يبقى علم النفس من العلوم المرتبطة بكل مجالات الحياة،  وله سطوته وقدرته على تحليل الظواهر، وربطها للوصول إلى حلول المشاكل التي تطرأ، وللوقوف عند بعض القضايا والموضوعات المرتبطة بالحالة الليبية اليوم نستضيف أستاذ جامعي تخصص في مجال علم النفس، وتولى عدة مسؤوليات وتقلد بعض المهام، من بينها أمينا مساعدا لجامعة التحدي "سرت" ثم مستشارا ثقافيا في المكتب الشعبي الليبي "السفارة" في لندن، حتى اندلاع أحداث فبراير سنة 2011 حيث تم طرده من قبل السلطات البريطانية ضمن مجموعة من الدبلوماسيين ومن هذه الحادثة نبدأ الحوار مع الدكتور سعد مناع الذي قال:

في مثل هذه الأيام من سنة 2011 كانت "المؤامرة" في أوج قوتها، وكانت لندن مطبخ الأحداث ودائرة تخطيطها الأولى، ومنها بدأت معركة إسقاط الدبلوماسية الليبية في الخارج، حيث مورست ضغوط غير مسبوقة على الدبلوماسيين الليبيين بين الترغيب والترهيب، وأنا لم أكن دبلوماسي سياسي، بل كنت أستاذ جامعي مكلف بملف الطلبة الليبيين في الساحة البريطانية، كمستشار ثقافي، وكان عدد الطلبة الليبيين الدارسين على حساب المجتمع في الساحة البريطانية وحدها يتجاوز 5000 طالب وطالبة يدرسون في أكثر من 100 تخصص، وهم من كل مناطق ومدن ليبيا.

ولأهمية الساحة البريطانية عملت، "الماكينة الإعلامية" على تحشيد الطلبة ومجموعات أخرى وصناعة تجمعات أمام المكتب الشعبي الليبي، لوضع العاملين تحت ضغط، إلى جانب تقديم الإغراءات من جانب آخر،  فأذكر أنه قبل المغادرة والرجوع إلى الوطن، عرض علي أن أعلن الانشقاق مقابل البقاء في موقعي، على أن تبقى الأموال المرصودة في حساب المركز الثقافي تحت تصرفي الشخصي، والتي كانت تقدر بعشرات الملايين من الدولارات، ولكننا رفضنا واخترنا ان نكون في صف الوطن، ومن المؤكد أن مثل هذه العروض والضغوطات مورست على المكاتب الشعبية في مختلف العواصم.

واذكر جيدا كيف كانت الدولة تولي الطلبة الدارسين بالخارج اهتمام كبير ورعاية خاصة، ليس من حيث الصرف المالي الضخم فقط بل في الدفاع عن حقوقهم والمحافظة على مكانتهم، فأذكر انه في إحدى الفترات اتخذت السلطات البريطانية بعض الإجراءات التي ترتب عليها معاملة الطلبة الليبيين بشكل غير مناسب في المطارات قمنا باستدعاء السفير البريطاني ومعه فريق من الخارجية الإنجليزية ووقفوا على الموضوع وتم حله في الحال، واليوم  يعلم الجميع كيف يعامل الليبي في كل دول العالم.

وأضاف مناع أنه خلال الأيام الأخيرة من شهر مارس ازدادت الضغوطات وكثرت الاتصالات والتي تطالب بالانشقاق، وتقديم عروض وتضمينها بتهديدات، وبعد عقد اجتماع ما يسمى مجموعة الاتصال من أجل ليبيا، واستصدروا مذكرة وقع عليها عدد من الطلبة الذين كانوا يدرسون على حسابهم الخاص، وتضمنت المذكرة أسماء خمس دبلوماسيين ممن رفضوا الانشقاق وتم تصنيفهم بانهم يمثلون خطر على الأمن في بريطانيا، وطلب منا المغادرة في غضون أربعة أيام.

ونحن نستذكر اليوم هذه الحادثة، والوضع الذي تعيشه ليبيا، ونراجع عدد الطلبة وتخصصاتهم، والمدن والمناطق التي ينتمون لها والمنتشرة على كامل خريطة ليبيا، نكتشف سر الفراغ الذي يسود معظم المواقع في البلاد، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة،  هو لماذا لم يعد الطلبة الذين اكملوا دراستهم سواء في الماجستير او الدكتوراه، خاصة في المدن المستقرة امنياً.

ليبيا اليوم واكثر من أي وقت تحتاج للكوادر المتخصصة لان العديد من المشاكل البيئية والصحية التي اختفت منذ مايزيد عن أربعة عقود اضبحت تعود من جديد، وهذا يستوجب مشاركة الجميع في علاجها وحلها، لماذا لا يتجه الأطباء والمختصين إلى مستشفيات بنغازي والبيضاء وطبرق والمدن الأخرى الآمنة.

ان هذا الفراغ يؤكد ان المؤامرة حققت أهدافها لانها مزقت النسيج الاجتماعي، وهدمت الجامعات والمكتبات والمعامل، واحرقت المطارات، ودمرت المدن، وجرفت الأراضي الزراعية، وافقدتنا قدراتنا العلمية.

وعن انتشار ظاهرة الانتحار تحدث مناع الذي يحمل الإجازة الدقيقة "الدكتوراه" في مجال علم النفس، أكد أنه وفق المعدلات التي تتناقلها وسائل الإعلام إن صحت واقعياً فأن ليبيا اليوم دخلت الدائرة الحمراء وفق معدلات منظمة الصحة العالمية، وهذا يعني إننا أمام كارثة حقيقة، وأن كان متوقع حدوثها، نظرا لغياب الرعاية، وللانتحار أسباب عديدة، جلها موجود في ليبيا،  حيث السوق الليبية تعج بالممنوعات والأسلحة، ومشاهد القتل والتنكيل، والمجازر، وتدمير عائلات  وغيرها وكل هذه المعطيات  تعد أسباب طبيعية لاستشراء ظواهر من بينها الانتحار، هذا إضافة لعدم استبعاد ان تكون العملية مصطنعة لإن التجارب تؤكد أن منظومات دولية كبيرة قامت بشكل ممنهج باستغلال مناطق الفوضى والحروب لإجراء تجارب، بيولوجية، واشعاعية وكيميائية وغيرها على مجتمعات كاملة، والشواهد على ذلك كثيرة، ونحن اليوم في بلد بلا سلطة مسؤولة لان حدوث مثل هذه الظاهرة يستوجب الوقوف عنده والبحث عن أسبابه بشكل علمي دقيق.

ومن هنا أناشد أساتذة علم النفس في الجامعات الليبية والاخصائيين النفسيين والاجتماعيين وغيرهم بالعمل على دراسة هذه الحالات وتتبع تاريخها للوقوف على الأسباب والدوافع التي أدت على هذه النتيجة الكارثية.

المجتمع الليبي تعرض لكارثة لم تكن في حسبان حتى من خطط لها،  لأن ليبيا انتهت كدولة بفعل التدخل الخارجي العسكري المباشر، والآن تنهار كبناء مجتمعي، للأسف قيمنا الاجتماعية وبناءنا المجتمعي مقبل على الانهيار وفقا لهذه المعطيات، نحن اليوم تحت وطأت الإرهاب والتقاتل الداخلي والخارجي، والاتجار بالبشر والانتحار، فكيف ستكون النتيجة بعد كل هذه المعطيات؟.

لايمكن الصمت على ما يجري، لأن الصمت اليوم يعتبر مشاركة في الجريمة، ومن هنا أنادي ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني، والمنظمات المحلية والدولية وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية للقيام بدورها وتحمل مسؤولياتها، بعيدا عن السياسة يجب على المختصين في مجالات علم النفس والطبيات والحقوق وغيرها ان ينفروا خفافا وثقالا لإنقاذ ما تبقى من مجتمعنا، لإن القادم للأسف أسوء.