  ،وتحت ظلالها دار الكثير من حوارات الآباء حول الاستقلال  ،حتى عند قدوم النفط كان  وكأنه توقف تحت اسوارها ،  لذا وإن كان الجمال والعطر والشذى سماتها ، لكن القلق من القوادم كان روحها  وحجر اساسها التي لا يشاركها فيها حتى بئرها الخاص  ذي السالفتين  رفيق بدايتها حين وضعت اساساتها الأولى ..

رغم هذا لم تتوقف عن العطاء ومشاركة الجيران عطرها و شداها ، ومشاركتهم اتراحهم وافراحهم  ،فكم كانت تطرب لصوت (المالوف ) الاندلسي و الطقس الغنائي الجمعي للأهالي ، وهم يرددون قصائده  في ذكرى مولد النبي  أو بخميس الزفاف بأعراس الحي وهو يصعد محاديا اسوارها حتى أنها  كانت تهتز  طربا لصوت ( الغيطة والطار ) اغصان شجيراتها .. شجيراتها التي لم تكن بغافلة  عن مراقبة الافق حيث  كانت تتكون العواصف  والسحب فوق البحر وتتشكل القادمات من أعاصير  التاريخ ..وقد اثبتت السنون القادمة أن قلق (الكونتيسة)  لم يكن بأضغاث أحلام بقدر ما كان قراءة مسبقة وواقعية  للتاريخ . ولأحداث لاحقات عانت ليبيا من ويلاتها الكثير ودفعت لأجل أن تتجاوزها من دم اولادها ودمع أمهاتهن الكثير ايضا .