في إحدى نهايات شارع النهضة، تعيش ثلاث عائلات مع أطفال صغار في بيت ريفي تتخلل سقفه قذائف غير منفجرة.  وفي الطرف الآخر، قضى رجل عجوز ثلاثة أسابيع وهو يكتفي بتناول شبه وجبة يوميا. إنه على حافة التسول.

وفي ما بينهما يمتد مشهد لمنازل ممحية، وسيارات متفحمة، و مخلفات أخرى للحرب. في الصباح الأخير، كان محمود عميش يتلمس طريقه بين أنقاض منزل ابنه، بحثا عن الحطب. لقد انهار السقف. وتعرضت الأبواب الأمامية للكسر والتحطيم على شاكلة حياة السكان.

"عائلتي كلها ولدت في هذا الشارع"، يقول عميش، والدموع تغمر عينيه.

الميليشيات الليبية، بمساعدة من القوات الخاصة الامريكية والغارات الجوية، أخرجت متطرفي داعش من معقلهم في مدينة سرت في ديسمبر 2016، وأنهت حكمهم الوحشي وتطلعاتهم لمعقل بديل في شمال أفريقيا. وبعد عام، ما تزال هذه المدينة الساحلية مترامية الأطراف تعاني من ندوب مادية ونفسية عميقة.

أحياء بأكملها تعرضت للتسوية بسطح الأرض. ولا يزال يتعين على آلاف الأسر العودة. العديد من الذين عادوا يعيشون في مبان نصف المدمرة. أما المدارس والمستشفيات فتعمل بصورة جزئية، وكذلك الأعمال التجارية.  الشوارع تكسوها القمامة. والرائحة تزكم الأنوف بسبب المجاري التي لا تعمل.

ومازالت الهياكل العظمية تتعفن بملابسها تحت الحطام، مما يطرح مخاوف انتشار الأمراض . ولا يزال الموت يكمن في الألغام الأرضية غير المكتشفة بين الحطام.

قال صلاح محمد سائق سيارة أجرة يعيش في طابق علوي مباشرة تحت قنبلة: "كل ما كان يهمهم هو تحرير سرت ، لكنهم لم يكونوا يهتمون بالتداعيات".

وعلى الرغم من أنه لم يعد يسيطر على أراض مهمة في ليبيا، فإن تنظيم داعش شن تفجيرات انتحارية وهاجم نقاط التفتيش موالية للحكومة هذا العام. ويقول مسؤولون من المخابرات الأمريكية والليبية إن التنظيم، يبحث عن توطيد نفسه في مناطق جنوب سرت.

إن طموحات داعش في ليبيا سوف تُشكِّل مسار البلاد على مر السنين والسنوات المقبلة، خاصة وأن التنظيم يبحث عن ملاذات بديلة في أعقاب هزائمه الأخيرة في سوريا والعراق. والعوامل التي ساعدت على قيامه سابقا في ليبيا ، ما تزال قائمة: انعدام الأمن، وضعف الحكومة، والتوترات القبلية، ووفرة الأسلحة والجماعات المسلحة المتنافسة.

ما يعمق الاستياء في سرت هو الاقتصاد المتدهور وارتفاع الأسعار. فالحكومة الهشة المدعومة من الأمم المتحدة، وهي واحدة من ثلاث تتنافسن على النفوذ في البلاد، تعاني حتى لدفع رواتب موظفيها. ويقول في هذا الصدد ، مصطفى علي، وهو عامل إغاثة محلي تم تدمير منزله: "لقد تم نسياننا".

وهناك أيضا شعور بأن الإهمال يجد تفسيرا في ماضي المدينة. فسرت هي مسقط رأس العقيد الراحل معمر القذافي، والعديد من القبائل المحلية كانت تواليه بقوة. ويقول سكان ومسؤولون محليون إن هذا الماضي من أسباب تهميش سكان المدينة.

الميليشيات التي تسيطر على سرت هي من مصراتة، التي كانت من بين أول من ثار ضد القذافي في انتفاضات الربيع العربي 2011. ولا تزال هذه الميليشيات مريبة، متهمة الكثيرين هنا بالتعاون مع متطرفي داعش.

ويوضح علي: "إنهم يعتقدون أن سكان سرت أرادوا بقاء داعش".

قبل ست سنوات، دمر منزل عميش لأول مرة.

في شتاء عام 2011، لجأ القذافي إلى سرت من طرابلس. اندلعت معارك عنيفة بين أنصاره والمتمردين وأغلبهم من مصراته. قتل القذافي وابنه، وأخذت جثثهما إلى مصراتة، على بعد 150 ميلا إلى الغرب من هنا.

وبحلول ذلك الوقت، فر عميش إلى مصراتة مع زوجته وأسرته الكبيرة. وعندما عادوا، كان منزله قد أُحرق عن آخره.

كان يملك متجر مجوهرات، من بين أعمال أخرى. وعلى مدى السنوات الثلاث التالية، أعاد بناء المنزل.

ظهر فرع داعش بعد الثورة، مستغلا فراغ السلطة ليصبح الفرع الأكثر نشاطا في المجموعة خارج الشرق الأوسط.  في حين أن صلات المدينة بالقذافي جعلت منها هدفا رمزيا، إلا أنها كانت أيضا مركزا استراتيجيا: فسرت تقع في الهلال النفطي، موطن كثير من احتياطيات ليبيا النفطية والغازية الضخمة.

وبدعم من نشطاء إسلاميين محليين وقبائل موالية للقذافي الذين شعروا بالحرمان من الحرية، تمكنت "الدولة الإسلامية" من السيطرة على سرت بحلول صيف عام 2015.

وقد أجبر التنظيم الرجال على عدم حلاقة الوجه ، والنساء على ارتداء العباءات السوداء من الرأس إلى أخمص القدمين.

كما حظروا السجائر والكحول.  وفرضت "شرطتهم الدينية" إملاءات جديدة.

ذات يوم ،  ألقى عناصر التنظيم القبض على عميش خارج المسجد في وقت الصلاة. وذكر أنهم احتجزوه في غرفة لبضع ساعات قبل إطلاق سراحه بإنذار. وقال له أحد المسلحين: "سوف يتم إعدامك في ساحة الزعفران في المرة القادمة"، في إشارة إلى دوار كان داعش يعدم الناس فيه ويجبر الجمهور على متابعة أطوار الإعدامات.

بعد ذلك، تم احتجاز أحد أبناء عميش في ربيع عام 2016. وطلب من التنظيم الانضمام إلى صفوفهم. واتصل عميش بشيوخ قبائل نافذين تمكنوا من إطلاق سراحه.

وقال عميش، الذي أخذ عائلته مرة أخرى إلى مصراتة: "قررت المغادرة مع أسرتي بسرعة".

وبعد فترة وجيزة من إخراج داعش  بدعم من القوة الجوية الامريكية ، قام عميش بتشغيل التلفزيون لمشاهدة الاخبار.  كان هناك تقرير يظهر دمارا كبيرا في شارع النهضة.

قال إنه رأى منزله.. وبدأ يبكي.

وفي دوار الزعفران، أقيم نصب تذكاري لإحياء ذكرى ضحايا داعش. وقد تم الآن إغلاق المحكمة الإسلامية، حيث كان قضاة داعش يسجنون "المتهمين" في القبو أسفل المبنى. هكذا هي الحسبة، مكتب الشرطة الدينية.

وقال صلاح خليفة (21 عاما) وهو ينفخ على سيجارة "يمكننا التدخين بحرية". "ويمكنك الصلاة كما تريد. لا أحد يجبرك على المسجد ".

في مكان قريب، تم طلاء الشارات السوداء الكبيرة التي كان داعش يستخدمها على واجهات المحلات لجباية الضرائب.  ولكن تحت السطح، ما تزال التوترات قائمة.

لا توجد قوة شرطة تعمل بشكل كامل، لا جيش، لا محاكم، لا خدمات جمع القمامة.  يقيم الآن في مبنى الحسبة ميليشيا من مصراتة، ممجدة بكتابات على الجدران

وقال إبراهيم أحمد هيبلو، أحد كبار مسؤولي بلدية سرت: "أعطونا المال، ونحن قادرون على رعاية مدينتنا".

ويقول قادة المجتمع المحلي ومسؤولون محليون إن بعض الجماعات المسلحة في مصراتة اختطفت أشخاصا للحصول على فدى. وقد ارتكب آخرون سرقة أو ضربوا السكان. لم تنس القيادة القبلية في سرت أن المصراتيين ما زالوا يحتجزون سجناء من المدينة اعتقلوا في عام 2011 بسبب ولائهم للقذافي.

وقال عمران مفتاح، وهو أحد كبار القبائل المؤثرين، إن المدينة ليس لها أي ممثل في حكومة طرابلس، ولا يزال سكان سرت يُحرَمون من وظائف حكومية.

وأضاف "لهذا السبب هم لا يفهمون احتياجات سرت"، في إشارة إلى الحكومة والمجتمع الدولي.

وقال المتحدث باسم مجموعة ميليشيات مصراتة إنه لا يثق تماما بالسكان المحليين لكنه نفى أي توترات. وقال: "سكان سرت يعرفون أننا هنا لحمايتهم وليس للسيطرة عليهم".

المتحدث محمد القصري ، الذي يتحدث أيضا باسم وزارة الدفاع للحكومة في طرابلس حذر من، "أن الدولة الإسلامية لا تعتبر أنها خسرت سرت. إنهم لا يزالون يعتقدون أنهم يستطيعون العودة ".

وأضاف القصري أنه لا يزال جنود للقوات الخاصة الأمريكية في مصراتة، متمركزين في المطار. ويتمثل دورهم في المقام الأول في استهداف معسكرات التدريب التابعة لتنظيم داعش من خلال ضربات جوية.

وفي أغسطس، قال إن المسلحين أوقفوا قافلة ونهبوا 40 ألف لتر من الوقود. وهذا يشير إلى أن المسلحين لديهم قوة تنظيمية . وفي أكتوبر، تبنى التنظيم التفجير الانتحاري المزدوج الذي أسفر عن مقتل وجرح 10 في مجمع المحكمة في مصراتة.

وأضاف : "إنهم يرسلون لنا رسالة مفادها أننا ما زلنا موجودين".

في شارع النهضة، سكان البلدة لديهم مشاكل أكبر بكثير من مجرد وجود قنبلة لم تنفجر في سطح منازلهم.

خليفة أحد سكان سرت، أصيب ابنه بشظية كانت على الأرض فأصابته بجرح تسبب في عدوى، كادت تفقده قدمه. وقال آباء آخرون إن أطفالهم يعانون بشكل متزايد من طفح جلدي. في أحد الأيام ، وجد أطفال هياكل عظمية لمقاتلي داعش بين الأنقاض - وبدأوا يلهون بها.

صلاح محمد، سائق سيارة الأجرة الذي يعيش في الطابق العلوي. يؤكد : "علينا أن ننتبه باستمرار لأبنائنا ، هناك أمراض وقنابل غير منفجرة وجثث في كل مكان".

تعرض أكثر من ألفي منزل هنا وفي الجوار للتدمير، وفقا لما ذكره مسؤولون بالبلدية. وقال السكان إنه لم يحصلوا سوى على القليل من المساعدة من الأمم المتحدة والجمعيات الخيرية الدولية.

في الليل، يحاول محمد عدم التفكير في القنبلة.

ويقول:  "في كل مرة يمكن أن تنفجر" ، مضيفا: "لكننا لا نستطيع أن نعيش في أي مكان آخر".

على الطرف الآخر من الشارع الذي يمتد على مسافة ميل، يبدو محمد عمران ضائعا. في الستينيات من عمره، نفدت كل أمواله. مع ارتفاع حاد في الأسعار، قال إنه لا يمكن أن يأكل أكثر من وجبة يوميا.

"من سيساعدني؟" وهو يناشد أحد الزوار، "جيراني مثلي أيضا. إنهم متضررون. الشيء الوحيد المتبقي لي هو التسول في الشارع ".

في ملعب كرة القدم بعيدا، عميش يقف فوق حطام منزله. إنه يستأجر ثلاثة منازل أخرى في جيب آخر لأسرته الكبيرة. ولكنهم لا يستطيعون تحمل غاز البروبان لطهي الطعام. و الآن، كان يجمع خشب أَسِرَّة محطمة..وهو يقول: "أحيانا أجيء كل يوم، وأحيانا من يوم لآخر .. ذلك يذكرني بالأيام الخوالي. أظل هنا حتى ينفطر قلبي، ثم أغادر ".

 

*بوابة افريقيا الإخبارية غير مسؤولة عن مضامين الأخبار والتقارير والمقالات المترجمة