كان التحشيد رهيبًا للحرب على ليبيا في مارس من العام 2011، دموع شلقم في أحضان رايس، وقرارت دوليّة متسارعة، وتقارير إعلاميّة موجّهة، وحملة التضامن الكبير مع "الجزيرة" وهي تعلن أنّ ليبيا تشوّش عليها البث بجهاز "خلف مستشفى في طرابلس". كان المزاج العالمي حينها مأخوذا بـ"القصف الإعلامي" الكبير الذي يستهدف ليبيا، صور لهواة بهواتف نقّالة ومظاهرات صغيرة في عواصم أوروبيّة تضخّم بعدسات الكاميرا، تكديس مُبهر للمفردات الكبيرة "حقوق الإنسان" "المنظمات الدّولية" "حماية المدنيين" "سحق بنغازي" وخطابات مصاغة ببلاغات جميلة عن الحريّة والدّكتاتوريّة والقمع وعن "الطاغية الذي يقتل شعبه"... وتاهت الحقائق وسط الضّجيج وانفعالات المشاعر الفائرة والمتناقضة وانقسم الجميع إلى خندقين كان الوقوف بينهما ضربا من الهذيان المضحك.

حرب الصورة والمصطلحات المضلّلة:

حين خرجت مدينة بنغازي عن سيطرة الدّولة واقتحم المتظاهرون مراكز الشّرطة ومخافر الأمن وثكنات الجيش ورفعوا السلاح وتحوّلت الاحتجاجات إلى حرب ضد الدّولة ومؤسساتها، تحرّكت القوافل العسكريّة للجيش الليبي نحو الشّرق لاستعادة ثاني كبرى مدن البلاد، وحينها، بعيدًا عن غبار المعارك والدّماء وصراخ الضحايا من الطرفين وارتعاشات الخائفين وهتاف "الثائرين" المضمّخة بالشعارات الكبيرة، وبعيدًا عن خطوط هاتف اللاسكي العسكريّة، ودعاء الأمهات لأبنائها في الساحات، هناك بعيدًا وفي صالونات التحليل الإعلامي المكيّفة، كانت الوجوه المجمّلة بالماكياج والإضاءة والمساحيق البيضاء تناقش مواضيع "أكبر": مفاهيم الدّولة والدّيمقراطيّة والحريّة والثّورة والاستبداد والشّعب والوطن والاستقلال، كانت لعبة المصطلحات حاسمة لأقصى الحدود، الدّولة الليبيّة كُثِّفت واختزلت كلّها في شخص معمّر القذّافي، وقنوات إعلاميّة (بان لاحقا انخراطها في اللعبة الكاملة) تبنت مصطلحات مبتكرة وموجّهة بشكل حاسم. المحتجون المسلحون هم "الثوّار" الذي يحملون القضيّة العادلة، قضيّة التحرّر من الاستبداد والدّكتاتوريّة وبناء ليبيا الدّيمقراطيّة التي قالوا حينها أنها ستتحول بعد رحيل "الطاغية" إلى "سويسرا العرب"، أمّا الجيش الليبي النّظامي فقد أصبح بكل بساطة "كتائب القذّافي" والحامل لكل نماذج الشّرور المدمّرة، فهو الذي يغتصب النّساء ويقصف الشّعب الأعزل بالطائرات ويسرق البيوت ويحرق المزارع. كان "الثوّار" يمثلون الخضرة والرّبيع في سياق "الربيع العربي"، أمّا الجيش الليبي أو "كتائب القذافي" فكانوا الجراد الذي يخلّف الرّماد والسواد والخراب.

كانت التقارير الإعلامية كلّها تكرّر الأشياء نفسها وتردّد التهم نفسها، سمع العالم كلّه عن مرتزقة أفارقة يجلبهم القذّافي لـ"قتال شعبه" ولكن لا أحد أثبت ذلك بالدّليل ولا أحد صوّر مرتزقًا واحدا "يقتل الشّعب الليبي"، كان تعبير "مرتزقة من إفريقيا" حفرا بغيضا في مخيال ثقافي كامل، استدعاء بشع جدًا لمشاهد العنصريّة المترسبة من التاريخ حيث الأفارقة السود ليسوا أكثر من ذوات تباع وتشترى بالمال في قوافل بشرية لتوظّف في المهام الوضيعة التي يتعالى عنها "الرّجل الأبيض" إنّها استدعاء بشع (ربّما واعٍ ومدروس) لثنائية الأسياد والعبيد مشبعةً بالمركزيات المريضة التي تصوّر أفريقيا دوما كهامش يُستعار في صورة العبد الأسود الوضيع. هذه التقارير في النهاية هي التي خلّفت مشهد تعليق جندي ليبي أسود البشرة في بنغازي يدعى هشام شوشان من مدينة العجيلات (غرب البلاد) وتقطيعه وسلخ جلده تحت عدسات الهواتف النقالة ووسائل الإعلام، حيث قالت قناة الجزيرة حينها في نشرة إخبارية لها بصوت نوران سلاّم أنّه "واحد من المرتزقة الذين تمّ القبض عليهم أثناء قيامهم بإطلاق النار على المتظاهرين".

هذه التقارير المُضلّلة نفسها المشحونة بجرعات عنصريّة وتحريضيّة عالية جدا، هي التي خلّفت بعد ذلك (وإلى اليوم) مأساة بشعة أخرى، هي معاناة أهالي تاورغاء وتهجيرهم من مدينتهم بالكامل، وتشريدهم في مختلف مدن البلاد ومنعهم من العودة إلى ديارهم وحصرهم في مخيمات تفتقر لأبسط مقاومات العيش، في حين يقبع المئات منهم اليوم في عراء الصحراء بـ"قرارة القطف" قرب بني وليد، بعد اعتراضهم بقوّة السلاح في الطّريقة نحو منازلهم في المدينة الخاوية منذ 7 سنوات، رغم توقيع اتفاق للعودة رعاه المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني، وباركته الأمم المتحدة.

في هذه الحرب، لم تكن الصورة أيضا بمعزل عن كلّ هذا، فبغض النّظر عن التوظيف الموجّه للمقاطع المصورة من هواة في غالبها (وكثير منها مزوّر)، فإنّ هناك نقطة أخرى حاول المعسكر المنحاز لـ"الثورة" كانت تحرص على رسم صورة "غربية" لـ"الثوّار" فالتقارير الانتقائية ببراعة عن الشباب الذين يلحقون رؤوسهم على الطراز الغربي ويتكلّمون الإنجليزية بطلاقة، كان الأسلوب الأنجع لتشتيت الأنظار عن المقاتلين الجهاديين الذين يحاربون ضد الجّيش الليبي والمنتمين في معظمهم الى جماعات "إرهابية" بتصنيف الغرب نفسه والذين كانوا الأكثر حضورا وتأثيرًا كذلك في الجبهات، كانت تلك التقارير تريد القول أنّ هؤولاء الشباب، والذين كانوا بلا وزن فعليا في المشهد، هم صورة ليبيا الجديدة، وهكذا ستكون بعد القذّافي، وطمأنة الجميع أنّ كلام الدّولة الليبية والعقيد معمّر القذّافي عن إمارات إسلاميّة وجهاديين وقاعدة هي تشويهات وجزء من الحرب المعاكسة على "الثّورة".

الشّحن الدّيني وتوظيف المقدّس في الحرب:

كان كلّ شيءٍ في هذه الحرب مشروعا، من توظيف العنصرية، إلى التقارير الإعلامية المزورة، إلى الإشاعات والتشويهات، ولكن الدّين أيضًا، بما هو المقدّس الأكبر في المجتمع الليبي، وأحد أهم عناصر الوعي، بل وأهمها على الإطلاق، كان عاملا مؤثرا جدا للشّحن والتجييش والحشد والتعبئة، فيوسف القرضاوي الذي ظلّ لسنوات يراكم حول صورته إبهارات "المرجع السني" الأوّل في العالم العربي وخلفه آلة الدّعاية القطريّة والإخوانيّة التي ترسم بدقّة بالغة وبنفس طويل هذه الصّورة المرجعيّة، وبعد نجاحه في اختراق الوعي الجماعي العربي عبر شاشة الجزيرة وتَحوُّله إلى أحد أكبر رجال الدّين وأشدّهم تأثيرا. بدت لحظة الحرب على ليبيا وكأنها الفرصة المناسبة لتوظيف مرابيح هذا الاستثمار الطّويل، فأعلن فتواه الشّهيرة بتحليل دم معمّر القذّافي وتكفيره وإصباغه مسحة من القداسة الدّينيّة على هذه الحرب الأهلية التي خلّفت آلاف القتلى وملايين الدولارات من الخسائر وخرابا سياسيا اقتصاديا واجتماعيا عميقا، تعجز ألف فتوى أخرى من القرضاوي، اليوم، عن تجاوزه أو إنهائه.

علي الصلابي والصادق الغرياني، أعمدة المشروع الإصلاحي في برنامج "ليبيا الغد"، والرموز الدّينية المحليّة التي طالما عملت مع القذّافي ونجله سيف الإسلام، اكتشفت بدورها (وفجأة) أنّه "طاغية" متناسية عن كل إسهاماتها (هي نفسها) في مشروعه لترويض الجهاديين في سجونه ودورهما الكبير في المراجعات التي كانت خاضتها معهم الدّولة والتي خرجت في النهاية في مؤتمر مشهور تحت صورة القذّافي اللذين كانا يسمّيانه بـ"الأخ القائد"، كان لهما أيضًا الإسهام "الدّيني" الكبير في إذكاء نيران الحرب وتوجيهها نحو وجهة واضحة ولو على جماجم آلاف الليبيين وسنوات (وربما عقود) من مستقبلهم ومستقبل أجيالهم القادمة.

لازالت الذّاكرة الجماعيّة الليبية وحتى العربيّة، تحتفظ بأحد أكثر المشاهد كاريكاتوريّة لخطيب في بنغازي في خطبة جمعة وهو يحدّث المصلّين عن حلف الناتو ويمسح عليه هالة من القداسة الدّينيّة حتى أنّه قد أكّد لهم بحماس شديد أنّ الرّسول نفسه (صلّى الله عليه وسلّم) لو عاصر حلف الناتو لتحالف معه.

كان توظيف المقدّس حاسمًا في هذه الحرب وكان اللعب على أوتار حساسة في الوعي الشعبي الليبي والعربي، مؤثرا جدًا، حيث تجنّدت آلات دعائية متكاملة لتثبيت "كفر القذّافي" كحقيقة لا تقبل النقاش، وتكفير أنصاره، ورصِّ المعسكر المقابل بكل الألقاب الدّينية المقدّسة والمبهرة من "شهداء" و"مجاهدين" وخطاب مشبع بالمفردات الدّينية المشحونة بالحساسيّة وصور رجال الدّين والخطباء ومشاهد الصلاة والتقارير حول طقوس شهر رمضان في جبهات القتال، وفتح نقاشات فقهية طويلة حول حكم الصيام للمقاتلين، فتحوّل الأمر إلى ما يشبه حربًا مقدّسة بين الكفّار والمسلمين.

للحرب عناوين أخرى... كثيرة:

لا يمكن لأحدٍ في المقابل، أن يرسم لليبيا في عهد القذّافي صورة الجنّة، أو إخراجها في مشهد المدينة الأفلاطونية الفاضلة، ولا يمكن أبدًا سحب حق الشباب الليبي المشبع بمكتسبات العصر الكوني الجديد وإفرازات العولمة وانهيار الحدود بين الدّول والثقافات، وفي زمن التغيرات الجوهريّة في كلّ المفاهيم القديمة، والتغيّر الكبير في طبيعة المجتمعات البشريّة كلها (وليبيا جزء منها) وفي عصر الاستهلاك والسّرعة والمعاني الخفيفة والحريّة وقيم الفردانية والدّيمقراطيّة، لا يمكن أبدًا سحب حقهم في أن يطالبوا بالحريّة والتنظّم السياسي وحرية الصحافة والتعبير.

فالسياق العالمي كلّه لم يعد يسمح بأشكال قديمة ومتآكلة للأنظمة السياسية العتيقة التي ظلّت متردّدة في تحيين "أنظمة تشغيلها" بما يتماشى مع روح العصر والسياقات الدّولية الجديدة، التي أفرزها سقوط الاتحاد السوفياتي وانتصار المعسكر الغربي الليبرالي بنموذجيه الأوروبي والأمريكي.

لم يكن، الوعي الجديد للشباب الليبي الذي فتح أعينه في عصر الانترنت وأزمنة السرعة والاستهلاك، قابلا فعلا للتعايش مع شكل نظام الحكم في ليبيا، الذي بقي متكلسا حول مفاهيم قديمة جدا في علاقة بتمثله للسلطة وللاقتصاد وطبيعة المجتمع ودور الدّولة، رغم المحاولة المتأخّرة التي برزت في منتصف العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين تحت عنوان "مشروع ليبيا الغد" والتي انخرط فيها الجميع بمن فيهم قادة "الثورة" أنفسهم.

وبين الأسباب الدّاخلية للحرب وبين الأسباب الخارجيّة، وتنوّع القراءات بين الطّرفين، وفي غياب تام لأي اجتماع حول "نسبية الحقيقة" وضرورة إعادة تحليل الأشياء بعقلانية وموضوعية وبتعالٍ كبير عن الذّاتي والشّخصي والفئوي، تبقى حقيقة التضليل الكبير الذي رافق هذه الحرب من أهم المباحث التي سيكون على المؤرخين كشفها والبحث والتنقيب فيها مستقبلا.

في النهاية، لو كان يُمكن إختزال مشروع الفيلسوف الألماني كارل ماركس كلّه في شيئين فهو أنّ تاريخ العالم كلّه هو تاريخ الصراع والعنف، وأنّ من أراد أن يحلّل أي شيء فعليه دوما أن ينظر الى العامل الاقتصادي (نمط وعلاقات الإنتاج)، والحرب على ليبيا نفسها، لم تشذّ أبدا عن هذه القاعدة: قاعدة الصراع العنف وقاعدة الاقتصاد... وذلك موضوع آخر.