كلمة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، غسان سلامة، أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة
16 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017
السيد الرئيس، أعضاء المجلس الموقرين
أود أن أهنئ إيطاليا على ترؤسها لمجلس الأمن هذا الشهر. ويسعدني أن يترأس هذه الجلسة الوزير ألفانو، وهو ما يعكس التزام إيطاليا القوي بدعم الجهود التي تبذلها الأمم المتحدة لإنهاء الأزمة في ليبيا.

لقد مضى شهران على إطلاق خطة العمل من أجل ليبيا. وتنطوي خطة العمل هذه على عدد من العناصر التي بدأت البعثة في العمل عليها في وقت واحد، بما في ذلك تعديل الاتفاق السياسي الليبي، وتنظيم الملتقى الوطني، والتحضير للانتخابات وتقديم المساعدات الإنسانية.

ربما تبدو الحالة الليبية بسيطة. فهي كدولة تخلو من انقسامات عرقية أو طائفية صارخة بل تتمتع بمستوى تعليمي جيد وثروة من الموارد الطبيعية؛ والعديد من التحديات التي تواجهها أماكن أخرى غير موجودة فيها.

غير أن ما يمكن التوهم في اعتباره أمة متجانسة، هو في الواقع بلد منقسم حد التشظي. فبعد اندلاع النزاع في عام 2011 وتأججه على مدى السنوات اللاحقة، انهار النسيج الوطني. وبدلاً منه، تدفقت أجندات فردية متنافسة تنتحل أحياناً صفة المتحدث بإسم المناطق أو المدن أو القبائل.

إذن فإن إعادة بناء النسيج الوطني أمرٌ لابد منه. إذ بدونه لا يمكن إقامة مؤسسات فاعلة وأية جهود لإعادة بناء الدولة لن تكون سوى مساعٍ لا جدوى منها.

أصحاب السعادة،
يسعدني أن أعلمكم بأن خطة العمل قد حققت تقدماً ملحوظاً خلال الشهرين الماضيين. فقد عقدت الأمم المتحدة جولتين للجنة الصياغة المشتركة المؤلفة من أعضاء من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة للاتفاق على مجموعة من التعديلات على الاتفاق السياسي الليبي وذلك في مكاتب بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في تونس.

وللمرة الأولى، ومن خلال هذه الاجتماعات، تم تنفيذ المادة 12 من الاتفاق السياسي الليبي. وهنا أرحب بالاعتراف المتبادل بين المجلسين وإقرارهما للاتفاق السياسي الليبي على أنه الإطار الوحيد المتوافر لإنهاء الأزمة في ليبيا.

ومنذ هذه الاجتماعات، استمر المجلسان في اتصال دائم. وعلى الرغم من إحراز قدر كبير من التقدم، لا يزال يتعين الاتفاق على بضع النقاط المتبقية. وأنا على ثقة تامة بأننا على وشك التوصل إلى توافق.

ولن نقوم بوضع عملية بهدف اختيار مرشحين محددين، وأية آلية لاختيار مجلس رئاسي جديد وحكومة جديدة يجب أن تتسم بالشفافية والنزاهة. ويسرني أن أفيدكم بأن هذا النهج القائم على المبادئ قد حظي بترحيب غامر من الشعب الليبي.

من المتوقع أن يكون السياسيون في غاية الحماس للسؤال "مَن". ولكن بالنسبة لنا، ما يهم هو السؤال "كيف"، والذي نعني به أنه يجب أن تكون هناك عملية منصفة ومنفتحة وتنافسية.

السيد الرئيس، السادة أعضاء المجلس
العمل جارٍ أيضاً على جوانب أخرى من خطة العمل.

فقد بدأت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بالفعل في الاستعدادات اللازمة للملتقى الوطني، الذي سيعقد في شهر شباط/ فبراير 2018. وفي الوقت الراهن، نحن بصدد بحث إمكانية استضافته داخل ليبيا، وأرحب هنا بالعديد من عروض المساعدة التي تلقيناها من الأطراف الليبية.

وسوف يتيح الملتقى الوطني الفرصة لليبيين من جميع أنحاء البلاد للالتقاء معاً في مكان واحد؛ ولتجديد طروحاتهم الوطنية المشتركة؛ والاتفاق على الخطوات الملموسة اللازم اتخاذها لإنهاء المرحلة الانتقالية.

وأصر على أن يكون الملتقى شاملاً، وذلك من أجل إتاحة المجال لتبنّي ميثاق وطني حقيقي، وتوفير مبادئ توجيهية للتشريع اللازمة لإنهاء المرحلة الانتقالية.

فمثل هذا المؤتمر ضروري الآن أكثر من أي وقت مضى في ضوء تجدد التهديدات التي تشكلها السلطات الموازية للوحدة الوطنية.

وفيما يتعلق بالانتخابات، فإننا نسعى جاهدين إلى إيجاد الظروف السياسية والفنية المناسبة لإجرائها.

إذ يتعين عدم إجراء الانتخابات إلا بعد أن نتأكد من أنها لن تضيف برلماناً ثالثا أو حكومة رابعة. فالليبيون يستحقون مؤسسات وطنية لا اعتراض عليها.

وبغية ضمان الجاهزية، تعمل المفوضية الوطنية العليا للانتخابات على الشروع في تحديث سجل الناخبين قبل نهاية العام، وستكون هذه أول ممارسة من هذا النوع منذ عام 2014. ويقف المجتمع الدولي على استعداد تام لدعم هذه العملية.

ويجب على مجلس النواب، من جانبه، أن يضطلع بواجبه في إصدار قانون الإنتخابات اللازم.

كما يجب أن يكون هناك إطار دستوري واضح. فقد تم انتخاب الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور وتم تفويضها بوضع دستور جديد وقد انجزت مسودتها. وهنا أحيي الثبات الذي تحلّت به الهيئة إزاء الضغوط التي واجهتها وأدين التهديدات الموجهة ضد أعضاء الهيئة.

والآن لا بد للعملية الدستورية من أن تمضي قدماً.

وبينما نعمل معـاً لتنفيذ خطة العمل بمختلف أجزائها، لا يمكن القبول بأي فراغ. لذلك، فإن الاتفاق السياسي الليبي لعام 2015 يجب أن يبقى، سواء تم تعديله أم لا، الإطار المتبع لإنهاء المرحلة الانتقالية.

أصحاب السعادة،
في إطار خطة العمل، تعمل الأمم المتحدة أيضاً على ضمان حياة طبيعية وآمنة لجميع المواطنين وذلك كي يتسنى لليبيين ممارسة حياتهم اليومية دون خوف أو عوز.

ولذا نعمل على تكثيف اتصالاتنا مع المجموعات المسلحة ووضع استراتيجيتنا لإدماجهم تدريجياً في الحياة المدنية.

ففي طرابلس، يعمل خبراؤنا بشكل وثيق مع القوات الأمنية التابعة للدولة لتمكينها من تأمين العاصمة بصورة أكثر فعالية.

علاوة على ذلك، نخن على تواصل مع القيادات العسكرية في جميع أنحاء البلاد بشأن شكل مؤسسات الدفاع الليبية في المستقبل.

إن تحقيق الأمن الإنساني المستدام في ليبيا بحاجة أيضاً إلى سلطة قضائية متمكنة وإنفاذاً مهنياً للقانون ومؤسسات أمنية مهنية. لذا فإن الأمم المتحدة تعمل مع وزارة العدل والأطراف الليبية الأخرى على عدة مبادرات، وعلى وجه الخصوص إصلاح نظام الاحتجاز المريع.

وتواصل البعثة العمل على تيسير الحوار بين المجتمعات المحلية والمؤسسات، ومثال ذلك الاتفاق المبدئي بين طرابلس والزنتان.

وفي هذا السياق، أشيد بقرار المجلس الرئاسي بشأن إنشاء صندوق وطني للتعويضات لجميع ضحايا النزاع.

السيد الرئيس، السادة أعضاء المجلس،
لا يمكن أن نتجاهل الوضع الإنساني المؤلم في ليبيا. في الماضي، كانت هذه البلاد من البلدان المانحة لمعظم أفريقيا، والآن 25% من السكان لديهم احتياجات إنسانية.

فعلى وجه الخصوص، يواجه القطاع الصحي في ليبيا أزمة. ولا يعمل سوى جزء يسير من المستشفيات العامة في البلاد. وهناك نقص في إمدادات الأدوية وغالباً ما تترك الأجهزة الحديثة دون إصلاح. كما فرّ العاملون الأجانب الذين يشكلون العمود الفقري لنظام الرعاية الصحية في ليبيا. ويحذر بعض الأطباء الليبيين من أن البلاد عرضة لانتشار وبائي محتمل. لذا فإننا نعتزم عقد مؤتمر تنسيقي رفيع المستوى بين الأطراف المعنية المحلية والدولية أوائل عام 2018.

إنه لأمر صارخ أن البلد الذي يتمتع بهذه الثروة الهائلة يمر بهذا الكم من المعاناة. ومع ذلك، فإنه يعاني، ولذا يجب علينا مساعدتهم على معالجة المسائل الملحة.

وتسعى استراتيجيتنا الإنسانية إلى المساعدة في تلبية الاحتياجات الملحة لأكثر الفئات ضعفاً. وآمل أن تتمكنوا من النظر في تقديم الدعم لبرنامجنا في عام 2018.

ناهيك عن مرفق تحقيق الاستقرار، الذي تم إنشاؤه منذ عامين، والذي حقق فوائد ملموسة للمجتمعات المحلية في أوباري وبنغازي وسبها وسرت وككلا. وشجع هذا النجاح على توسيع المرفق ليشمل بني وليد وطرابلس الكبرى. وبفضل مرفق تحقيق الاستقرار، تمت إعادة فتح المستشفيات وأصبح للتلاميذ فصول دراسية.

إلا أن هذا ليس كافياً، لا يزال هناك الكثير مما ينبغي القيام به.

وفيما يتعلق بالمهاجرين واللاجئين، وعلى الرغم من المساعدات الطارئة، فقد شهدنا زيادة في عدد الأشخاص المحتجزين تعسفياً في نظام يفتقر إلى المساءلة أو المحاكمة القانونية.

ولا يزال المهاجرون يتعرضون إلى العنف المفرط والسخرة والابتزاز والقتل وغيرها من الانتهاكات الجسيمة داخل وخارج أماكن الاحتجاز الرسمية.

وهنا نحث الحكومة الليبية على التصدي لهذا التحدي على نحو شامل وفوري، وعلى إيجاد حل يحترم حقوق المهاجرين والمجتمعات المضيفة في أنحاء البلاد.

وتقف الأمم المتحدة على أهبة الاستعداد للعمل مع السلطات الليبية وجيرانها في الشمال والجنوب لوضع حلول مبتكرة ومستدامة.

السيد الرئيس، أصحاب السعادة،
وفيما عدا خطة العمل، فقد فرضت ثلاثة تحديات خطيرة نفسها على جدول أعمالنا؛ وهي الإفلات من العقاب عن الجرائم الخطيرة، والإقتصاد القائم على السلب، وتضاؤل الأصول المجمدة.

أولاً، لا يزال الإفلات من العقاب والانفلات الأمني يستشريان في أنحاء البلاد بالرغم من الجرائم الشنيعة التي ترتكب يومياُ.

ومن الأمثلة الأخيرة على ذلك، تم العثور بتاريخ 26 أكتوبر في منطقة الأبيار في مدينة بنغازي على ست وثلاثين (36) جثة تحمل آثار تعذيب قبل إعدام أصحابها. وما هذه إلا واحدة من سلسلة من حالات العثور على جثث ملقاة في مدينة بنغازيومحيطها إبان الأشهر المنصرمة.

وبعد هذه الحادثة بأيام، قصفت طائرة مقاتلة أسرة بأكملها في ضواحي مدينة درنة، قتل على إثرها أربعة عشر شخصاً من المدنيين معظمهم من الأطفال والعديد من النساء في حادث مروع أقرب إلى جرائم الحرب.

وفي 20 أكتوبر في طرابلس، تم تسليم جثث ثلاثة رجال إلى أسرهم بعد ساعات من اقتيادهم أحياء أثناء الاشتباكات في منطقة الغرارات، مما أثار مخاوف من تعرضهم للقتل خارج نطاق القضاء.

ولا نزال بصدد التحقيق في الحوادث التي أدت إلى مقتل عدد كبير من المقاتلين في منطقة ورشفانة غربي ليبيا. وثمة شكوك في أن عدداً منهم قد قُتل بطريقة فيها خرق للقانون الدولي.

حوادث كهذه تزيد من زعزعة ثقة الشعب بالعملية السياسية. وهنا أكرر دعوتي للسلطات الليبية للتحقيق في هذه الحوادث وتحميل الجناة المسؤولية.

ولا يمكنني أن أغض الطرف عن حقيقة أن هذه الحوادث تشهدها البلاد بوتيرة تثير الجزع، ولا يمكنني أن أتقبل تجاهل الدعوات المطالبة بإحقاق العدالة. فإذا لم يكن الليبيون وحدهم قادرين على مكافحة ظاهرة إفلات المسؤولين عن جرائم الحرب من العقاب، فقد آن الأوان للمجتمع الدولي أن ينظر في وضع آليات يمكنها أن تعينهم على ذلك، ربما من خلال المحاكم المشتركة.

ثانياً، بات ما يشكّل السياسة في ليبيا بشكل كبير هو الإقتصاد القائم على السلب.

ففي ظل غياب الأمن لفترات مطولة وغياب مبدأ المساءلة، اخذ اقتصاد الظل في الانتعاش. ومليارات الدولارات تضيع سنوياً عبر تحويلات مالية غير مشروعة.

وزادت الهوة بين سعر الصرف الرسمي للدولار والبالغ 1.4 دينار ليبي وسعره في السوق السوداء الذي وصل إلى 9 دينار الأمر الذي خلق فرصة سانحة لارتفاع نسبة هامش الربح. ويستفيد السماسرة من بيع خطابات الاعتماد والصكوك المصرفية. وشهرياً، تخسر البلاد مئات الملايين من الدولارات جراء تهريب الوقود المدعوم لدول أجنبية. علاوة على إجراءات أخرى كإصدار عقود حكومية بقيم مبالغ بها. الأمر الذي أدى إلى نضوب الاحتياطي المالي لليبيا بشكل سريع.

وليبيا مثال حي على سرعة ظهور أصحاب الملايين وعلى الإيقاع السريع لإفقار الطبقة المتوسطة. والشعب الليبي هو من يدفع الثمن غالياً جراء ذلك. فمن بين كل خمسة شباب ليبيين اثنان عاطلان عن العمل.

والتحدي الثالث، فيما عدا عمليات السلب التي أفقدت البلاد الكثير، مئات الملايين من الدولارات ضاعت جراء سوء إدارة الأصول الليبية المجمدة. فتجميد الأصول أمر، وسوء إدارتها أمر آخر. لذلك، علينا أن نعيد النظر في كيفية إدارة ثروات ليبيا واستثمارها في الخارج للحيلولة دون إهدارها وتضييعها على الأجيال المقبلة.

أصحاب السعادة،
لعل إعادة إطلاق العملية السياسية قد أسهم في إيجاد زخم جديد. ويسرني أن أرى العديد من المحادثات البناءة والسلمية حول مستقبل البلاد. ومما يبرهن على إلتزام الشعب الليبي أنه تصلني وبشكل يومي أفكار ومقترحات جديدة تخص العملية السياسية من مواطنين عاديين حريصين كل الحرص ويتمتعون بالحرية الكاملة للمشاركة في تشكيل مستقبل البلاد

وهؤلاء المواطنون غير مستعدين للتضحية بحقوقهم لمصلحة إحلال الأمن وهم ليسوا في حاجة لفعل ذلك. ففي مجتمع قائم على المؤسسات، لا يجب التفريط بالحقوق ولا بالأمن والأمان.

وبدوري أتعهد ببذل قصارى جهدي لمساعدة الشعب الليبي على حل الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد. وقد بدأت الأمم المتحدة بالفعل في تعزيز تواجدها في ليبيا بشكل كبير.

إسمحوا لي أن أختم بالتقدم بالشكر إلى أعضاء المجلس على التزامهم ودعمهم لجهودنا الرامية إلى حل الأزمة في ليبيا. كما أود أن أشكر شركاءنا في اللجنة الرباعية وهم الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي. فجهودكم المتضافرة أساسية لنجاح خطة العمل وضمان المستقبل الأفضل الذي تتعهد الخطة بتحقيقه لشعب ليبيا.