مر علينا اليوم العالمي لحقوق الطفل في العشرين مروراً عابراً. لأن الحرب الدائرة هنا – أعني في ليبيا – مازالت تفرض جنوناً يتعاظم وينتشر بقوة، إلى الحد الذي بات فيه من المتعذّر التكهّن متى ستنتهي الحرب، وما ستضيفه من كوارث، سوف لن تقتصر على القتل وتخريب العمران وخلق الأزمات المعيشية، بل ستعمل على المزيد من الهدم للنفس البشرية من الداخل، لتخلّف اضطرابات سلوكية وتشوهات أخلاقية تصعب معالجتها في زمن قصير. ولاسيما حين يتعلق الأمر بالأطفال كضحايا.

لكن كيف سنقرأ هذا الصنف من العنف المركّب، حين يكون الأطفال هدفاً مبرمجاً يدخل ضمن أجندات تحويلهم إلى مستوعب متفجرات وأحزمة ناسفة. حين ينقلب البشر أنفسهم على آدميتهم ويخونون قيمهم، ليمسوا مشتلاً خصباً للشذوذ والتطرف ومن ثم التغول، الذي يستمدّ قوته من استخدام مقولات ظلامية اجتثت من ماض سحيق، فضلاً عن امتلاك السلاح والاستحواذ على السلطة ومقدرات الناس، والتدخل في عباداتهم وتعليمهم، وممارسة الوصاية على سلوكهم وعاداتهم الاجتماعية. وهكذا ستتفشى ظواهر العنف تبعاً للغلبة، وردات الفعل من العنف المضاد للمغلوبين. متوالية تتفاقم وتيرة جنونها في كرّ وفر، وغالب ومغلوب.    

في هكذا معقلٍ للتوحش، ستظلّ الطفولة وحدها كفئة هشة، الأكثر عرضةً لمثالب العنف ولا سيما على المستوى النفسي والتربوي. عندها لا مناص من الاعتراف بمقولة المفكر هوبز "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان".

وهذا ما حدث ويحدث في ليبيا،  مشاهد التفسخ، تلك التي تجبر جزءاً من أطفالنا، أن يتخلوا عن طفولتهم، ليتحولوا إلى كائنات مخيفة بهيئة فرانكشتاين بريء، يتجول وسط مخلّفات ربيع خائب.

في رواية (الدفتر الكبير) للكاتبة الفرنسية – من أصل مجري – أغوتا كريستوف، يتحول الأطفال تحت ضغوط الحرب إلى قتلة. حيث لن يتورع طفلان توأم، لم يبلغا سن المراهقة بعد، عن ارتكاب أبشع الجرائم، ليمسيا محض وحشين صغيرين. لأن أول شيء يمكن للحرب أن تفعله، هو انتهاكها للبراءة، لحظة أن تعيد تدوير العنف كنوع من أنواع اللعب. فبعد سلسلة من الوقائع المروّعة. في النهاية سيقتل الطفلين والدهما، ليتخذ أحدهما من جسد الأب الميت، جسر عبور يتقي من خلاله الأسلاك الشائكة المكهربة، حتى يفلت بجلده وهو يتسلق هاربا إلى الضفة الأخرى، كمنطقة حدودية آمنة.

داخل هذه الفنتازيا الكابوسية، التي صاغتها مخيلة الكاتبة أغوتا كريستوف، تتجسد ويلات الحرب بصورة أكثر عنفاً وقسوة ووحشية، عندما يقترح السرد ترجمة فظاعة الحرب وفوضاها مجسدة في تحويل البراءة نفسها، إلى وحش كاسر، من ضحية إلى جاني. حيث تمتسخ الطفولة إلى أداة جريمة، وآلة مروعة من آلات العنف. والتي لم تكن في البدء غير فسحة لممارسة اللعب، لعب بريء يتخلق كمحاكاة لمشاهد العنف.

أنه لشيء أكبر من أن يحتمله ضمير الإنسانية. ولكن هذه الوقائع المريعة والصادمة كانت وما تزال، تمثل مشهداً طبيعياً هنا (أعني في ليبيا)، ضمن الظواهر التي تسفر عنها منتجات الاقتتال، وهستيريا الفوضى.

لاسيما وأن المسلحين قد شكلوا ملمحاً يومياً، غزا مراكز معظم مدننا الكبيرة، ومفاصل أحيائها وضواحيها. ساعتها، وبقدر ما انتشرت الألعاب الصينية التي تحاكي مستعملات الحروب من بنادق ومسدسات وسكاكين وسيوف بلاستيكية، ومفرقعات نارية، بوفرة غريبة اجتاحت الأسواق، لكن الأطفال لم يكتفوا بذلك وحسب، بل استجابوا لابتكارات مخيلتهم، في صناعة ألعابهم من مخلفات الاشتباكات في الشوارع، كالظرف الفارغ، أو معالجة تلك الأدوات التي يمكن إعادة تصميمها بعد نزعها من عربات عسكرية مدمرة ومحترقة، تركت لأيام في الساحات والأماكن العامة.   

الآن، وبعد انقضاء قرابة خمس سنوات من عمر الفوضى والحرب المفتوحة. أين يقف أطفال ليبيا الذين كبروا وتربّوا داخل هذا الأتون.

فلا ريب أن تأثير مشاهد العنف كان ضارياً عليهم، و فادحاً إلى أبعد حدّ. ولعلّهم بقدر ما كانوا ضحايا لا ذنب لهم سوى وجودهم في بيئة تواطأ حملةُ السلاح فيها مع غواية العنف، إلاّ أن الأمر الصادم، والأكثر فاجعة أن بعضهم أي (الأطفال) قد تحولوا خلال هذا الحيز المخيف من زمن الحرب إلى مجرمين، من فئة اللصوص والقتلة وتجار المخدرات، وأيضاً إلى أدوات عنف من صنف شاذ، بعد أن نجحت آلة التطرف في استدراج بعضهم إلى صفوفها، واستخدامهم كعبوات ناسفة، وأجسام مفخخة، حيث لا يقتضي الأمر سوى العمل على تجفيف عقول الناشئة من الصبيان الذين لم يجتز معظمهم سن الخامسة عشرة، واصطيادهم من أروقة المساجد والزوايا وخلوات تحفيظ القرآن.

وهكذا نخلص إلى أن تداعيات العنف في المشهد الليبي، تجاوزت في خريف 2016، كل ما يمكن للعقل تصديقه. لأن مظاهر الظلم، وانتهاك حقوق الطفل قد تعددت وتنوعت، لتدخل في متاهات غامضة لا حصر لها.

ففضلاً عن تيتم العديد من الأطفال الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم، عن الذين تشردوا وأمسوا بلا مأوى كنازحين داخل وطنهم، عن حرمان أبناء النازحين وغير النازحين من حقوق التعليم بعد أن تحولت المدارس في بعض المناطق إلى مخيمات إيواء، وثكنات للمسلحين، عن فقدانهم للرعاية الصحية والترفيه. عن شلل الدولة وعجزها التام لإيجاد أية برامج أو مقترحات تستهدف معالجة مشاكلهم، وتأمين الحدّ الأدنى من حقوقهم.

فوق هذا كله يتعرض الأطفال في مناطق الغرب الليبي ومنذ ثلاث سنوات إلى عمليات الخطف، كرهائن، تقوم بها عصابات مجرمة تساوم أهاليهم لدفع مبالغ طائلة كفدية. وحين يعجز ذووهم عن الدفع يتم قتلهم ورميهم في الخلاء ومكبات القمامة.

عبر هذه الوقائع وغيرها، وصلت بشاعة الجرائم التي ترتكب في حق الطفل الليبي حداً لا يطاق، وأنه لا الدولة، ولا المجتمع بكل فئاته وتنظيماته الأهلية، كان في مقدورهم إنقاذ أطفالهم من أتون هذه الفوضى.

تشير آخر التقارير الصادرة عن منظمة حقوق الطفل لسنة 2016، بأن ليبيا تأتي في المرتبة 82 في تصنيف شمل 163 دولة. وبالنظر لهذا الغبن، لجأ أطفال ليبيا أنفسهم في نهاية المطاف، إلى تشكيل برلمانهم الخاص بهم، فقط كرسالة أرادوا من خلالها الإشارة إلى تقاعس الكبار وعجزهم.